13 محرم 1429 - 22/01/2008
الانفتاح أمام واقعة الطف بفضاءات متنوعة كشفت الكثير من العلامات التي تكتنزها كمهيمن كبير يستوعب جميع الرؤى على اختلافها من خلال معطيات متنوعة عكستها الواقعة التي تميزت بأحداث كثيرة، ثمة رؤى مضيئة، أعطتنا القابلية لكشف مضامين فلسفة الطف ومحور وجودها.
يقول الإمام الحسين (ع): (كأن بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء) فهذه العبارة تأخذنا لنتأمل في حقيقة الواقعة، تنظر الاجيال الى مفهومها بقول الحسين (ع): (من كان باذلا فينا مهجته موطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا) .
تأخذنا آلية الرؤية النقدية الحديثة باتجاه البؤر القصدية التي تنظر الى قوله (ع): (خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة) فنجد ان هناك مساحات استثمار لفلسفة الموت، الذي يشكل قاعدة تضحوية... حين دعاهم الحسين الى الموت كانت هي دعوة الى الحياة، نحن نجد إن الحسين لم يوعدهم بشيء من خصائص الدنيا، وإنما كان الوعد الى التضحية، فليس على ذمته شيء إن قـُتل. لقد وجد الحسين) عليه السلام) إن بني اُمية تمكّنوا من ترويض إرادة الناس وتطويعهم بعامل الإرهاب والترغيب وسلب إرادتهم.
وفي هذا الجوّ حاول بنو اُمية أن يستعيدوا قيم الجاهلية في المجتمع الإسلامي الجديد، دون أن يجدوا مقاومة تـُذكر من ناحية الاُمة، فكان لا بدّ من هزّة قوية لنفوس الناس، تعيد إليهم إرادتهم السليبة، ولا تتم هذه الهزّة القوية إلا بتضحية مأساوية فريدة في التاريخ، فأعدّ الحسين (عليه السلام) أهل بيته و أصحابه لمثل هذا المشهد المأساوي، وانطلاقا من هذا الفهم، هي الصفة المميّزة لحادث الطف من الأحداث الاُخرى في التاريخ .ولا يمكن تجريد عاشوراء من صفته التضحوية فتصبح ثورة غير متكافئة أي صح التوقع فيها من قبل الناصحين بعدم الخروج الى العراق، واغلب الناس من طبيعتهم يجزعون من الموت ولهذا يحاولون الهرب منه متشفعين بأعذار شتى، ومنهم من يتحدى الموت ايمانا بما يقدمه للحياة، لتخليصها من جور الطغاة وعنف المستبدين من اجل توفير حياة حرة كريمة للاخرين كي لايعيشوا العبودية.
إن أمة تمتلك مثل هذه الارادة لايمكن تذليلها ابدا، لكونهم لايعلقون بالدنيا آمالا كبيرة ولايتمتعون بها لاهين، فهم قد اعدوا الحياة اعدادا طيبا لآخرتهم، ومن دون هذا الاعداد لايمكن قبول الموت كفكرة حتى لوكانت تضحوية. وقد وضع القرآن يده على هذه النقطة بالذات عندما قال الله تعالى: (فتمنوا الموت ان كنتم صادقين) يقول الامام الصادق عليه السلام: (من أحب الدنيا ذل) وسأل أحدهم أبا ذر لماذا نكره الموت ؟ فأجابه:( لأنكم عمّرتم الدنيا وخرّبتم الآخرة فتكرهون الانتقال من العمران الى الخراب) وتبقى التضحوية موقفا يحتاج الى الوعي والشجاعة، وقيمة الطف الحقيقية انها حولت الرفض من مجرد كلام الى موقف عملي مسؤول.
أي جسّدت الرأي الى انتماء، وتحت هذا المفهوم يصبح الرفض دون سعي رضوخ لكونه لايؤثر ولا يستطيع دون العمل لتغيير الواقع، ولايحمل صاحبه مسؤولية الفعل الثوري الذي يحتاج بالتأكيد الى عمل تضحوي، الى ضريبة موقف، لأن الصراع اساسا لايحتمل اللاموقف، لكونه سيتسم بالضعف فيتحول الى موقف مضاد، وهذا يعني ان الجزع من الموت يؤدي الى التخاذل فساحة الصراع ستصنف العاجزين عن الثورة من ضمن الخط السلطوي وإن خالفوه.
فالرأي عقل، والعاطفة قلب، والموقف ارادة، وهي ظاهرة انفلاق الشخصية ومنها يولد الانشطار، فاذا تخالف فـُقد الانسجام في الشخصية وتضارب الظاهر مع الباطن، فالانسان الذي أكسبه الاسلام قوة، كيف ينقلب ضد الاسلام نفسه؟ ويذبح أبناء الرسول (ص) بدل ان يقاتل اعداء الدين؟ قال الحسين: (سللتم علينا سيفا لنا في أيمانكم) فتشخيص الفرزدق (قلوبهم معك وسيوفهم عليك) كان دقيقا، ويعني تحولهم من الموقف الى اللاموقف، الى مصادرة الرأي بعد التنميق، حيث ينقلب الحب الى بغض والبغض الى حب، فيحمل السيف ليقاتل دفاعا عن الطاغوت ويسلب الله عنه التسليم والتصديق والرأي، وهذه هي الردة الكاملة.
إذ ينسجم العقل، القلب، الارادة، باتجاه سلبي بدل الاتجاه الايجابي الذي يسبب الاطمئنان والتكامل السليم، لان المسعى الطاغوتي يسعى دائما الى ارباك هذه البؤر من خلال الترهيب والترغيب، لتسقط اول قلعة من قلاع الايمان وهي الارادة، فيفقد الانسجام النفسي ويعاني من القلق وتبدأ مرحلة الضعف، ويعمل الضمير في استعادة التوازن، فاذا نجح عاد الانسجام كما حصل للحر بن يزيد الرياحي، وإلا فسيفشل الانسجام كما حصل لعمر بن سعد، ثم يتجه الانسجام الى التكامل باتجاه السلب فيحتل الطاغوت المعاقل الثلاثة ويعجز الضمير عن المقاومة وتنقطع الرحمة الالهية عن الانسان لتصل حالة الكفر أو تحتها الى حالة النفاق وتمكر بالحق.
وثمة ظواهر كثيرة للجزع من الموت أهمها سلب القدرة على المقاومة من خلال فقدان الوعي... فرعون لم يستطع تطويع الناس لسلطانه دون ان يسلب قيمهم ،اخلاقهم، إرادتهم، وضمائرهم عن طريق الترهيب، فلابد للمؤمن ان يتمتع بقصر الامل في الحياة الدنيا، وتركيز الشوق الى الله تعالى، أي فك الاصر والاغلال فلم يعد يرهبه الموت ولم يعبأ به، وقع الموت عليه أم وقع هو على الموت حسب تعبير علي الأكبر (عليه السلام): (لا نبالي مادمنا نموت محقّين) وتركيز الشوق إلى لقاء الله من خلال الموت نافذة إلى لقائه، وعن رسول الله(ص) لابن مسعود: (قصِّر أملك... واعزم على لقاء الله.
فإن الله يحبّ لقاء مَن يحبّ لقاءه، ويكره لقاء من يكره لقاءه)وقد بيّن الرسول الكريم (ص) دخول النور الى الصدر بالاستعداد الدائم للموت قبل نزوله، عن علي (عليه السلام): "شوّقوا أنفسكم إلى نعيم الجنة تحبّوا الموت وتمقتوا الحياة" فحين أذن الحسين لصحبه:)انطلقوا في حلِّ ليس عليكم منّي ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا) فأجابوه سائلين: لِمَ نفعل هذا ؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك ابدا. وقال بنوعقيل: (قبّح الله العيش بعدك) وانبرى مسلم بن عوسجة: (لو لم يكن معي سلاح أقاتلهم لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت معك).
و تكلّم سعد بن عبد الله الحنفي قائلا:(أما والله لو علمت أني اُقتل، ثمّ أحيا، ثمّ اُحرق، ثم اُذرى، يفعل بي ذلك سبعين مرّة لما فارقتك حتّى القى حمامي دونك، وكيف لا افعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها ابدا)؟ وقال زهير: والله لوددت انّي قُتلت ثم نُشرت، ثم قتلت حتّى اُقتل كذا ألف مرّة، ومحمد بن بشر الحضرمي تأسر ابنه بثغر الري، فقال له الحسين (ع): (أنت في حل، اعمل في فكاك ولدك) اجاب: أكلتني السباع حيا إن فارقتك، والحسين يسأل القاسم بن الحسن: يا بنيَّ كيف الموت عندك؟ قال: يا عم أحلى من العسل.
فقال: إي والله فداك عمّك، إنك لأحد مَن يُقتل من الرجال معي بعد أن تبلوَ ببلاء عظيم، وابني عبد الله (الرضيع).