b4b3b2b1
مقدمة في المعاد | الروح والجسد |

مقدمة في المعاد

 

25 ذي الحجة 1428 - 05/01/2008

جاءت رسالات الله إلى العباد تترى على مر العصور، وتم تبليغها عن طريق الأنبياء والرسل. وهي تشمل القوانين التي شرعها الله سبحانه وتعالى لسعادة البشر. وكذلك البشارة بأمورغيبية أخرى أوجب الله سبحانه على جميع المكلفين تصديقها تشريفا وتعظيما لحرمة المرسلين وإيمانا منهم برحمة الله، وما أعد من الكرامة لهم، إن هم صدقوا المرسلين واتبعوهم، ولم يتبعوا سبل الباطل التي تردي الانسان الى مهاوي الجهل والتخلف، وبالتالي تؤدي به إلى الظلم والتعسف، الذي يؤدي بمصير البشرية إلى الهلاك والفناء.

فكل ما وعد به الله تعالى على لسان أنبيائه هو خير ورحمة للبشر، سواء كان تشريعا يضمن لهم سعادتهم في الدنيا أو بشارة لهم تضمن سعادة الآخرة.

قال تعالى في سورة البقرة: (ألم* ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب)، مشيراً إلى عباده المؤمنين وواصفا لهم بأنهم على هدى أي أنهم مهتدون، لأنهم يؤمنون بالغيب الذي أخبرهم به رسول الله(صلى الله عليه وآله) تشريفا وتعظيما لحرمة كلمته، وتصديقا بها.

والغيب هو كل ما غاب عن الحواس وأخبر عنه رسول رب العزة (صلى الله عليه وآله)، كظهور الإمام المهدي (عليه السلام)، والمعاد، وما أعد الله لعباده من الثواب والعقاب يوم القيامة، وغيرها من الأمور الأخرى.

والمعاد من العودة بمعنى عودة الروح إلى الجسد وذلك يوم القيامة، إذ يبعث الله الناس بعد الموت، باجسادهم وارواحهم، فينال المحسن ثوابه، وينال المسيء عقابه وقد أوجب الله سبحانه الإيمان بيوم الآخرة كما صرحت به الآيات القرآنية العديدة مثل: (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر)، (ولا يكذب بيوم الدين).

وفي عقيدتنا أن المعاد أصل من أصول الدين، لأن الله تعالى جعل الإيمان به ضرورة من ضرورات الدين، ولا يجوز للمسلم التكذيب به وإنكاره لأن منكره يعد من الكافرين الذين يخلدون في النار إن ماتوا على أنكارهم.

وقد سمي المعاد في القرآن الكريم بيوم القيامة (ولا أقسم بيوم القيامة)، وكذلك سمي بيوم الدين (ولا يكذب بيوم الدين)، وسمي بيوم الفصل (إن يوم الفصل كان ميقاتا).

المعاد الجسماني

وهو بعث الانسان يوم القيامة بجسده وصورته التي كان عليها في الحياة الدنيا. وقد تعجب الكفار والمشركون من المعاد بالروح والجسم، وجاءت الآيات القرآنية صريحة في ردهم وتوبيخهم (ويقول الانسان إذا مت لسوف ابعث حيا)، (وإن تعجب فعجب قولهم اذا كنا ترابا إنا لفي خلق جديد)، (أفعيينا بالخلق الأول* بل هم في لبس من خلق جديد)، (أيحسب الانسان أن لن يجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه)... إلى كثير من الآيات التي تصرح أو تشير إلى ذلك إجمالا، كالتي تبشر المؤمنين بما أعد لهم من الأزواج والمآكل والمشارب وغيرها من النعيم الذي أعده الله سبحانه لأولياءه المؤمنين، والتي تنذر الكافرين بالعقاب الأليم والشديد، كالخلود في نار جهنم.

وأكد فقهاؤنا على عدم وجوب الخوض في تفاصيل احداث يوم القيامة لمعرفة الأمور التي تجري هناك، بل يجب الايمان اجمالا بحدوث القيامة، وأن الانسان يحاسب فيها حسب عمله، فلا يجب الاعتقاد في تفصيلات المعاد الجسماني اكثر من هذه العقيدة على بساطتها التي نادى بها القرآن وأكثر مما يتبعها من الحساب والصراط والميزان والجنة والنار والثواب والعقاب بمقدار ما جاءت به التفصيلات القرآنية وليس في الدين ما يدعو الى مثل هذه التفصيلات التي حشدت بها كتب المتكلمين والمتفلسفين ولا ضرورة دينية ولا إجتماعية ولا سياسية تدعو إلى أمثال هاتيك المشاحنات والمقالات المشحونة بها الكتب عبثا والتي استنفدت كثيرا من جهود المجادلين وأوقاتهم وتفكيرهم بلا فائدة.

والشبهات والشكوك التي تثار حول هذه التفصيلات يكفي في ردها قناعتنا بقصور الانسان عن ادراك هذه الامور الغائبة عنا والخارجة عن افقنا ومحيط وجودنا والمرتفعة فوق مستوانا الأرضي مع علمنا بأن الله تعالى العالم القادر أخبرنا عن تحقيق المعاد ووقوع البعث.

قال الشيخ كاشف الغطاء: (ولا تجب المعرفة على التحقيق التي لا يصلها الاصاحب النظر الدقيق، كالعلم بأن الابدان هل تعود بذراتها أو إنما يعود ما يماثلها بهيئات، وأن الارواح هل تعدم كالاجسام، أو تبقى مستمرة حتى تتصل بالابدان عند المعاد، وأن المعاد هل يختص بالانسان أو يجري على كافة ضروب الحيوان، وأن عودها بحكم الله دفعي أو تدريجي، وإذا لزم الاعتقاد بالجنة والنار لا تلزم معرفة وجودهما الآن ولا العلم بأنهما في السماء أو الأرض أو يختلفان. وكذا إذ وجبت معرفة الميزان لا تجب معرفة انها ميزان معنوية أولها كفتان، ولا تلزم معرفة ان الصراط جسم دقيق أو هو الاستقامة المعنوية والغرض انه لا يشترط في تحقيق الاسلام معرفة أنها اجسام).

والآيات الشريفة توجوب الايمان باليوم الآخر، حيث يجري فيه الحساب، اجمالا، كي يحض الإنسان نفسه على عمل الخير في الحياة الدنيا، ويتجنب الفساد في الارض وممالأة الاشرار ويكف النفس عن الهوى كي يصلح أمر آخرته ودنياه وأن يفكر كثيرا في عاقبة أمره فهو ميت لا محال وأنه يستقبل شدائد القبر والحساب الشديد بين يدي رب العزة وأن يتقي يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون.

* الحسن والقبح ذاتيان عقليان

مسألة الحسن والقبح من المسائل المهمة في بحث العدل الإلهي حيث رأى بعض المسلمين أنه لا فائدة للجدال والنقاش ولابد من الإيمان القطعي بعدالة الله دون النظر والتمحيص فهو سبحانه المدبر القدير العادل وما يفعله صحيح وحسن فلا نقاش ولا جدال بعد ذلك ومن المؤكد أن هذه الفئة من المسلمين تمتاز بالسطحية والسذاجة لذلك لا تتدخل في مواضيع تظن بأنها ستتورط فيها حينما يحتدم النقاش وربما تخشى أن ينفلت منها زمام الإيمان فتلجأ لهذا الحل أو أنها تعتقد بأن هذه الإثارة وهذه الاستفهامات هي في غنىً عنها لذلك لا تبحث عن صفة العدالة إلا كصفة عابرة موجزة نابعة عن قناعات مترسخة بطريقة ساذجة وهي بهذا الفعل تترك تراكمات الشبهات عالقة في ذهنية الناس دون جواب فمصيرها محدد على مفترق طريقين فإما أن تموت هذه التساؤلات موتاً بطيئاً عبر القناعات البسيطة وهذا هو إيمان العجائز ويبدو أن ذلك مهم في التقية والمسائل الأمنية خوفاً من الجائرين، وأما الطريق الثاني للشبهات فهو طريق النمو والاستفحال بالفعل فإنها ستنمو وتكبر في ذهنية الناس حتى تنفجر بالانحراف والالتواء السلوكي أحياناً كما حدث ذلك مع بعض الشباب.

وفي تاريخنا الإسلامي تناولت مدرستان فكريتان هذه المسألة فذهبت الأولى إلى أن ميزان العدل والعدالة هو فعل الله سبحانه فكل ما يفعله الله هو عين العدالة وقالوا بوحدة الفاعلية لذلك رأوا كل الأعمال والأفعال في الكون صادرة عن الله عز وجل بما فيها إبداع الخلق والكائنات وافعال الإنسان والحيوان والحشرات كلها أفعال الله العادلة فلو أعطى الله سبحانه - مثلاً - للمظلوم حقّ الثأر أو لم يعطه حقه فهو عدل مطلق في كل حال لأنه من الله العادل.

إذن لا يوجد مفهوم الظلم لديها على الإطلاق واستدلوا على رأيهم بأن القدرة الإلهية قدرة شاملة وعامة وغير عاجزة عن أداء كل أنواع الأفعال فلو لم يفعل الله تعالى الشر والظلم والفساد لكانت قدرته ناقصة وعاجزة عن بعض الأعمال فإذن كل الأفعال من الله سواء كانت خيراً أو شراً صلاحاً أو فساداً. فهم بفكرتهم هذه أرادوا تنزيه الله سبحانه من الشريك الفاعل ولكنهم نزهوا الطغاة والظالمين من ظلمهم وقبيح أعمالهم لأنهم نسبوا الأعمال كلها إلى الله القدير.

قال الشهيد المطهري في العدل الإلهي: (لا مفهوم للظلم وهؤلاء لا يعرفون علامة العدل غير أنه فعل الله فكل فعلٍ هو فعل الله فهو إذن عدل وليس كل ما هو عدل فهو فعل الله وحسب وجهة نظرهم لا يوجد للعدل ضابط.. فقد أنكروا العدل عمليّاً ولهذا السبب عرف مخالفوهم وهم الشيعة والمعتزلة باسم (العدلية) إشارة إلى أن تفسير الأشاعرة للعدل إنما هو إنكار في الحقيقة لمضمون العدل.. وأدى هذا إلى إنكار صفتي الحسن القبح العقليين بصورة جذرية فقالوا لا يعني مفهوم العدالة سوى كون الفعل منسوباً إلى الله).

فعقيدة الأشاعرة أن الله خالق لعبده وما عمل، بينما مذهب المعتزلة إن العبد يخلق أفعال نفسه واستدل الأشاعرة على مذهبهم بالآية الكريمة في سورة الصافات، الآية 96: (والله خلقكم وما تعملون) فالله هو الذي خلق الخير وأراده من عباده وسهل لهم طريقه وخلق الشر ولم يرضه من عباده وحذرهم منه لقوله: (ولا يرضى لعباده الكفر) سورة الزمر، الآية 7.

وللرد عليهم ببساطة نقول كيف يجيبون الله سبحانه وتعالى حيث نسب الظلم إلى العباد في اكثر من آية في القرآن المجيد فقال سبحانه: (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) وفي آية أخرى يصف المنحرفين: (... ففسقوا فيها...) وما ندري كيف يواجهون هذه الآيات الواضحة في تحميل المظالم على العباد.. أما الآية الكريمة (والله خلقكم وما تعملون) سبقتها الآية (قال أتعبدون ما تنحتون) فهو استفهام معناه الإنكار والتوبيخ أي كيف يصح أن يعبد الإنسان ما يعمله بيده فإنهم كانوا ينحتون الأصنام بأيديهم (والله خلقكم وما تعملون) أي وخلق ما عملتم من الأصنام فكيف تدعون عبادته وتعبدون معمولكم؟! وهذا كما يقال فلان يعمل الحصير وهذا الباب من عمل فلان النجار.

قال الحسن البصري معناه وخلق أصل الحجارة التي تعملون منها الأصنام وهذا يجري مجرى قوله: (تلقف ما يأفكون) وقوله تلقف ما صنعوا في أنه أراد المنحوت من الجسم هنا دون العرض الذي هو النحت الذي كما أراد هناك المأفوك فيه والمصنوع فيه من الحبال والعصي دون العرض الذي هو فعلهم فليس لأهل الجبر تعلق بهذه الآية في الدلالة على أن الله سبحانه خالق لأفعال العباد لأن من المعلوم أن الكفار لم يعبدوا نحتهم الذي هو فعلهم وإنما كانوا يعبدون الأصنام التي هي الأجسام. وقوله ما تنحتون هو ما يعملون في المعنى على أن مبنى الآية على التقريع للكفار والازراء عليهم بقبيح فعلهم ولو كان معناه والله خلقكم وخلق عبادتكم لكانت الآية إلى أن تكون عذراً لهم اقرب من أن تكون لوماً. ولكان لهم أن يقولوا ولم توبخنا على عبادتها والله تعالى هو الفاعل لذلك؟ فتكون الحجة لهم لا عليهم ولأنه قد أضاف العمل إليهم بقوله تعملون فكيف يكون مضافاً إلى الله تعالى وهذا تناقض.

أما المدرسة الثانية وهي العدلية فذهبت إلى أن العقل يرى أن العدل حسن بذاته والظلم قبيح بذاته وبما أن الله سبحانه هو الخالق المدبر للكون بما فيه الإنسان، فقد أفاض على العباد نعمة العقل (فهو إذن لا يترك عملاً يحكم العقل بحسنه ولا يفعل عملاً يحكم العقل بقبحه) فتحكم بأن الله عز وجل منزه عن الظلم وعن فعل القبيح والفساد (ما الله يريد ظلماً للعباد) سورة غافر، الآية 31. (والله لا يحب الفساد) سورة البقرة، الآية 205.

فهذه المدرسة لم تنف الفاعلية عن غيره تعالى ولم تنف الظلم الاجتماعي والفساد ورفضوا مبدأ الفاعلية الواحدة لجميع الأفعال واعتبروا الحسن والقبح عقليين ذاتيين. فقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): (حجة الله على العباد النبي والحجة فيما بين العباد ونبي الله العقل) وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (أما العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه).

ومن هنا ندرك معنى العدالة الإلهية في النظام المتوازن الدقيق في العالم من الذرات والالكترونات إلى المجرات ومن عالم النبات والحيوان إلى الحشرات والديدان فكل السنن الكونية والقوانين التي تسير عليها الطبيعة وهذا الإنسان المخلوق العجيب الذي يعتبر بحد ذاته معجزة فريدة فقد قال سبحانه: (.. وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات) يقول الدكتور كارل: لا شيء أقرب إلينا منا ومع ذلك فإن في هذا الجسم من الأسرار الكثيرة ما لا علم لنا بها.. وأكثر من ذلك وضع قوانين العدالة الاجتماعية فردّ المظالم وقانون العقوبات الإسلامي من كفارات وديات وقصاص للمحافظة على توازن المجتمع خلقياً واجتماعياً وبعد كل ذلك هنالك يوم الحساب حيث المحاسبة الدقيقة التي تجريها محكمة العدل الإلهي إيجاباً أو سلباً كل ذلك يجعلنا نؤمن بعدالة الله سبحانه وتعالى وأن الحسن والقبح ذاتيان عقليان.

* قضاء الله وقدره

القضاء هو الإمضاء الإلهي على أمرٍ حتمي الوقوع فلا مرد له، والقدر هو الحد الطبيعي من القانون الإلهي في الوجود فالله قدّر للإنسان أن يكون له عقل فلو توفرت الظروف الذاتية والموضوعية فيصير أمراً واقعياً وحتمياً أي قضاءً.

قال الإمام الكاظم (عليه السلام): (القدر هو تقدير الشيء من طوله وعرضه والقضاء هو الإمضاء الذي لا مرد له) وقال الإمام الرضا (عليه السلام): (القدر هندسة والقضاء إبرام).

وللقضاء والقدر معانٍ أخرى وردت في القرآن الكريم منها الإخبار كقوله تعالى في سورة الإسراء، الآية 4، (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين) أي إخبارهم بذلك ومنها الإرادة كقوله تعالى في سورة البقرة، الآية 117، (وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) أي إذا أراد أمراً ومنها الحكم والفصل كقوله تعالى في سورة طه، الآية 72، (فاقض ما أنت قاض) ومنها الأمر كقوله تعالى في سورة الإسراء، الآية 23 (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) أي أمر بعبادته ومنها الموت كما في سورة القصص، الآية 15 (فوكزه موسى فقضى عليه).

ومن معاني القدر التحديد بالكمية كقوله تعالى: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزّله إلا بقدر معلوم) ومنها الخلق كقوله تعالى: (وقدّر فيها أقواتها) أي خلق ومنها التضييق كما في سورة الفجر، الآية 16. (وإما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن) ومنها القضاء الحتمي كما في سورة الأحزاب، الآية 38، (كان أمر الله قدراً مقدوراً) أي حتماً مقضيّا.

أما المعنى الذي هو محل نزاع الفلاسفة والمتكلمين هو الذي يوصلنا إلى سلب إرادة الإنسان وإجباره على أعمال معينة خيّرة أو شريرة بدعوى أن القضاء والقدر ملزمان ولا مفر منهما أو ما يقابل هذا المعنى وهذا المذهب.

وقد اتفق المسلمون على أن أعمال الناس تجري بقضاء وقدر إلهيّين وورد في الحديث الشريف: (كل شيء بقضاء وقدر) ولكن كالمعتاد اختلف المسلمون في تحديد مفهومي القضاء والقدر وعلى أية حال فإن أفعال العباد اللاإرادية هي خارجة عن موضوع البحث وهي التي نسميها بالضرورية كالأعمال الداخلية للإنسان كعمل المعدة وجهاز التنفس ونبض القلب والدورة الدموية.

إذن فسيقتصر حديثنا ويدور حول الأعمال الإرادية للإنسان والتي نسميها بالأعمال الاختيارية الخارجية التي تخضع لإرادة الإنسان فيسيّرها كيف يشاء أو يُجبر على التصرف بها كما يذهب البعض لذلك، كالذهاب والإياب والاعتقاد والعبادة والأكل والشرب والنوم وسائر الأفعال.

* رأي أهل الجبر

أكّدت المجبرة بأن القضاء والقدر الإلهيين هما مفروضان على البشر فالله سبحانه خلق أفعال الناس بقضائه وقدره وما يؤدي الناس من أعمال فهي بقضاء الله وقدره، فالله قدّر الكفر والعصيان على الكافرين والعاصين وقضى بالكفر والعصيان عليهم وهو الذي قدّر وقضى بالطاعة والإيمان على المطيعين والمؤمنين من دون أن تكون للناس إرادة وقابلية تردّ قضاء الله وقدره فالناس مسلوبو الإرادة والاختيار أمام القضاء والقدر الإلهيين وبمعنى آخر أن الله خلق أفعال العباد الحسنة والقبيحة وأجبرهم على الاستسلام لها وتطبيقها.. فالمجبرة أرادوا أن ينفوا الشريك من الله في أفعاله ولكنهم سقطوا في وحلٍ عميق حيث نسبوا إليه الظلم والفساد.

* رأي المفوضة

وأما المفوّضة فإنهم ذهبوا إلى أن الله خلق العباد وترك لهم حريتهم المطلقة والكاملة في كل التصرفات والسلوك لذلك أرادوا أن ينزهوا الله من الظلم والجور والفساد فوقعوا في وحل عميق أيضا حيث أنهم عزلوا الله سبحانه عن ملكه وجعلوا له شريكاً في الأفعال فقد قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ومن زعم أن المعاصي بغير قوة الله فقد كذب على الله ومن كذب على الله أدخله النار)(9).

* رأي الشيعة

وخلاصة رأي أتباع مدرسة أهل البيت)عليهم السلام) في الجبر والتفويض هي أن الله سبحانه منزّه من أن يجبر عباده على عمل معين ومن ثم يعاقبهم عليه لأن ذلك خلاف عدله وحكمته وخلاف ما نشعره في وجداننا الشخصي.

ففي الرواية أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ اقبل شيخ فجثا بين يديه ثم قال له: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء الله وقدر؟ فقال له أمير المؤمنين: أجل يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن وادٍ إلا بقضاء من الله وقدر فقال الشيخ: عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال له: مه يا شيخ فوالله لقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين. فقال الشيخ: وكيف، لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا فقال له: وتظن أنه كان قضاءً حتماً وقدراً لازماً؟ وإنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله عز وجل وسقط معنى الوعد والوعيد فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب تلك مقالة أخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الأمة ومجوسها. إن الله تبارك وتعالى كلّف تخييراً ونهى تحذيراً وأعطى على القليل كثيراً ولم يعص مغلوباً ولم يُطع مُكرهاً ولم يملك مفوّضاً ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذن كفروا من النار.

وفي رواية عن يزيد بن عمير قال: دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بمرو فقلت له يا بن رسول الله روي لنا عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين فما معناه؟! فقال الرضا (عليه السلام): من زعم أن الله تعالى يفعل أفعالنا ثم يعذّبنا عليها فقد قال بالجبر ومن زعم أن الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حجته (عليه السلام) فقد قال بالتفويض، فالقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك، فقلت له يا ابن رسول الله فما أمر بين أمرين، فقال: وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به وترك ما نهوا عنه فقلت له فهل لله عز وجل مشيئة وإرادة في ذلك، فقال: أمّا الطاعات فإرادة الله ومشيئته فيها الأمر بها، والرضا والمعاونة عليها، وإرادة الله ومشيئته في المعاصي النهي عنها، والسخط لها والخذلان عليها، فقلت فلله عز وجل فيها القضاء. قال: نعم، ما من فعل يفعله العباد من خير وشر إلا ولله تعالى فيه القضاء، قلت فما معنى هذا القضاء، قال: الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة.

من هنا نفهم بأن الجزاء الإلهي هو حق طبيعي لله تعالى وذلك انطلاقاً من عدالته فمن العدل أن يعوّض الله الإنسان المؤمن عن صبره وجهاده وعبادته بما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. يقول تعالى: (إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب). [سورة الزمر، الآية 10. ومن العدل أن يعاقب الله الإنسان المنحرف لعصيانه وانحرافه وظلمه أيضا: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره). سورة الزلزلة، الآيتان 7-8.

وهذا الثواب أو العقاب إما أن يتجزأ لمصلحة معينة في الدنيا والآخرة وإما أن يؤجل تماماً للآخرة وبهذا التوجيه ندرك وبعمق العدل الإلهي فحرمان في الدنيا وعطاء في الآخرة وصبر في الدنيا ونعيم دائم في الآخرة وبالمقابل الاعتداء على الحقوق في الدنيا يعني الجحيم في الآخرة فإذن الحياة الآخرة تكمل الحياة الدنيا علماً بان الدنيا عمل بلا حساب وفي الآخرة حساب بلا عمل. وبمعنى آخر أن الذي ينظر إلى الدنيا فحسب باعتبارها كل الحياة ربما يصل إلى معرفة التفاوت والاختلاف بين العباد في المال والجمال والكمال وحينما يجعل الدنيا إحدى الحلقتين الكبيرتين في الحياة العامة والحلقة الثانية هي الآخرة فتكتمل صورة الحياة العامة وتزول هذه المعرفة السطحية التي يحصل عليها الإنسان من الوهلة الأولى حينما ينظر إلى الحياة الدنيوية.

ويمكن أن تكون مصلحة معينة في البين فينزل الله عقابه على عباده في الدنيا كتأديب المجتمعات الغابرة أو المعاصرة فيأتي العقاب في الدنيا وبالمقابل في الحالة الإيجابية قد يستجاب الدعاء كإنزال المن والسلوى على بني إسرائيل أو إلحاق العقوبة المباشرة لأقوام الأنبياء الذين انحرفوا وأصرّوا على الانحراف كقوم نوح وعاد وثمود فقد جاء دعاء النبي نوح (عليه السلام) في سورة نوح الآيتان 24-25 في قوله تعالى: (وقد أضلوا كثيراً ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً، مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً) فأصبحت من القوانين والسنن الإلهية كما قال سبحانه (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلاً) سورة الإسراء، الآية 77.

وقال في سورة الأحزاب، الآية 62، (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً) فدلت هذه الآيات على ربط الأسباب بالمسببات ونتائج الأعمال بمقدماتها سواء كانت النتائج في الدنيا أو في الآخرة حسب الحكمة الإلهية، لذلك قال الملا صدر في شرحه لأصول الكافي (القضاء والقدر إنما يوجبان ما يوجبان بتوسط أسبابٍ وعللٍ مترتبةٍ ومنتظمةٍ بعضها مؤثرات وأخرى متأثرات).

وهنا لابد من التنويه لمسألة حياتية وهي: إن الإيمان بالقضاء والقدر بالمعنى الجبري يدفع بالإنسان لمنهجية اللا مبالاة والكسل لأنه ينتظر جاهزاً ما في قضاء الله وقدره. والصحيح أن الإيمان بقضاء الله وقدره هو الإيمان بسنن الله وشريعته حيث يدفعنا الله إلى التنافس الإيجابي في عمل الخير والإحسان ويدفعنا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح والجهاد في سبيل الله كما قال في محكم كتابه: (انفروا خفافاً وثقالاً وجهادوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) سورة التوبة، الآية 41. وقال سبحانه: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى غيروا ما بأنفسهم...). سورة الرعد، الآية 11.

* تخيير لا تسيير

ومما مضى نقرر بأن الإنسان في أفعاله وسلوكه مختار وبمعنى آخر إنه مخيّر لا مسيّر وإرادة الإنسان الاختيارية هذه هي تحت سلطان الله وقدرته الكبرى فالإنسان مختار في تصرفاته بتلك القدرة والقابلية الإلهية التي منحها الله إياه. فالله منح عباده القابلية على الشر كما منحهم القابلية على الخير فقد قال عز وجل في سورة الإنسان، الآية 30: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) فحينما يعمل العبد معصية فقد أساء اختياره مستعيناً بقدرة الله سبحانه حيث منحه القدرة والقابلية على ذلك وفاعل الخير استفاد من هذه القدرة وأحسن اختياره فقال سبحانه في سورة هود، الآية 7: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) فالإنسان بإرادته يختار ويتجسد لطف الله عز وجل في توضيح الطريقين وعواقبهما.

* السعادة والشقاء

ويمكن أن يثار ههنا سؤال حول تفسير الحديث المشهور للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه) فهل يمكن تغيّر الشقاوة أو السعادة ما دامت مكتوبة على جبين الإنسان قبل نزوله إلى دار الدنيا؟! والحق إن الله يعلم قبل أن يخرج هذا الإنسان من بطن أمه أنه سوف يرتكب الجرائم أو يعمل الحسنات كما قال الإمام الكاظم (عليه السلام) حينما سئل عن معنى الحديث (الشقي من علم الله - وهو في بطن أمه - أنه سيعمل عمل الأشقياء والسعيد من علم الله - وهو في بطن أمه - إنه سيعمل عمل السعداء) فبمجرّد علم الله تعالى في تمييز عباده لا يعني ذلك جبراً أو قسراً عليهم.. هذا ومن الممكن أن نفسر الحديث على أن السعادة تحصل من تأثير الأبوين وحالتهما النفسية والصحية مثلاً مما يعكس على الجنين الارتياح والسعادة. ومن المغالطة بمكان أن نرمي بأسباب الأعمال الصالحة أو المعاصي على الله سبحانه فقد ورد عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (يكون في آخر الزمان قوم يعملون من المعاصي ويقولون إن الله قد قدّرها عليهم، الراد عليهم كشاهر سيفه في سبيل الله).

* القضاء والقدر قوانين إلهية

والحق أن القضاء والقدر قانونان إلهيّان نرى أثرهما الواضح في الحياة ففي الرواية عن الإمام علي (عليه السلام) أنه كان جالساً في ظل جدار وفجأة عرف أن الجدار مشرف على الانهدام فابتعد عنه حالاً وحينئذٍ اعترض أحد الحضور قائلاً: أمن قضاء الله تفرّ يا علي؟ فأجابه (عليه السلام): أفر من قضاء الله إلى قدره.

إذن هما قانونان من القوانين الإلهية فالفرار من قانون الهي يمكن أن يسبب الموت حين سقوط الحائط فعليه أن يبتعد الإنسان عن الحائط المائل ويضمن حياته لما بقي من العمر المقدّر له فلو كانت ساعة الموت حتميّة (بالقضاء) فيحل عليه الموت حتى دون سبب ظاهر كقانون الهي أيضا فقد قال عز وجل: (قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفهسم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم). سورة آل عمران، الآية 154.

وهذا ردّ من الله سبحانه على الكافرين لما قالوا: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم والله يحيي ويميت) سورة آل عمران، الآية 156.

وفي ضوء ذلك نفهم الأحاديث الشريفة والروايات الواردة مثلاً: الصدقات تدفع البلاء وصدقة السر تطفئ غضب الله.. فالأجل المعلق والبلاء الطارئ يدفع بالصدقة كقانون إلهي والأجل الحتمي لا يدفعه شيء كقانون إلهي أيضا لقوله تبارك وتعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) سورة النحل، الآية 61. فهذا هو القضاء الحتمي من الله سبحانه لا يعارضه شيء أبداً.

الشفاعة

وهي بمعنى حط ذنوب المذنبين وإسقاط العقاب عنهم والعفو عن العصاة يوم القيامة. وقيل لزيادة الثواب ورفع الدرجات، ولم يثبت ذلك لقول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي).

ونعتقد بأن الشفاعة من ضروريات الدين التي لايجوز إنكارها وقد أجمعت الأمة الإسلامية عليها.

وهي ثابتة للنبي(صلى الله عليه وآله) بإجماع الأمة، ونعتقد بأنها ثابتة أيضا للأئمة المعصومين عليهم السلام وكذلك للأنبياء والقرآن والرحم وللأولياء الصالحين.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الشفعاء خمسة: القرآن والرحم والأمانة وأهل بيت نبيكم).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إني أشفع يوم القيامة فأشفع ويشفع علي (عليه السلام) فيشفع وإن أدنى المؤمنين شفاعة يشفع في أربعين من إخوانه).

ولا شك في أن مقام (الشفاعة العظمى) هو لرسول الله (صلى الله عليه وآله) كما في الحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام) :(ما من أحد إلا وهو يحتاج إلى شفاعة محمد(صلى الله عليه وآله) يوم القيامة).

والشفاعة حق لله وحده، ومختص به، يمن بها على من يشاء من عباده، لمن يشاء منهم.. قال تعالى: (قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون) الزمر/4

وقال: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) الأنعام/51

شفاعتان

والشفاعة من حيث الملكية شفاعتان: إحداهما لله، والأخرى لعباده المأذونين.

فالتي هي لله: مالكيته لكل شفاعة مأذونة بالأصالة لا أنه سبحانه يشفع لأحد لدى أحد، وبذلك يصبح معنى قوله تعالى: (لله الشفاعة جميعا) رفضا لعقيدة المشركين التي أشار إليها سبحانه في قوله: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء) الزمر/43، فيكون المراد أن كل شفاعة فإنها مملوكة لله، فإنه المالك لكل شيء ومنه شفاعتهم، فلا يشفع أحد إلا بإذنه. وكذلك ليس للمخلوق أن ينازعه في هذا الحق أويشاركه فيه... (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) البقرة/48.

والعدل: هو المال أو العوض أو المعادل، وذلك من مادة العدول لأن الرشوة عندما تعطى فإنها تسبب العدول والانحراف عن الحقيقة.

والشفاعة: بمعنى الوساطة، والنصرة: معناها القوة، أي ليس هناك دفاع عن الغير ولا شفاعة ولا يدفع مال بعنوان الفوضى والمعادل ولا توجد مؤازرة ولانصرة. ومعنى هذا أن نظام الآخرة ليس كالنظام الاجتماعي البشري الذي يتوسل فيه الإنسان أحيانا بالوساطة أو المال للفرار من القانون وأحيانا يستغل قومه أو عشيرته ويستفيد من نفوذهم لتعطيل أحكامه.

فالشفاعة بهذا الشكل مرفوضة بأدلة عقلية ونقلية، فهي تعني أن يجد المجرم وسيلة ينفذ بها إلى الحكم الإلهي ويحول دون تطبيقه، تماما كما يحدث في المجتمعات البشرية المختلفة من لعب بالقانون بنفوذ الوساطة.

مقبولة ومرفوضة

هناك نوعان من الشفاعة: الشفاعة المرفوضة والشفاعة المقبولة. فالمرفوضة: هي ما صرح بها القرآن الكريم، كالشفاعة التي كانت اليهود تعتقد بها، فهؤلاء كانوا يعتقدون بأن أنبياءهم وأسلافهم يشفعون لهم من العذاب، بمجرد انتمائهم وانتسابهم لهم، حتى وإن كانوا مفسدين في الأرض. وبطبيعة الحال فإن هذا شرك بالله سبحانه: (إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء/116.

واعتقدوا أن الحياة الآخروية كالحياة الدنيوية، حيث يمكن التخلص من العذاب بالفدية، لذلك رفضوا كل قيد وشرط في جانب الشافع والمشفوع له. فرد القرآن الكريم اعتقادهم هذا في قوله تعالى: ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين* واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) البقرة/47-48.

ومن الشفاعة المرفوضة اعتقاد الكافرين والمنافقين الذين أجرموا بحق المؤمنين، وقطعوا علاقتهم بالله ورسله وكتبه، فأفسدوا في الأرض، وظلموا عباده، وغير ذلك مما يوجب قطع رابطة العبد مع الله سبحانه فصاروا مصداقا لقوله تعالى: (نسوا الله فأنساهم أنفسهم) الحشر/19، وقوله تعالى: (قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) طه/126 وقوله تعالى: (يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) الأعراف/53

وهؤلاء كما قطعوا علاقتهم الإيمانية مع الله سبحانه كذلك قطعوا صلاتهم المعنوية مع الشافع، وهم رسل الله وكتبه، فلم تبق بينهم وبين الشافعين أية مشابهة تصحح شفاعتهم لهم.

ومن المرفوضة أيضا، شفاعة الأصنام التي كانت تعبدها العرب كذبا وزورا، وذلك لأن عرب الجاهلية كانت تعبد الأصنام لاعتقادها بشفاعتها عند الله وقد نفى القرآن الكريم أن تكون هذه الأصنام قادرة على الدفاع عن نفسها فضلا عن الشفاعة في حق عُبّادها.. قال تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) يونس/18. وكذلك قوله تعالى: (وما نرى شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) الانعام/94

وأما الشفاعة المقبولة، فقد صرحت الآيات القرآنية، بأن الشفاعة لله وحده، لا يشاركه فيها غيره، وصرحت كذلك بوجود شفعاء يوم القيامة يشفعون بشروط خاصة وبإذن منه تعالى، وهم الأنبياء والرسل والأئمة المعصومون والقرآن وغير ذلك مما ذكرته الأحاديث النبوية الشريفة، وشفاعة الملائكة وحملة العرش، ومن حوله حيث يستغفرون للذين آمنوا.

فهؤلاء يقبل استغفارهم الذي هو قسم من الشفاعة.. قال تعالى: (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) النجم/26 وقوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون) الأنبياء/ 26 -28.

شروط الشفاعة

من شروط الشفاعة التي ذكرها القرآن الكريم هو أن تكون:

1ـ مشروطة بإذن الله سبحانه حيث يقول تعالى (إلا بإذنه).

2ـ يشترط في الشفيع أن يكون ممن يشهد بالحق، أي يشهد بالله سبحانه ووحدانيته وسائر صفاته. وكذلك يجب أن يكون المشفوع له.

3ـ أن لا يظهر الشفيع كلاما يبعث غضب الله سبحانه، بل يقول قولا مرضيا عنده، ويدل عليه قوله (ورضي له قولاً) طه/ 109.

4ـ أن يعهد الله سبحانه له بالشفاعة كما يشير إليه قوله تعالى: (إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) مريم/87

سؤال:

كيف يصح الجمع بين الشفاعة المختصة لله والشفاعة التي تختص لغيره سبحانه؟

الجواب: إن مقتضى التوحيد في الأفعال، أنه لا مؤثر في عالم الكون إلا الله سبحانه ولا يوجد في الكون مؤثر مستقل سواه، وإن تأثير العلل إنما هو على وجه التبعية لإرادته سبحانه ومشيئته، والاعتراف بمثل العلل التابعة لا ينافي انحصار التأثير الاستقلالي في الله سبحانه وتعالى، لذلك فإذا كانت الشفاعة عبارة عن سريان الفيض الإلهي (أعني طهارة العباد عن الذنوب وتخلصهم عن شوائب المعاصي) على عباده، فهي فعل مختص بالله سبحانه بالأصالة والى غيرة بالتبعية، ولا منافاة بين النسبتين، كالملكية، فالله سبحانه مالك الملك والملكوت، ملك السموات والأرض بإيجاده وإبداعه، ثم يملكه العبد منه بإذنه ولا منافاة في ذلك، لأن الملكية الثانية على امتداد الملكية الأولى، ونظيرها كتابة أعمال العباد، فالكاتب هو الله سبحانه، حيث يقول: (والله يكتب ما يبيتون) النساء/81 وفي الوقت نفسه ينسبها إلى رسله وملائكته، يقول: (بلى ورسلنا لديهم يكتبون) الزخرف/80.

فإذا كان الملائكة والأولياء مأذونين بالشفاعة، فلا مانع من أن تنسب إليهم الشفاعة، كما تنسب إلى الله سبحانه، غير أن أحدهما يملك هذا الحق بالأصالة، والآخر يملكها بالتبعية).

فالشفاعة هي رحمة الله التي وسعت كل شيء، فهو تعالى لا يريد أن يسد طريق التوبة عن عباده، ولا يقطع رجاء العبد في إصلاح نفسه نتيجة الابتلاء بالذنوب والتقصير في الطاعة، وعليه لا توجب الشفاعة جرأة العبد على ربه، ولا تحيي عنده روح التمرد، بل هي باب فتحه الله تعالى للإنابة والاستغفار.