3 ذو الحجة 1438 - 26/08/2017
قال الله تعالى: «وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ» (الفجر/1-3) وقال الله تعالى: «وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» (اعراف/142)
العبادة هي عملية اتصال قائمة بين (أنا) و(هو) وبتعبير أرحب, قائمة بين (فعل) الإنسان و(ردود الفعل) الإلهية, كحقيقة (الاسناد) الذي هو حال بين (المسند) و(المسند اليه) ولا يمكن انكار هذا الركن الثالث في العبادة, وهو (الحس المشترك) ولكن لما كان (أنا) معروف, قال الله تعالى: «بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» (القيامة/14) او معروف في الجملة, إلا أن (هو) مجهول للغاية, لذا فإن النتيجة تابعة لأخس المقدمات, فالغموض إلى الركن الثالث في العملية, ومن هنا فإن (العبادة) مفهوم عميق وغامض ومعقد للغاية, والبحث فيها بسيط سطحي وعابر للغاية نشبهها بعملية الاتصال.
البحث هنا مجرد فهرسة عشوائية مضطربة غير متجانسة وغير منسجمة على شكل: نكات وتأملات, وعددها سبعة بعدد السماوات وعدد الأرضين:
التأمل الأول: جوهر(العبادة): الاتصال حقيقة فطرية تلقائية لا واعية في الإنسان ففي تفسير الامام العسكري (عليه السلام): «سئل الامام الصادق (عليه السلام) عن الله عز وجل, فقال للسائل: هل ركبت السفينة وكسرت بك حيث لا سفينة تنجيك وسباحة تغنيك؟ قال: بلى, قال عليه السلام: هل تعلق قلبك هناك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطك؟ قال: بلى, قال (عليه السلام) فذاك الشيء هو الله القادر». وفي بحار الانوار: ولهذا جعل الناس معذورين في تركهم اكتساب المعرفة بالله عز وجل متروكين على ما فطروا عليه, مرضيا عنهم مجرد الإقرار بالقول ولم يكلفوا الاستدلال العلمي.
اذن المفهوم الفطري مشترك, الا أن كل واحد منا يبين لنفسه (شيئا فشيئا) سلوكا واسلوبا خاصا به في عملية (العبادة) و(الدعاء) يتميز بذلك الاسلوب عن غيره ومن هنا جاء التعبير: الطريق إلى الله عدد انفاس الخلائق.
التأمل الثاني: (المباشر) و(المتلقي) في عملية الاتصال بين العبد وخالقه يختلفان، ففي قوله تعالى: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» (الاعراف/156) وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا» (الاحزاب/43) يكون العبد هو المتلقي والمستجيب للاتصال واما في قوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (الذاريات/56) وقوله تعالى: «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ» (الإسراء/44)، يكون العبد هو المبادر والفاعل لعملية الاتصال وبين (المبادر) و(المتلقي) فرق بلا حدود ومن جميع الجهات، فالفاعل والمبادر يملك كل الافعال والخيارات التي ترقي وتطور الاتصال نظير: 1)اختيار الأوضاع 2)سياقات الفعل 3) الحالات من السرعة والبطيء والشدة والوهن 4) التوليف والتركيب... وعشرات العوامل الاخرى التي لا يملكها (المتلقي) ومن هنا تظهر حقيقة (ما حك ظهرك مثل ضفرك) كما ويظهر الفرق بين (المتلقي المباشر) في عملية الأكل والشرب والغرام والجنس فاللذة والنشوة لدى المبادر تفوق عما يحصل لدى المتلقي علوا بلا حدود.
التأمل الثالث: التواصل يشتمل على ركنين أساسيين 1)ايجاد الارتباط 2) نقل المعلومات. فالعمدة في الأول أي: الارتباط والاندماج والاقتران والنظام: هو لغة الجسد غير الكلامي. يقول علماء التواصل: أنه قائم بنسبة عشرة بالمئة على الكلمات وثلاثين بالمئة على النبرات الصوتية وستين بالمئة على لغة الجسد. والمصاديق المعروفة للغة الجسد في العبادات كثيرة منها: 1) رفع اليد إلى السماء 2) الأشعث الأغبر 3) الخشوع بأنواعه المتعلقة بالجسم والرأس والوجه والملامح ومنطقة العينين (على الخصوص) 4) البكاء وجريان الدمع 5) الركوع السجود، كما وان هناك مصاديق كثيرة لكنها غير مداولة، فقد روى علي بن داوود قال: رأيت ابا عبد الله عليه السلام في الوقف اخذ بلحيته ومجامع ثوبه وهو يقول بأصبعه اليمنى منكس الرأس: هذه رمتي (العظام البالية) بما جنيت. واما الركن الثاني (نقل المعلومات): فالعمدة فيه اللغة الكلامية حيث إنه بإمكانها ايصال ملايين المعلومات الدقيقة والعميقة مما لا يمكن ايصال جزء بسيط منها عبر الكتابة والرسم والصورة والاشارة وامثالها وكل هذه الخلاقية تحصل من خلال السمع والبصر.
التأمل الرابع: يحتوي الاتصال لامحالة على أثر لا يكاد يختلف وهو: (التفاعل) و(الاستجابة) و(الميل) من الطرف الاخر الذي يجري عليه الاتصال بخلاف الإنسان الذي يظهر تفاعلا معكوسا دائما وقد قال امير المؤمنين عليه السلام (اتق شر من احسنت اليه) وفي الدعاء المشهور (إنك تدعوني فأولي عنك وتتحبّب إلي فأتبغض اليك وتتودّد إليّ فلا أقبل منك) وهذه قاعدة عامة لا تكاد تتخلف إلاّ استثناء.
التأمل الخامس: الاتصال العدواني كما في استخدام القساوة في الحديث والتطاول في الطلب وكاستعمال العض والضرب في العمليات الغرامية والجنسية يرقي مستوى الانتباه في الفاعل والمبادر ويرقي درجة الإثارة والتفاعل والارتباط فيه ومن هنا فان الناس الذين يعنفون في الدعاء ويقسون في الكلام فانهم يبلغون أمالهم وأمانيهم وحاجاتهم والفضل يعود إلى الانتباه الشديد.
التأمل السادس: البنية التراتبية في جميع عمليات الاتصال ومنها العبادة والدعاء لا تكاد تبقى على وتيرة واحدة بل انها تقوم على اسس متغيرة ومتبدلة بشكل مستمر ودائم غير ثابته ولا مستقرة ولذا فان المستوى اذا كان في بعض الأحيان ساميا رفيعا فانه لامحالة يفقد محتواه شيئا فشيئا ويتحول إلى عملية خاوية فاقدة المعالم والمراسم وفاقدة الرونق والبريق (حسنات الابرار).
التأمل السابع: وهو الأهم في هذا البحث وهو محاولة اثارة المشاعر الإنسانية والعميقة لدى الخالق ومنبع الفيض واستحصال عطفه وشفقته وقد قال تعالى: «وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ» (المائدة/35) بصيغة الأمر والواجب ولاشك ان أعظم الوسائل هي ذكر محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم) وقد قال تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» (الأعلى/14-15) فأوجب بأن يقرن اسمائهم باسمه تعالى, وهو روح العبادة والدعاء ومغزاهما الذي لو يختلف فانه لا يوجب اللغوية والعبثية في العبادة والدعاء فحسب بل يتسبب الأثر العكسي فيهما حيث غضبه ومقته ولعنته فعن علي بن الحسين عليه السلام قال: مر موسى بن عمران عليه السلام برجل ويرفع يده إلى السماء يدعو الله فانطلق موسى في حاجته فبات سبعة ايام ثم رجع اليه ورافع يده إلى السماء فقال: يا رب هذا عبدك رافع يديه اليك يسألك حاجته ويسألك المغفرة منذ سبعة أيام لا تستجيب له قال: فأوحى الله اليه: يا موسى لودعاني حتي تسقط يداه وينقطع لسانه ما استجبت له حتى يأتيني من الباب الذي أمرته) وقد قال تعالى: «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» (البقرة/189) وفي وصية امير المؤمنين عليه السلام إلى ولده وشيعته عند استشهاده قال: نحن الابواب التي أمرتم أن تأتوا البيوت منها فنحن والله ابواب تلك البيوت ليس ذلك لغيرنا ويقوله أحد سوانا).
سماحة آية الله السيد حسين الشيرازي