10 ربيع الثاني 1429 - 17/04/2008
تغيرت سرعة الرياح في العراق بشكل مخيف وملفت للنظر، من رياح شمالية إلى أخرى جنوبية، إذ تحولت العملية العسكرية التي كان من المقرر لها أن تبدأ في محافظة الموصل شمالي العراق إلى الجنوب متوجهة إلى البصرة، في حين أن القاعدة التي تقاتل في الشمال العراقي كانت أولى بحملة من هذا النوع لما أسفرته أعمالها من قتل وتهجير وإنتهاك لحقوق الإنسان هناك.
تغيرت الرياح بهذه السرعة حاملة معها مؤشر خطير ينذر بكارثة إنسانية وصعوبة في إحتواء الموقف وتفادي أزمة من هذا النوع، إذ ما أن حُرك وكرُ الدبابير حتى إنتشرت قواه وبشكل تفاجأت منه الحكومة نفسها، حسب ما جاء في تصريحات وزير الدفاع العراقي.
ثم سرعان ماسرت وانتشرت هذه العدوى الى عدد من المحافظات الجنوبية والوسطى لتعلن المؤازرة والعصيان، بالتالي يجر في أذياله الحرب ولغة السلاح وإنعدام الحوار وطاولة المفاوضات.
الغريب في الأمر ان المسلحين في البصرة جهة أخرى غير تلك التي تسرق النفط أو على الأقل جهة مشتركة، في حين ان من التهم التي أكالتها وأساقتها الحكومة للمسلحين هناك كانت نهب خيرات الشعب العراقي. ذلك ما أكدته تصريحات رئيس هيئة النزاهة في ما يمتلكه من أدلة بهذا الشأن تفيد ان أطرافا لها علاقة إقليمية مسؤولة عن عمليات التهريب هناك، والغريب الآخر في الأمر ان الجهة المسلحة الخارجة عن القانون التي تلاحقها الحكومة الآن، ليست هي وحدها التي تمسك او تمتلك أو تتعامل بالسلاح، كما إنها مشارك رئيس في العملية السياسية هناك او لنقول وبصورة أكثر دقة وعملية (العملية الحكومية)، فكما هو معروف لدى القاصي والداني ان في البصرة أكثر من جهة تحمل السلاح.
إذن يوجد في البصرة إضافة الى عذر محاربة أو مطاردة الخارجين عن القانون وفرض وبسط الأمن، يوجد هناك مسألة أعمق وأكثر تعقيدا خاصة وأن العملية هذه كانت عراقية عراقية خالصة، ذلك حسب إعتراف قائد القوات المشتركة الأمريكية إنها حدثت دون علمه او مشورته. كما وان الحكومة لم تقوم بأخذ راي البرلمان العراقي او عقد جلسة له من خلال بته في أمور غاية في التعقيد مثلما هي البصرة غاية في التعقيد من خلال ما يحتله مركزها من نبض إقتصادي عراقي مهم. ثم يفاجئنا السؤال لماذا لم يعقد البرلمان جلسته بهذا الخصوص؟ أو لماذا كان رده او تصريحات اعضائه خجولة للغاية؟ كما قد تخلف عن حضور جلسته الطارئة التي عقدت مؤخرا الكتليتن الأقوى الإئتلاف الشيعي وهو صاحب المعركة التي تدور في أرضه وبين أبناء جلدته ومصوتيه ومنطقة نفوذه، والكردستاني الباحث عن حصصه في كركوك وهو الحليف الفدرالي المخلص للأول!
نعم ثمة سبب ربما واضح ويتجلى من حين إلى آخر في بعض المواقف التي تعكس حالة إرتفاع مؤشر لغة التعامل بالسلاح ضد هذه الجهة أو تلك، متضحا هذا الرسم البياني خصوصا بعد الاحداث الشعبانية التي جرت في محافظة كربلاء، مما أدى إلى تدخل عسكري وبشكل مخيف، إذ طالت الإعتقالات الجميع وبشكل عشوائي، دون تقديمهم إلى محكمة علنية أو البت في امرهم، رافق ذلك تكتم إعلامي على بعض مواقف الأطراف الأخرى التي كانت مشاركة في أحداث الشعبانية ولها اليد الطولى في تلك الأحداث أو طرف آخر من ذلك النزاع.
هنا يظهر وبشكل جلي في تفضيل وترجيح كفة على حساب الأخرى وهذا التفضيل في السوء سواء، إذ لافضل إيجابي منهم على الشارع العراقي وعامة الناس، فكانت مصالح تلك الأطراف فوق مصلحة الفرد العراقي ومعاناته. وهو في حد ذاته خيار حزبي وفق منظور الأدلجة التي تتمتع بها رؤيا دون أخرى في إقصاء وتهميش طرف دون آخر، وإلا لغة السلاح مرفوضة في ضوء العملية الديمقراطية التي يأمل الشعب العراقي إنها من أهم المنجزات التي سيحظى بها بعد سقوط النظام البائد.
الهوة التي فتحتها الحكومة الآن بينها وبين الشعب من خلال العمليات العسكرية هذه، زادت من البون الشاسع ما بين صوتها والأذن العراقية، ذلك من خلال تراكم الإحباط الحاصل لدى الشعب وتدني المستوى الأمني والاقتصادي والتضخم والعجز المالي على مستوى الخدمات الإجتماعية التي لم توفرها الحكومة، إضافة إلى اليد العاطلة بين صفوف شريحة هي الاكبر في المنطقة، شريحة الشباب التي لا تمتلك الوعي الكافي لنبذ السلاح وبالتالي لاتمتلك ماتخسره.
أن السؤال الذي يلقي بظله اليوم، ماذا لو خرجت إحدى الأطراف بنصر على مستوى العسكرة والسيطرة، وهو بالتالي يجر بكارثة على الشعب مهما كان نوع هذا النصر طبعا.
فلو إنتهى الأمر إلى الجهة الحكومية سيوجد هناك حالة من الفراغ الأمني في خضم مناوشات او إحتكاكات هنا وهناك ولن تنتهي هذه المسألة أبدا، كما إن الجهة الأخرى هي ظاهرة إجتماعية وليست فردية، وبالتالي القضاء عليها يتطلب جهدا دكتاتوريا وقمعيا مميزا. أما لو رجحت الكفة إلى الجهة الأخرى التي تقاتل الحكومة الآن فإننا سنعود إلى الخندق الأول من العام 2003 ولن تقوم للحكومة قائمة بعد ذلك أبدا.
المطلوب في هذه المرحلة هو تكاتف الجهات المحايدة من خلال الضغط المباشر والعملي على كل الأطراف، ذلك من خلال حوار مجد ومثمر، وفتح قنوات إتصال مباشرة مع أطراف النزاع.
أول هذه الاطراف الواجب تدخلها، كما لها الثقل الإيجابي في فض النزاع والإنتقال إلى الحوار السلمي هي المرجعيات الدينية، لما لها من موازنة وحضور جماهيري وروحي ودور فعال اساسي في إحتواء الأزمة وتحريمها لهدر الدماء واللجوء الى السلاح.
كما لا ننسى دور العشائر العراقية وما تلعبه من دور مهم على صعيد جمع الشتات وإستبدال لغة العنف بالحوار ذلك لما يجره الحوار العسكري إلى دمار شامل في العراق ككل.
أيضا مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان وباقي النقابات المهتمة من خلال مطالبتها الملحة بفرض القانون وترك السلاح والإلتجاء إلى الحوار المباشر وحقن الدماء البريئة التي إكتفى الشعب العراقي من إراقتها طيلة عقود كثيرة.
اذن من خلال ما سبق واجب الحفاظ على المنجزات المتواضعة التي حققتها الحكومة بالتعاون المطلق مع أفراد الشعب، وصونا لحرمة الدم العراقي، والإتجاه قدما في بناء مجتمع وفق منظور مؤسساتي مدني، والفصل الكامل ما بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.
كل هذه الأمور لاتتحقق في ظل لغة السلاح وفي ظل ثقافة العنف والقتال التي جنى ثمارها وابلا النظام المنحل وعانى منها الشعب طيلة عقود. الشعب العراقي الآن يتطلع إلى عصر جديد، إلى لغة أخرى، إلى حوار شفاف وحضاري يليق بمكانته الدولية مع أقرانه من البلدان العربية والعالمية منها، وما حققه من مكاسب خلال السنوات الخمس الماضية مؤسف أن نراها تضيع في خضم لاشيء، ونعود بالتالي إلى نقطة الصفر المريعة.