24 ربيع الأول 1429 - 01/04/2008
لقد جرت العادة أن تتطلع المجتمعات بعيون مشنوطة وتستمع بآذان مفتوكة إلى الدور الانقاذي للمنتوفين من المثقفين في أوقات اللكمات والأزمات والدك بوكسات أو في لحظات التحول ومنع التجول، والقمر الخاسف والريح العاصف، كنوع من الإقرار والاعتراف لهم بأهمية الدور الخاص بهم في الرد والصد والسد في وجه ما يستجد من تطورات، وفي بناء وتفليش، وبيع وعي نقدي (غير مؤجل) وأفكار جديدة تلبس أحدث ملابس الشفافية الداخلية، يفترض أنهم أقدر المعنيين ببنائها، الأمر الذي يفسر إلحاح وإصرار السؤال ليل نهار عن حال المثقفين المنتوفين والمسلوخين اليوم وما يمكن أن يفعلوا مع تسارع انكشاف أزمات مجتمعاتنا القبلية العربية والفشل البين والواضح وضوح الخال الأسود في الخد الأبيض ليلة الدخلة للمشروع السياسي في بنجره عجلة التدهور والتعثر والتدحرج الحاصل أو الإمساك برشمة وزمام بعير المبادرة لبدء رحلة عد عكسي إلى الوراء نحو التجاوز والتقافز والتقدم.
وعلى الرغم من أن المثقفين لا يشكلون كتلة متجانسة من الحصى والإسمنت موحدة الأهداف والأرداف والاهتمامات بل هم جماعة زرق ورق متنوعة تخترقها وتطرها طراً سكاكين وخناجر ومناجل المصالح والصراعات والعركات الاجتماعية إلا أن ثمة شيخ محشي يجمعهم في الباذنجان واليقطين ودولمة ورق العنب أو السلق بصفتهم أشد الناس إلتصاقاً بمعجنة المعرفة وأقربهم إلى تحكيم العقل وأكثرهم ابتكاراً للنظريات الهوائية وأشدهم نفخاً في البالونات المثقوبة وعمل الحلاوة في القدر المزروف، والأكثر استعداداً للتعبير الإبداعي عن هموم البشر مما يضع على عاتقهم وترقوتهم وكوكتهم مواجهة حالنا البائس والتعيش بمختلف أزماته ومآزقه السياسية والاجتماعية ومهمة المبادرة إلى تأسيس وعي نقي تاريخي وجغرافي، فيزيائي وكيميائي مأخوذ من مسلة حمورابي على ورق شرق أوسطي وفق قاعدة أرخميدس تتفاعل فيه كاربونات الصوديوم مع كلوريد البوتاسيوم لينتج ملحاً حول مسائل إشكالية لم يستطع النفاق الثقافي العربي التأسيس لها أو أنه عممها بصورة عوراء شمطاء مشوهة، وهي خطوة يمكن أن تعيد للمثقف النقدي حضوره ودوره وتألقه وبريقه المفقود في زمن التلوث البيئي والفكري العربي.
ومن أجل ذلك فلابد للمثقف من فك القماط والارتباط المرضي في علاقة المثقف بالسياسة، ولا نقصد هنا القطيعة ودق طبول الحرب بين جبهتي النشاط الثقافي والسياسي، بل بتحديد وحفر الحدود والتخوم بدقة بالشيفرات والبلطات وقراءة كف الاختلاف بوضوح مما يؤدي إلى إطلاق سراح المثقف من ماضٍ سيطرت فيه العوامل والعواذل والأهداف وحراس الأمن والمخابرات على مسارات حياته وإنتاجه المعرفي، خاصة ذلك الدور الإرهابي المدمر بالدم الذي لعبته يد السلطة السياسية الخبيثة ترغيباً وترهيباً، لإخضاع وإركاع وسجود المثقفين واحتوائهم واحتواشهم .
ومن البديهي أن تحتاج السلطة أية سلطة خصوصاً إذا ما كانت عربية شرق أوسطية لتثبيت خوازيقها ومرابطها وركائزها إلى عملية إنتاج فكرية نفاقية داعمة ومن ثم الحاجة إلى وجود مثقف نص سلق ويشد لها الحزام وسط آيديولوجيتها من أجل تعضيد وتسنيد النظام الثوري الخرافي، وضمان تأييد الناس لهم وقبولهم بها غصباً على آبائهم وأجدادهم حتى الجد العشرين.
وليس من المبالغة إذا ما قلنا إن الأنظمة القبلية الجاهلية السياسية التي حكمت مجتمعاتنا العربية طيلة العقود الماضية نجحت في غرس وزرع فئات وفصائل وأجناس شتى من المثقفين الموالين حتى النخاع لها والذين اصطلح على تسيمتهم بمثقفي ومنظفي البلاط، بدءاً بأولئك الذين أقروا على أنفسهم بالصم والبكم والعمى والخرس واحترفوا السلبية تجاه ما يجري من مآسٍ في مجتماتهم ومعاناة ناسهم، ثم يليهم من قدموا تطوعاً ومن دون مقابل بعض أشكال الدعم والمساندة، وقبّلوا نعال السلطان، ثم اكتفوا من الغنيمة بمصمصة العظام فوق مائدة الخليفة حفظه الله ورعاه وسدد جميع ثقوبه وعثّر خطاه وأوصلته إلى نار جهنم، وخلّص الناس من بلواه.
وكان الأسوأ من أولئك المثقفين ممن اندمجوا في شهوة ورغبة السلطة العاهرة ومغانمها ومفاتنها، وصارت مهمتهم تبرير سياسة الحاكم وتسويغ ممارساته الجنسية والاستبدادية والارتدادية والاندفاعية والتقدمية القومية والدفاع عن ظلمه وبطشه وتلميع بابوجه وطربوشه والتربيت على كتفه وكرشه وما تحت صرته، فغاب دور المثقف النقدي وتصدرت قائمة المبدعين وجوه كالحة صفراء وسخة اتقنت الترويج لثقافة الوضع الانتصابي القائم وأسسه السيادية، بل كانوا أداة فاعلة في محاربة ومشاجرة ومعاركة قلة قليلة من أبناء شحمتهم بقوا أمناء للهم والغم العام وحقوق الناس.
لكن سيطرة السياسة وقوتها وأذرعها الطويلة التي تمتد عبر المنبوذين وذوي العاهات الأخلاقية والخلقية والذين مردوا على الانحرافات والشذوذ قد مكنها من اغتصاب الثقافة مما جعلها تنجب مثقفين من أبناء... يرافقون السلطان يزمرون ويطبلون له أينما حل كأنهم إحدى الفرق الغجرية (الكاولية)، وثمة فئة أخرى ليسوا أحسن حالاً أو أخلاقاً من رفاق السلطان و(كاوليته) داروا في فلك الأحزاب المعارضة وعاشوا في مكاتبها الرطبة المظلمة والكيئبة كجرذان الانفاق و... ولم يميزوا أنفسهم كحملة مشروع خاص يتطلع إلى الاستقلال عن الأفعال السياسية الخبيثة والشاذة والثقافية، ومساعدة المجتمع على التحرر والتطور والبناء، فرضوا من حيث المبدأ بأخضاع أنفسهم وأقلامهم ووظيفتهم الثقافية والمعرفية للإيجار والغرض السياسي وإن من موقع آخر، واندمجوا بالتنظيمات وذابوا وانصهروا، وماعوا حتى لم يعد التمييز بين جلدتهم وجلدة السياسي الحربائية وحولوا أنفسهم إلى شلة من المحاربين أو جوقة من الاتباع أو لنقل ما يشبه الدمبكجية تدافع عن سياسات وانتهاكات أحزابهم وبرامجها النفاقية، فألقى الشيطان السياسي وبشخطة قلم في لحظة من لحظات النضال بين أروقة السيقان المرمرية البيضاء دور المثقف المعجون بالدهن الحر، فرفس ودفر وركل حتى اثمرت نتائج الدك عن إجهاض الثقافة صاحبة اللسان الطويل، وسقط جنينها بين قدميها بعد أن فاجأها النزف الشديد، وضاعت فرصة ثمينة ثقيلة الوزن لنمو الفعل المعرفي باستقلالية بعيداً عن أفكار السادة شياطين السياسة المحترمين وعراكهم وصراعهم مما أدى إلى المزيد من تراجع مكانة المعرفة وكأنها واحدة من بائعات الهوى والجنس الرخيص التي كانت أيام عزها وجمالها الأول غاية وهدف يسعى الجميع وبشتى رسائل الإغراء إلى امتلاك قلبها، حتى أمست وسيلة انتقالية مثل سيارة الأجرة يسعى بعض أنصاف المثقفين والعربنجية إلى استغلالها لجلب المزيد من المؤيدين المراهقين إلى صفوف حزب ودعم مواقعهم الاستراتيجية بعبد منتصف الليل وقبل طلوع الفجر وبيان الخيط الأسود في الساق الأبيض عند ملتقى التلتين.
ومما لاشك فيه أن الدكان الثقافي يختلف عن المكتب السياسي، فالدكان الثقافي يتميز بثباته النسبي وبكينونته وصيرورة مفعول بها محذوفة ترتبط بديمومة واستمرارية الإنتاج المعرفي الحلوائية والسكرية والغذائية المساندة للبطاقة التموينية بخلاف المكتب السياسي الذي يتغير مديره بين الحين والآخر حسب الحال والحبيب والأصوال والأحوال والموصول بالحاضر في جريانه وفيضانه وتطوراته الذي يرتهن في تنوع مواقفه وتبدلها من الشمال إلى الجنوب ومن اليمين إلى اليسار إلى توازن القوى والأصابع الشاذة وما تفعله في كل لحظة من اللحظات المخابراتية التاريخية.
ومعنى ذلك أن تغيير الذهنيان والدماغيات واليافوخيات وأنماط الوعي وأشكاله وأنواعه يقتضي فعلاً ودكاً معرفياً وزمناً أطول بمترين ونص من زمن المبادرة السياسية الشيطانية وفعلها المباشر، ولهذا السبب تأتي أدوار المنتوفين ووظائفهم ضمن أصول التأسيس ودك الأساس الأسمنتي الراسخ للمنظومة كسقف وقاعدة وأرضية أشمل يمكن أن تستند إليها السياسة بنت الحلال الشريفة في تربية بناتها وأولادها وبناء مهماتها وأهدافها من دون ان تتعرض للتحرش من أي طرف كان مهما كان موقعه وسطوته وإغراءاته وشيطنته.
ولابد من إطلاق سراح المثقف من سجن الآيديولوجيات وتنظيف مرآة وعيه من كل عوالق القومية وشوائبها وشذوذها وعصبيتها وجاهليتها العمياء، وإفراغ حشوته وجلدته وعظامه من الليبرالية، ومسح ذاكرته ويافوخه من الشيوعية والتطرف بكل اشكاله وانواعه، خصوصاً بعد التحولات والفقاعات الكبرى التي حصلت في العالم خلال الربع الأخير من القرن العشرين، وفشل الكثير من الاختيارات الآيديولوجية والفلسفات الإرادوية والحتمية، ولم يعد - ما نكدر بعد - بإمكاننا أن نواصل ونستمر بالتفكير بنفس الآليات والأدوات الدرنفيسية نفسها، كما لا يمكن أن نتصور وجود جماعة من بني البشر قادة بمرجعية فكرية مستنسخة طبق الأصل أو محورة على إنجاز الأهداف التاريخية من منطقة الجزاء وتجاوز إمكانيات خط الوسط والدفاع والهجوم في الواقع الملموس والمنحوس زمانياً ومكانياً.