19 صفر 1429 - 27/02/2008
عندما تفيض الذكرى دروسا إيمانية، تفتح الملايين من أتباع الحسين عليه السلام أذرعها وقلوبها لإحتضان هذه المناسبة العقائدية الولائية، وكأنها هجرة إلى الله تبارك وتعالى، وقد خلفوا الدور واصطحبوا الأهلين وارتحلوا لعناق ضريحك المدمى بريعان الشهادة الباسم من ثغر عاشوراء.
ونحن نقرأ زيارة الأربعين العظيمة بمضامينها المستقاة من فيض القرآن الكريم، والنهج الذي لا يلين، لسلالة عرفت العالم معنى الوفاء للدين, نلتقي الزيارة المروية عن الإمام الصادق عليه السلام، تحمل في طياتها دستورا صاغته للأجيال التي ورثت هذا الحب والمودة لآل المصطفى (ص)، حيث يقول الإمام (ع): (وبذل مهجته فيك، ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة) وهنا بيان صريح للغاية المقدسة من الحركة الإصلاحية للإمام أبي عبد الله (ع) بأبعادها المترامية الرامية لإزالة الجهل وإزاحته من تفكير وعقلية الأمة. لأن ذلك يؤدي بها إلى شفا حفرة من النار، كما جاء في قوله تعالى: (وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا).
ولعل استفحال الجهل وتفشيه يتناسب واللهاث وراء الدنيا بزخرفها وزبرجها، حيث جاء في الزيارة: (وقد توازر عليه من غرته الدنيا، وباع حظه بالأرذل الأدنى) وقد أشار إلى هذه الآفة أبو عبد الله (ع) وحذر الجموع الضالة، الخارجة لمحاربته على صعيد كربلاء: (ولا تغرنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها) فالركون للدنيا يعني الركون للظلمة والحكام الجائرين، الذي يستتبع الوقوع في الهاوية، لأن الطغاة يطعمون أذيالهم من هذه الجيفة القذرة لتقوية سلطاتهم ونفوذهم، وهذا ما حصل مع اللعين عمر بن سعد الذي باع آخرته بدنيا أولاد البغاء، ليكون من الأخسرين أعمالا.
ومن حياض كربلاء المترعة بكنوز الإباء ينهل الزائرون لسيد الشهداء (ع) ألف دنيا من العز والكرامة، وهم يسلكون طريقا زهد فيه غيرهم من طلاب الحطام الزائل. فالإغترار بالدنيا يجعل الفرد منسلخا تماما عن إرثه العقائدي لينصهر في بودقة الإنكفاء وراء الملذات بدون ركائز قيمية تحسب على الهوية الفاعلة للرسالي الحركي في توجهاته ودوره في الحياة. مما قد يقود هذا الفرد المنغمس في شهواته إلى محاربة الله وأوليائه، وهذا ما حصل من أعداء الحسين (ع). ونقرأ في السطور المضيئة للزيارة: (وأشهد أنك وفيت بعهد الله. وجاهدت في سبيله حتى أتاك اليقين) إن الإيفاء بعهد الله يمثل درجة عالية من الإخلاص والذوبان في ساحة العشق الإلهي، فلا ينبغي تفويت الفرصة ونحن بين يدي رحمته، في حضيرة المولى مستشفعين به إلى الله سبحانه أن يمنحنا درجة الوفاء بالعهد له تبارك وتعالى، عن طريق مراعاة ما ائتمنا عليه من إيمان وهدى وفطرة سليمة، وعقائد صحيحة، فإحترام النهج الحسيني والسير على هدى الأئمة الأطهار يمثل ضرورة من ضروريات الإلتزام بالعهود وتجديد البيعة على العودة إلى الله عز وجل لنرتقي مراتب يقينية ادخرها الباري سبحانه للرابضين في حلبات السعي الجهادي لنيل القرب المطلق منه جل وعلا. قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.
ثم تتطرق الزيارة المباركة إلى منحى آخر من مناحي قبول العمل: (اللهم إني أشهدك أني ولي لمن والاه، وعدو لمن عاداه) وإنه لقسم عظيم وأنت تشهد الله تعالى على نيتك في الموالاة لمن والى الحسين (ع) والعداوة لمن عاداه. في استجلاء صريح على أن القضية الحسينية غير منتهية ولا محصورة في أطار المعركة التي حسمت في عصر عاشوراء. بل في موقفك الرافض لأعدائه إلى يوم القيامة، والمودة لمن والاه.
والإمام الصادق عليه السلام يعلنها بصدق ويقين بأنه يوالي كل هذه الجموع البشرية المتوجهة إلى كربلاء، وهي تحمل في ضميرها عنفوانا من الفداء والموالاة لثرى الحسين المفدى بنجيع الصابرين. فهل بعد هذه النصرة من الإمام الصادق (ع) لشيعة وموالي أبي عبد الله (ع) من يجيء للإساءة لهم أو توبيخهم من حيث يعلم أو لا يعلم بمكانتهم، وهم أولياء الله كما جاء في الحديث القدسي: (من أهان لي وليا فقد أرصدني بالمحاربة). فضلا عن قتلهم وترويعهم من قبل زمرة هي أسوأ من الوحوش وأضل، لأنهم لا يمتلكون تبريرا يقنعون به الإنسانية عن جرائمهم البشعة، بحق أتباع أهل البيت عليهم السلام.
وهناك الكثير ممن يهولون ويستعظمون أمر الزيارة والشعائر الحسينية !! ويتساءلون دائما وأبدا وهم لا يفقهون عن سر تكاثر وتنامي الزيارات المليونية لأبي الأحرار (ع)؟ ولعل الوقوع في مهاوي التفلسف الزائد والتمنطق الفارغ، هو الذي يقود في النهاية لهذا التشكيك المؤدي للإلحاد والعياذ بالله. فحب الحسين عليه السلام وزيارته وإشاعة مفاهيم حركته، وإيقاظ الضمائر النائمة، لكي تدرك سفينة نجاته، لهي أمور تعتبر من ضروريات الدين، وتركها تسبب نقصا في الدين. ولا بد من الإلتفات واستذكار مسألة الرجعة للأئمة الأطهار عليهم السلام، والإيمان بها بإعتبار ما ورد من الأحاديث الصحيحة بصددها.
جاء في زيارة الأربعين: (وأشهد أني بكم مؤمن وبإيابكم موقن بشرايع ديني وخواتيم عملي). قال الإمام الصادق (عليه السلام): (ليس منا من لم يؤمن بكرّتنا...) وفي زيارة الجامعة المنسوبة إلى أبي الحسن الثالث: (وجعلني ممن يقتص آثاركم، ويسلك سبيلكم، ويهتدي بهداكم، ويحشر في زمرتكم ويكر في رجعتكم، ويملك في دولتكم ويشرف في عافيتكم ويمكن في أيامكم وتقر عينه غدا برؤيتكم. وفي زيارة الوداع: ومكنني في دولتكم وأحياني في رجعتكم).