11 صفر 1429 - 19/02/2008
خطة لإطلاق سراح 1500 معتقل شهريا وإصدار عفو عام مطلع العام المقبل، خطوة جديدة تبتغي الحكومة العراقية اتخاذها في إطار المصالحة الوطنية والسير بانفتاح أكثر نحو الجميع حسب تصريح أحد السادة مستشاري رئيس الوزراء العراقي.
قد يكون الحديث عن هذا النوع من العفو مشابها إلى حد كبير للحالة التي حدثت قبل سقوط النظام السابق عندما قرر قبيل الغزو (تبيض) السجون على حد تعبيره، هذه المرة الوضع مختلف كثيرا فأكثر المحتجزين يكاد يكونوا موزعين بين عدة سجون أمريكية وعراقية، أضف إلى ذلك طبيعة المتواجدين داخل تلك المحاجر والحالة التي اعتقلوا فيها، إما نتيجة لعمليات دهم لمناطق ساخنة أو مواجهات مع إحدى القوى الأمنية أو نتيجة لاعترافات بالاشتراك بالإرهاب تمويلا أو فعلا اوترويجا.
من الباب القانوني تنقسم الجرائم حسب تصنيفها القانوني إلى (جنايات وهي التي تنحصر عقوبتها بين السجن بما لا يقل عن ثلاث سنوات إلى عقوبة الإعدام، والجنح التي تنحصر عقوبتها بالسجن بما لا يزيد عن الثلاث سنوات إلى ستة أشهر، أما المخالفة فهي التي تكون عقوبتها منحصرة بين الستة أشهر إلى الكفالة المالية وهذا بطيعة الحال حسب القانون المعمول به في العراق وبلدان كثيرة).
ولكون أكثر المتواجدين الآن في السجون والمعتقلات هم ممن أدينوا بتهم الإرهاب أي وفق المادة 4 إرهاب في القانون العراقي وهي تندرج ضمن الجنايات وما تترتب عليها من عقوبة تعود بالدرجة الأساس لقناعة القاضي المختص البات في القضية، وهذا يعني إنهم وقعوا تحت إحدى التهم إما القتل أو الاختطاف... الخ، وهنا تكاد تكون الجريمة ومنفذيها من أرباب السوابق والمفرج عنهم في حالات سابقة (وطبعا لا نعني هنا الكل)، أي إن الأوامر الصادرة بالعفو السابق عن البعض لم تستطيع منحهم فرص جديدة في الانخراط في مجرى الحياة الطبيعي، بل أتاحت لهم فرصة أخرى بضمانة لارتكاب أخطاء اكبر.
الحديث عن الوضع غير المستقر للبلد وتقلب أحواله والأزمات الاقتصادية والسياسية التي عصفت وتعصف به يقبل منها بعض الشيء ولكن لا يجب أن يكون شماعة تعلق عليه الأخطاء، ولعل الإقدام على خطوة مهمة كهذه يستوجب منا الوقوف مليا قبل تنفيذها، وهنا لا نريد أن نقفز فوق أهل الاختصاص في هذا الجانب ونلقي بآرائنا بدون استشارتهم فلا نكون قد أعطينا مساحة لهم حتى في الحديث.
يرى علماء النفس أن الجريمة قد تكون ناتجة من عدة أسباب ومرتكبها يندفع بعوامل كثيرة من أهمها:
1- العامل الوراثي والناتج من تسلسل طبيعي للجريمة في تكوين العائلة وسهولة اندراج أبناءها في هذا المجال تحت أي عامل الخوف أو الطمع.
2- العامل الاجتماعي وطبيعة العلاقات المعتمدة مع باقي العوائل وأسلوب التعامل اليومي للفرد مع باقي أفراد عائلته.
3- العامل البيئي وضع الفرد بالنسبة لباقي أفراد المجتمع ومكوناته.
قد يرى البعض أسباب أخرى تكون ذات مساس مباشر على إنشاء الجريمة مثل كثرة الحروب أو تردي الحالة الاقتصادية وغيرها إلا إنها يمكن إدراجها جميعا في مجال البيئة أو المجتمع. إلا إننا نجد أن الدوافع التي من خلالها تم حجز اغلب السجناء في العراق تنقسم بين الدافع الوطني والدافع العقائدي السلطوي (حسب وجهة نظر البعض) فيما تقرئه الحكومة على انه تمرد على النظام السياسي الجديد والاشتراك ببناء مركب الإرهاب في داخل البلد، فالكثير من الأشخاص المحتجزين لدى القوات الأمريكية والعراقية تم اعتقالهم على خلفية رفضهم للوضع السياسي الجديد بصيغته الحالية أو لتواجد القوات الأجنبية على أرض العراق بصورة مطلقة، ونجد أن قضيتهم في مسألة العفو الذي يتحدث عنه السادة المسؤولون قد اختلطت بقضية من هم في السجون والذين تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء من العراقيين وبدافع الحقد الطائفي ودافع الوصول إلى السلطة، وهذا الخلط في المفاهيم يجب أن لا يتم بهذه الطريقة التي أشار إليها المسؤولون في الحكومة بخلط الأوراق وإطلاق سراح الجميع لان ذلك مخالف للعدل.
وللتركيز في الحالة العراقية ومدى صحة أو خطأ اتخاذ قرار مهم بهذا الحجم قد يكلف الدولة الكثير إن لم يحسب بصورته الصحيحة، وما يزيد الخوف أكثر إذا ما راجعنا مقدار العمليات العسكرية والجهود الكبيرة التي بذلت خلال سنوات عديدة في محاولات للقبض على أناس بمراتب مهمة من الجريمة والخطورة، ولكون قرار العفو إن تم بالفعل سيكون سلاحا ذا حدين فيمكن استخدامه في تهدئة المجتمع وكسب عناصر مهمة له أو قد يكون العكس.
وهنا لابد من الإشارة إلى بعض ما يمكن التركيز عليه في هذا الجانب:
1- حسب ما يعرف لدى أهل الاختصاص فان السجن (إصلاح وتأهيل) أي إن الفرد المخالف أو المتمرد على القوانين سيكون في حالة التوقيف تحت فترة مكرسة من التأهيل لإصلاحه وإعادته إلى الحالة الطبيعية، وهذا الأمر غير موجود وبشيء من الجزم في سجون العالم الثالث بصورة عامة والعراق بصورة خاصة، بل إن البعض يدخل السجن لمخالفة بسيطة ولكنه يخرج بعد فترة ليتحول إلى كتلة من الإجرام أو التفنن في ذلك، وهذا يعني بناء عملية عكسية تماما.
2- في الوضع الحالي فان الكلام يدور بشدة على إن التصفيات السياسية كان لها الدور الأبرز في قضية تسيير القضاء أو الاتجاه نحو فئة معينة من الجهات دون الأخرى، وهذا بحد ذاته سمعة غير طيبة وسابقة خطيرة تحيط بالقضاء العراقي وهو المسؤول الأول عن إبعادها ودفع الشبهة عنه في تطبيق الأنظمة والقوانين بصورة متساوية وبدون اثنينية في التعامل.
3- أصبحت قضية القبض والحكم ومن ثم العفو مسائلة متكررة لدى الشارع العراقي وهي علامة غير جيدة في أذهان المسيء والمتتبع على حد سواء فقد يدفع البعض حياته دون أي ذنب فيما يستطيع المجرم أو الجاني الخروج من قفص الاتهام نتيجة وضعية سياسية معينة دون الالتفات الى صاحب الحق الشرعي وهذا قد يخلق إجرام مقابل في طريقة اتخاذ الحق.
وسيلة أم هدف
مما لاشك فيه بان قضية إصدار العفو العام هي قضية سياسية في الدرجة الأولى وناتجة من حركة المارثون السياسي والمفاوضات الجارية في الساحة العراقية، أي بمعنى أخر هي لم تكن في واقع الحال مطلب إنساني في الدرجة الأولى كما يصور البعض، ربما تكون النتيجة واحدة بالنسبة للمفرج عنهم ولكن للسياسيين القضية هي قضية أملاءات وضغوط متقابلة بأسلوب عض الأصابع.
وهذا مما يزيد الأمر سوءا،إذا لم تكن بالفعل القضية ناتجة عن قناعة لدى الحكومة في ترطيب الأجواء وإعادة المعتقلين إلى ذويهم وفرز العناصر المسيئة عن المغرر بها، والسؤال المطروح هو لو لم تكن الحكومة والعملية السياسية تمر بأزمة التوافقات والتشنج السياسي ومبدأ (أعطيك وأعطني) هل كانت ستقدم على مثل هذا القرار؟.
نحن لسنا ضد فكرة المشروع ومقترحه بل على العكس تماما، فاحتواء أبناء البلد وإصلاح النفوس وتطيب الخواطر ومد يد العون حتى للمسيء ومحاولة إنقاذه من الأيادي الخارجية أو السقوط في دهاليز الجريمة المنظمة وتوسيع مساحة المصالحة هي الطريق الوحيد للنجاح، وترسيخ مفهوم مبدأ اللاعنف على منطق السلاح هو الطريق الأوحد لاستماع الجميع للجميع.
حيث يقول الإمام المجدد الشيرازي في ذلك (إن من الخطأ الاعتقاد بان الرحمة والأدب والاحترام تتنافى مع السلطة، إذ إن السلطة الحقة لا تبنى إلا على المحبة الناجمة عن العدل والرحمة الإنسانية).
وعليه يمكننا إجمال أهم ما يمكن قوله:
1- في إحدى التصريحات للسيد رئيس الوزراء المالكي عندما كان عضوا في لجنة كتابة الدستور تحدث عن قضية العفو قائلا(......لا يمكن أن يشمل العفو الذين قطعوا رقاب الناس وتلطخت أيديهم بالدماء، مؤكدا أن العفو يأتي عن الذين اختلفوا مع المسيرة السياسية وعارضوها إعلاما وممارسة وحديثا وفكرا)، ومن هذا التصريح نشير إلى أهم نقطة في الموضوع وهي الخطوة الأولى التي يمكن إن تبنى عليها باقي الخطوات إلا وهي الطريقة المثلى في فرز العناصر المسيئة مع سبق الإصرار وبدوافع وأهداف معينة وعزلهم في جهة معينة وتحريك القضاء تجاههم بصورة اكبر وعلنية ليكون بمثابة رد الحقوق للمظلومين قبل كل شيء.
2- إصدار قرار بتعويض ضحايا الإرهاب من المدنيين ولاسيما ضحايا التفجيرات والاختطاف والقتل الطائفي والتهجير، وإعادة المهجرين بوتيرة أعلى وراب الصدع بين المناطق الساخنة وتكريس الجانب الإعلامي لبيان العراق الجديد في احتضان الضحية ورعايتها وإصلاح المسيء والمخطأ ومتابعته لبناء فكر ومجتمع متماسك.
3- العمل التدريجي بهذا القرار والبدء بأول المعتقلين وبالتدريج في زمن الاعتقال والمتهم الذي لم تثبت إدانته فالمخالف لتليها الجرائم الصغيرة وهكذا دواليك.
4- إنشاء لجان خاصة لمتابعة وتطوير وتشغيل المعتقلين ممن ثبتت إدانتهم بجرائم غير القتل والإرهاب لإعادة دمجهم في الحياة المدنية وتأهيلهم من الجوانب الاجتماعية والعلمية والثقافية.
5- وضع جدول زمني للقرار لكل المتهمين الفارين لتسليم أنفسهم للقضاء قبل العفو وتحديده بفترة معينة لتبدأ بعدها فترة إصدار قرارات مشددة بحق الباقين في هذا المسار والعائدين إلى نفس الجرائم ولو بفترات زمنية معينة وشن حملات عسكرية واسعة ضد المناطق التي تبقى على وضعية عدم الاستقرار.
6- عدم شمول الجنسيات غير العراقية بالقرار وتنفيذ الإحكام الصادرة بحقهم وتسريع محاكمة الباقيين وجعلها علنية.
وفي وجهة نظر البعض من المحللين فان هذه القضية ستكون بمثابة اختبار لقدرة الحكومة في التعاطي بموضوع على مرتبة عالية من الحساسية، وإذا ما تم بصورة صحيحة ودقيقة فانه سيكون خطوة كبيرة نحو فتح آفاق جديدة ومنعطف كبير في تغيير صورة الحكومة وتحسينها ولكن سيكون كارثة حقيقية ومشكلة معقدة في حال تخبط القرار وعدم وضع رؤى إستراتيجية له أو في حال الرضوخ لضغوط خارجية في تنفيذ فقراته.
عدنان الصالحي/ مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://www.shrsc.com