23 جمادى الأولى 1432 - 27/04/2011
بقلم: لطيف القصاب
قد تكون مفارقة سافرة ان يطلق على آفة الفساد وصف المؤسسة لكن واقع الحال في العراق يمنح معطيات وافية لصدقية هذا الوصف لاسيما مع ما يلمسه المجتمع العراقي يوميا من تغول هذه الظاهرة المؤسفة في جميع مفاصله الحياتية وسريانه على نحو منظم في كامل جسد الدولة العراقية تقريبا حتى وصل الامر بإحدى المنظمات الدولية الكبرى في مجال رصد اوجه الفساد في العالم ان تعتبر ما يجري في العراق من فساد بمثابة اكبر فساد في تاريخ البشرية.
ان مفهوم الفساد هنا لا يشمل مجرد الممارس لفعل الفساد بمعنى المبتز والمختلس والسارق للمال وما الى ذلك من موارد الفساد المالي، بل يراد به ايضا مظاهر الفساد الاداري التي تضع الشخص في غير موضعه وكذلك تتضمن كلمة الفساد موارد عدم الاقدام على فضح ومحاسبة الفساد والمفسدين مع وجود القدرة على ذلك اما خوفا من سطوة مؤسسة الفساد او محاباتها.
لقد تضافرت ثلاث قوى رئيسية في السنوات الاخيرة من اجل جعل صورة الفساد في العراق على ما هي عليه من قتامة وحجم مهول تستحق به ان تحوز لقب المؤسسة، بل المؤسسة المنظمة تنظيما جيدا، المؤسسة التي تقرر ما تريد وتنجز ما تريد باقل جهد واسرع وقت، وهذه القوى التي اوصلت الفساد لدينا الى ما هو عليه تتمثل بالاتي:
اولا: فساد الاحتلال
قد يقول البعض ان الولايات المتحدة الامريكية على مستوى الادارة الحاكمة عندما اتخذت قرار احتلال العراق لم يكن هدفها المباشر او غير المباشر نهب ثروات العراق فقد كان بمقدورها ان تحقق مثل هذا الهدف وتقوم باستنزاف مقدرات هذا البلد مع وجود رأس النظام الذي اطاحت به.
ان هذا الطرح يمكن ان يتوفر على شيء من المنطقية بشرط الاتفاق على ماهية هذا الهدف الرئيسي الذي سعت الى تنفيذه قوات الاحتلال حينما قدمت الى العراق بجيوشها فهل هو مجرد اشاعة الديمقراطية والعدل ام انه شيء اخر؟. وبغض النظر عن الدخول في تفاصيل جواب هذا السؤال فان ثمة حقائق تعلن بين الفينة والفينة تؤكد بان من جملة من اداروا ملف احتلال العراق اناسا لم يكن يشغل بالهم هدف اكبر من قضية السلب والنهب بطريقة او بأخرى، واخر الادلة على هذا القول القضية التي اثارها احد النواب العراقيين داخل البرلمان مؤخرا وخلاصتها فقدان اربعين مليار دولار من المال العراقي العام في ظروف غامضة ابان فترة الحاكم الامريكي للعراق بول بريمر.
وللحقيقة فان دور هذه القوات في استشراء ظاهرة الفساد في العراق ما يزال بعيدا عن دائرة الضوء الامر الذي يملي على المهتمين بتتبع هذه الظاهرة التركيز على هذا العنصر شديد القوة والغموض في آن واحد.
ثانيا: فساد النخبة السياسية
ليس المقصود من هذا العنوان ارادة التعميم على جميع افراد النخبة السياسية في العراق فلا ريب في وجود من تثير حفيظته كلمة الفساد ويخلو سجله من التلطخ بمخازي هذه الكلمة بل المقصود من هذا العنوان العدد الاكبر ممن تصدوا لإدارة الدولة سواء عن طريق التعيين او الانتخاب ولم يعلنوا حتى هذه اللحظة الحرب الشاملة ضد الفاسدين والمفسدين بل ان فيهم من يسهم في خلق جو ملائم لازدهار الفساد في حين يفترض به ان يكون اداة للفتك بجراثيم هذه الافة.
فعلى مستوى البرلمان ما يزال اعضاء مجلس النواب ابعد ما يكونون عن وضع استراتيجية لمكافحة الفساد. وقد تابعنا منذ مدة ليست بالقصيرة وبأسى كبير مماطلة نيابية فجة قبل الغاء المادة 36 الفقرة ( ب) التي تمثل حلقة مهمة في حماية الموظف الفاسد بإجماع فقهاء القانون ولم يشفع لإلغاء هذه المادة فورا انها تدخل في جملة قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل، بينما سارع البرلمان وبفترة قياسية الى الغاء قانون سابق يطالب الموظف العام بالإبلاغ عن تلقيه هدية اجنبية ويرتب عليه عقوبة صارمة في حال عدم الابلاغ، وقد سوغ البرلمان الغاء هذا القانون بكونه يدخل في جملة قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل من دون تشريع نص قانوني بديل يعالج فكرة القانون الاساسية الايجابية في جوهرها.
وعلى مستوى الطاقم الحكومي فان المواطن العادي لم يلمس حتى الان جدية في تنفيذ الوعود الرسمية بشان معاقبة الفاسدين والمفسدين من الذين اعلنت اسماؤهم على الملا والتي لم تعلن الحكومة عن اسمائهم بعد، ما يشي بتحول قضايا الفساد الى مشاريع للمساومات والمقايضات السياسية اكثر منها جرائم تستدعي التحقيق والقصاص العادل.
اما بالنسبة للخطط والمعالجات الرسمية الرامية لمكافحة الفساد فإنها في مجملها تمثل حلولا وقتية ان لم نقل حبوبا مهدئة سرعان ما ينتهي مفعولها لتبدأ عجلة الفساد بالدوران ثانية وطحن اعصاب المواطن وانهاك ميزانيته كما هو المشاهد يوميا في مختلف دوائر الدولة العراقية.
ثالثا: فساد الجهات الرقابية
تنقسم هذه الجهات بحسب المتابعة الى ثلاثة مستويات:
1- المستوى الاول: يتمثل بالأجهزة الرسمية الرقابية كجهاز المفتش العام المربوط بالحكومة التنفيذية وتتمثل نقطة ارتكاز الفساد في مثل هذا الجهاز وغيره بكونه تابعا الى جهة قد تكون مرتبطة بالفساد قيد التفتيش والتحقيق مما قد يفقد هذا الجهاز الرقابي القابلية في احيان كثيرة على الاشهار بما توصل اليه من فضائح مالية.
2- المستوى الثاني: يتمثل هذا المستوى بهيئة النزاهة العامة التي تقف مكشوفة الظهر امام اسلحة مؤسسة الفساد الفتاكة، الامر الذي يجعل منها في احسن الاحوال طرفا خاسرا ومستعدا للمهادنة دائما، فضلا عما يتردد عن سريان عدوى الفساد الى بعض اركان هذه المؤسسة ايضا اسوة بمؤسسات البلاد الاخرى. ويشكل الغاء المادة 36 الفقرة (ب) امتحانا لنزاهة هذه المؤسسة ومدى اخلاصها في تقصي حالات الفساد لاسيما في نطاق كبار موظفي الدولة.
3- المستوى الثالث: يتمثل هذا المستوى ببعض أجهزة الاعلام التي ينتهي بها الحال في اوقات كثيرة الى التفريط بحقوق المواطنين من اجل نيل فتات الفاسدين والمفسدين، او لكون بعض هذه المؤسسات قد تمثل اذرعا اعلامية لواجهات فكرية فاسدة.
بعد ان اشرنا على ما يُعتقد بانه العوامل الاساسية التي ادت الى تنامي قوة الفساد وتحولها الى مؤسسة عراقية فاعلة، من المناسب التساؤل عن الطريقة التي ما من شانها ان تعيد الامور الى نصابها وتعالج ازمة الفساد في العراق؟.
يقول البعض: ان الضمانة الاساسية لاستنقاذ البلاد من براثن مؤسسة الفساد تكمن في تفعيل اجهزة الدولة الرقابية والارتقاء بعملها المؤسساتي لتصبح قادرة على تهشيم قواعد الفساد من جذورها وما مسالة الغاء المادة 36 الفقرة (ب) من قانون اصول المحاكمات الجزائية الا خطوة موفقة على هذا الطريق. غير ان هناك من يشكك بقدرة الجهاز الرقابي العراقي بوجه عام في احراز اهداف ذات قيمة على صعيد الحرب مع الفساد، ويقترح بديلا لذلك سلاحا لا تصمد بوجهه جميع قوى الاحتلال والسياسيين النفعيين والوصوليين والموظفين الخائفين من اعلان الحقائق واجهزة الاعلام المشتراة. انها قوة الشعب بشرط ان تنظم هذه القوة تنظيما جيدا يبتعد بها عن الانعزالية والتشتت ويؤمن لها التماسك الفعال لتصبح بالتالي مؤسسة عظيمة للنزاهة تقرر ما تريد وتنجزه باقل جهد واسرع وقت.