16 شعبان 1429 - 18/08/2008
إن للإنسان، في مراحل حياته المختلفة، استعدادا ذاتيا للسلوك العنفي، أو اللاعنفي. بيد أن هذا الاستعداد، بحد ذاته، لا يجعل الإنسان موصوفا بالعنف أو عدمه، لأنه مجرد استعداد محض. فيدي الإنسان ورجليه - مثلا- آلة من آلات استخدام العنف، ولكن وجودهما في الإنسان، لا يعني أن الإنسان عنيف، بل، يعني استعداده لممارسة العنف، بواسطة اليدين أو الرجلين.
هذا الاستعداد الفطري للإنسان، ونزعته نحو اللاعنف أو العنف، يظل مرهونا، إلى حد ما، بطبيعة المؤثرات الخارجية التي تضغط على الإنسان سلبيا أو ايجابيا. فنوع المؤثر الخارجي، من جهة، والاستعداد النفساني لتقبله، من جهة ثانية، هما اللذان يحددان، في الغالب، السلوك المتوقع للإنسان، سواء كان سلوكا سويا، أو سلوكا غير سوي.
والمؤثرات الخارجية التي تضغط على الإنسان، وتتحكم في سلوكه، قد تكون مؤثرات سلبية، وقد تكون مؤثرات إيجابية، فأما المؤثرات السلبية الضاغطة، فهي تدفعه دفعا نحو العمل العنفي، بينما المؤثرات الايجابية، فأنها تحثه وترشده نحو العمل اللاعنفي.
فالطفل -على سبيل المثال- الذي يترعرع في بيت، تتكرر فيه -على الدوام- مشاهد سلبية، مثل: السب، والشتم، والضرب والعراك، والغش، والكذب، والسرقة، وغيرها من أعمال العنف، يكون عنده استعداد أكبر للخشونة والعنف. حيث يتمثل رد فعله، في أول مواجهة له، باستخدام الأدوات العنفية التي اكتسبها بسرعة، والتي لديه قدرة على استخدامها، بما يتناسب وطبيعة الند الآخر. فان كان الند كبيرا، فأنه، يلجا -عادة- إلى استخدام السب والشتم. وإن كان الند صغيرا، فأنه، لا يتوانى أن يستخدم السب والشتم والضرب معا.
أما الطفل الذي ينمو بين أحضان والديه نموا طبيعيا، ويرى الانسجام والود بينهما، ولهما بيت مناسب، ومرتب يكفيهم، وعلاقات جيدة مع الأقارب والجيران، ويسمع الناس يمتدحون والديه لعظم أخلاقهما، ويثنون على أسرته لحسبها ونسبها وعلومها، فانه يكبر، وهو واثق من نفسه، ومن علاقاته، فإذا واجهته مشكلة ما، فانه يتعامل معها من خلال موروثه الايجابي الذي أكتسبه على شكل دفعات وشحنات إيجابية، كونت -فيما بعد- شخصيته، وأسلوبه، وطريقته في التعامل مع الأحداث والوقائع.
إلا أن الإنسان، وهي مشكلة العالم كله، خاصة في مناطقنا، لا ينشأ في ظل مؤثرات ايجابية، وإن كانت، فهي نقطة في بحر. حيث نتعرض –جميعا- في البيت، وفي المدرسة، وفي الشارع، وفي علاقاتنا مع الأخوان والأصدقاء والأقارب، وفي توجهاتنا السياسية، والاقتصادية، والفكرية، إلى أنواع مختلفة من المؤثرات الخارجية السلبية الضاغطة، اقلها عدم الاحترام، والتأنيب، والتقليل من قيمة الشخصية، وعدم المبالاة بإبداعاتنا وخبراتنا.
وكلما استمرت هذه المؤثرات السلبية، أو كانت أوقع أثرا على نفس الإنسان، كلما ازداد ميله إلى السلوك العنفي. ويظهر ذلك جليا، في سلوكه المشدود، فهو عصبي في الأغلب، لا يتحمل، ليس له مزاج، لا يرد أن يسمع الآخرين، ولا يحترم وجهات نظرهم، عنده رغبة في انجاز مطالبه وتحقيقها على حساب الآخرين، يغضب من أول لحظة يشعر فيها أن الحديث لا يروق له.
هذا الاستعداد العنفي واللاعنفي يتساوى فيه الرجال والنساء، على حد سواء، إلا أن النساء بالنظر إلى بنيتهن الجسمانية والنفسية والبيئية، قد يفضلن نوعا آخر من العنف، فهن يملن إلى الحيلة والمكر، والغش والكذب، وكلما تمكنت منهن المؤثرات السلبية، كلما انحرفن باتجاه ممارسة العنف الأقوى الذي يبدأ من الانحراف في السلوك، وينتهي عند الرغبة في الانتقام والقتل، ممن هو أحب الناس إليهن. كما يحدث مع المرأة التي تحب زوجها حبا جما، ثم تقتله أشد قتلا ، عندما يتزوج بأخرى.
وكذلك، فان الاستعداد العنفي واللاعنفي، لا ينحصر في إطار الفرد، بل، هو أيضا استعداد للمجتمع بأسره، فالمجتمعات الإنسانية، كمجتمعات"قرية، مدينة، دولة، أمة"، تتعرض إلى المؤثرات والضغوط السلبية والايجابية، وهي تؤثر بحسب قوتها وتقبلها على سلوك المجتمع بشكله العام، فالمجتمعات الإنسانية التي تشهد أوضاعا سياسية واقتصادية وأمنية مستقرة، تميل إلى تغليب منطق اللاعنف والسلام والمحبة، على منطق العنف، والإرهاب، والتطرف.
فإذا تعرضت هذه المجتمعات الهادئة إلى مؤثرات خارجية سلبية طبيعية "فيضانات، زلازل" أو غير طبيعة "نزاعات أو حروب" فانك تلمس تعاطفا كبيرا بين أفراد المجتمع، وتعاونا لا محدود من أجل عودة الهدوء، واستتباب الأمن. وذلك بخلاف المجتمعات الإنسانية التي لا تعرف الاستقرار السياسي، أو تعاني من تردي أوضاعها الاقتصادية، أو تنتقل من حرب إلى حرب، فان مثل هذه المجتمعات تظهر فيها كثيرا حالات العنف اليومي، لأن ممارسة العنف أضحى مألوفا، لدى معظم أفراد المجتمع.
في برامج الكاميرا الخفية، في الدول الأوربية، نرى مشاهدا قد تغضب الآخرين، مثل ضربهم، أو البصق عليهم، أو سرقتهم، وإيقاعهم في الماء، ولكن لا نشاهد أي مشهد عنفي يصدر من هؤلاء المواطنين، بل يتعاملون معه باندهاش، وتعجب، وهدوء. ويضحكون إذا ما عرفوا الحقيقة.
أما برامج الكاميرا الخفية التي تجري في بلادنا الإسلامية والعربية، فان الكثير من مقدمي هذه البرامج: إما ضربوا، أو شتموا، أو ألغيت برامجهم، بسبب الخشونة، وردة الفعل العنيفة التي يتعرضون لها من المواطنين، لان هؤلاء المواطنين يحملون فكرا مفاده: أن الآخرين لا يحترموننا، وعلينا أن نوفر الاحترام لأنفسنا بالقوة، "طبعا هذا الفكر واقع حال"، وبالتالي، مجرد أن نشعر أن أحدا من الناس، يريد ينتقص من شخصيتنا، فإننا لا نتوانى عن سبه، وشتمه، وضربه، حتى عندما نعرف الحقيقة؛ ويعتذر لنا مقدم البرامج، فإننا، نذهب غاضبين، غير راضين، فيفقد البرنامج هدفه في إسعاد المشاهدين.
لكن السؤال المهم للغاية، هو هل يتحول السلوك العنفي عند البشر إلى إستراتجية، بحيث تكون الأعمال العنيفة ملازما طبيعيا للإنسان الذي تعرض على هزات عنيفة؟
لا نميل إلى هذا الرأي ابدأ، ولا نشجع على تبنيه، نعم، يمكن أن يتحول السلوك العنفي إلى إستراتيجية، لدى بعض الأشخاص الذين اعتادوا على ممارسته فترة طويلة، بيد أن العنف يصطدم بمقومين طبيعيين، احدهما داخلي وهو الوعظ الضميري والأخلاقي الذي يؤنبه دائما على كل عمل قبيح وعنيف يقوم به. والثاني خارجي، ويتمثل في عدم رضا الناس عنه، ورفضهم لأي سلوك عنيف، مهما كانت دوافعه ومبرراته.
فلا تجد أحد عاقل يقول: إن القتل فضيلة، أو أن السرقة فضيلة. بعكس العمل اللاعنفي فهو عمل يرعاه الضمير والأخلاق، ويحتضنه الناس في أي مكان أو زمان كانوا، فلا تجد احد يمنعك عن عمل الخير، أو مساعدة الآخرين ومعونتهم، وبالتالي، فان العمل العنفي مهما بلغ من حدة، فانه، يظل عملا تكتيكيا، مؤقتا، قابلا للتغير والزوال، وصاحبه إذا رجع عنه، وندم على فعله، تُقبل توبته، بينما العمل اللاعنفي عملا استراتجيا، نرغب فيه، وندعو إليه، لأنه يمثل الفضيلة دائما.