23 شوال 1430 - 14/10/2009
يمثل أئمة أهل البيت المعصومين أبناء العترة المحمدية المطهرة (عليهم صلوات الله وسلامه) الركن الأساسي الثاني للإسلام المحمدي الأصيل، وذلك بإقرار من النبي الأكرم محمد (صلى عليه وآله)، الذي تعتبر أقواله وأحاديثه بمثابة تعاليم وتوصيات إلهية، على ضوء ما تفيد به الآية القرآنية الكريمة (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، ومن هذا تتبين قدسية حديث الثقلين المشهورة الذي جاء على لسان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وتقر بصحته جميع المذاهب وفقهاء الشريعة ومضمونة: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً).
من هنا تتضح حقيقة أهل البيت (عليهم السلام) وموقعهم ودورهم الأساسي في ضمان وديمومة مسار الرسالة السماوية وصيانة مبادئها وقيمها.
إن عملية الإقصاء والتغيب عن المواقع في الدولة الإسلامية، التي مورست تجاه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) والتي لم تكن تشكل مانعاً حقيقياً لهم أمام ممارسة دورهم الذي تم التخطيط له من قبل صاحب الرسالة.
وهنا لابد من الإشارة إلى التصور الشائع لدى كثير من الناس اعتقاداً أن يقيموا الأئمة (عليهم السلام) بوصفهم أناساً مظلومين قد أقصوا عن مركز القيادة، وأقرت الأمة هذا الإقصاء وذاقوا بسبب ذلك ألوان الاضطهاد والحرمان، فهؤلاء الناس يعتقدون أن دور الأئمة (عليهم السلام) في حياتهم كان دوراً سلبياً على الأغلب نتيجة لتغييبهم عن مجال الحكم.
كان أئمتنا (عليهم السلام) يحافظون على المقياس العقائدي والرسالي في المجتمع الإسلامي ويحرصون على أن لا يهبط إلى درجة تشكل خطراً ماحقاً وهذا يعني ممارستهم جميعاً دوراً إيجابياً فعالاً في حماية العقيدة وتبني مصالح الرسالة والأمة.
ومن أمثلة تلك الأدوار الإيجابية موقف الإمام علي (عليه السلام) حين صعد عمر بن الخطاب وتساءل عن رد الفعل لو صرف الناس عما يعرفون إلى ما ينكرون، فرد عليه الإمام (عليه السلام) بكل وضوح وصراحة: (إذن نضرب الذي فيه عيناك!!) [مناقب الخوارزمي: 98-99].
وعندما وجد الإمام الحسين (عليه السلام) إن الزعامة المنحرفة أصبحت تهدد كيان الإسلام في عصره لم يتردد في الاصطدام المسلح بها والشهادة في سبيل تعريتها وكشف زيفها.
وحينما وجد الإمام السجاد (عليه السلام) أن هناك ما يهدد كرامة الدولة الإسلامية في عصر عبدالملك وعجز هذا الأخير عن حماية اعتبارها، فلم يستطيع الإجابة على رسالة ملك الروم التي جاء فيها: (لأغزونك بجنود مائة ألف ومائة ألف ومائة ألف)، فكتب عبدالملك إلى الحجاج أن يبعث إلى زين العابدين (عليه السلام) ويكتب إليه ما يقول؟
... فقال الإمام (عليه السلام): (إن إلله لوحاً محفوظاً يلحظه في كل يوم ثلاثمائة لحظة ليس فيها يوم إلا يحيي فيه ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء وإني لأرجو أن يكفيك منها لحظة واحدة، فكتب عبدالملك بذلك إلى ملك الروم، فلما قرأه قال: ما خرج هذا إلا من كلام النبوة!! [ابن شهرآشوب: المناقب]، حيث ملأ الإمام السجاد هذا الفراغ وأجاب بالشكل الذي يحفظ الدولة وللأمة الإسلامية هيبتها.
وفي عصر الإمام الباقر (عليه السلام)، واجه عبدالملك تحدياً آخر من ملك الروم بشأن النقد وعجز عن الرد عليه، فكان الإمام (عليه السلام) في مستوى الرد على هذا التحدي فخطط للاستقلال النقدي الإسلامي.
وقد تمثل الدور الإيجابي بالأئمة في الحفاظ على سلامة العقيدة الإسلامية من خلال مقاومة التيارات الفكرية التي حاولت الدس للإسلام، وما مناظرات الإمام الصادق (عليه السلام) مع الزنادقة والملاحدة والمغالين، ومناظرات الإمام الرضا (عليه السلام) في مجالس المأمون مع أصحاب الديانات الأخرى والمذاهب الفاسدة إلا دليل على حرصهم على تموين الأمة بشخصيتها الرسالية والفكرية.
الأئمة ومسألة استلام الحكم
لم تكن مسألة إقامة الحكم وترسيخه متوقفة في نظر الأئمة (عليهم السلام) على مجرد تهيئة حملة عسكرية، بل يتوقف قبل ذلك على إعداد جيش عقائدي يؤمن بالإمام وعصمته إيماناً مطلقاً. ويعي أهدافه الكبيرة ويدعم تخطيطه في مجال الحكم ويحرس ما يحققه للأمة من مصالح على نحو يضمن تحقيق تلك المصالح.
قصد سهل بن حسن الخراساني الإمام الصادق (عليه السلام) يعرض عليه تبني حركة الثوار الخراسانيين فأجل جوابه، ثم أمره بدخول الناس فرفضن وجاء أبو بصير فأمره الإمام بذلك فسارع إلى الامتثال، فالتفت الإمام (عليه السلام) إلى ثوار خراسان وقال: لو كان بينكم أربعون مثل هذا لخرجت لهم.
وعلى هذا الأساس تسلم أمير المؤمنين (عليه السلام) زمام الحكم في وقت توفر فيه ذلك الجيش العقائدي الواعي متمثلاً في الصفوة المختارة من المهاجرين والأنصار والتابعين من أصحابه (رضوان الله عليهم).
وفضلاً عن ذلك فإن ممارسة القيادة ليس أمراً مشروطاً بالجلوس على عرش أو في منصب أو تحت عنوان، فالقيادة الحقيقية هي التي تعمل بوعيها وتقديرها لحاجة الأمة ومتطلبات العصر والظروف المحيطة به، ويكفينا أن نذكر هنا أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مارسوا مبدأ التقية في ظل زعامتهم للأمة ولك أن تتصور صعوبة موقف الزعيم عندما لا يكون بعيداً عن مصدر القرار فحسب، بل ويُظهر أمام السلطة الحاكمة خلاف ما يعتقد ويبطن وفوق ذلك، أصبح استخدام التقية رغم إقرارها في الكتاب والسنة مصدراً لاتهام الأمة وشيعتهم رغم إن المذاهب الأخرى قد استخدمت نفس المفهوم بصيغة أخرى عندما أجازت السكوت على الحاكم بحجة قطع دابر الفتنة!!
وأما التسلسل التاريخي للأحداث يمكن استنباط اتجاهين رئيسين كانا يمثلان قوام ما حرص أهل البيت (عليهم السلام) على تحقيقه في التجربة الإسلامية بعد انحرافها:
الاتجاه الأول: هو محاولة القضاء على الانحراف الموجود في تجربة المجتمع الإسلامي وإعادتها إلى وضعها الطبيعي، وذلك من خلال إعداد طويل المدى وتهيئة للظروف الموضوعية التي تتناسب وتتفق مع ذلك الهدف.
يوضع هذا الاتجاه قول الإمام علي (عليه السلام): (أما والله لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها).
والاتجاه الثاني: هو تعميق الرسالة فكرياً وروحياً وسياسياً للأمة نفسها بغية خلق التحصين الكافي في صفوفها لكي يكون درعاً يمنع انهيارها بعد تردي التجربة وسقوطها، أي إيجاد قواعد واعية في الأمة وإيجاد روح رسالية فيها وإيجاد عواطف تجاه هذه الرسالة في الأمة.
ولم تكن واقعة كربلاء مانعاً للإمام علي بن الحسين (عليه السلام) من الانطلاق في آفاق المصلحة الإسلامية العليا، فقد عرف عنه أنه كان يدعو للجيش المرابط في الثغور بالنصر والظفر لأن انتصاره سيكون انتصاراً للإسلام والأمة لا لشخص الحاكم وسيكون انتصاراً للمفاهيم والقيم الإسلامية.
وقد اشتهر عنه (عليه السلام) أنه أنقذ عبدالملك بن مروان من تهديدات ملك الروم التي مرت الإشارة إليها. ومن مصاديق الانطلاق في آفاق مصلحة الأمة، إن الإمام (عليه السلام) لم يفكر باللجوء إلى دولة كافرة هربواً أو خلاصاً من ظلم أو اضطهاد الأمويين.
وفي علاقاته داخل المدينة كان لا ينطقع عن الأعمال والمشاريع العامة كصلاة الجماعة وصلاة الجمعة وصلاة العيدين فهو يتحرك في إطار المشتركات بينه وبين الآخرين ويسعى لتوحيد الصفوف ولو ظاهراً من خلال المشاريع أو العبادات التي تؤدي جماعة.
وكان الإمام الباقر (عليه السلام) يوجه أتباعه وأنصاره إلى إقامة العلاقات مع المخالفين من أتباع السلطان أو من أتباع المذاهب الأخرى ومسايرتهم في نقاط الاختلاف لكي تكون المظاهر واحدة لا توحي بالتمزق والتشتت.
وكان (عليه السلام) يدخل في حوار هادئ مع الفقهاء من مختلف المذاهب والاتجاهات للوصول إلى نقاط الاشتراك والتوجيه منها إلى العمل المشترك أو من أجل المصلحة الإسلامية العليا، وكانت له علاقات وثيقة معهم كعبد الله بن الأزرق وقتادة بن دعامة البصري وعبد الله بن معمر الليثي.
وكان (عليه السلام) يسدد الحاكم نحو الصلاح ويبدي نصائحه وتوجيهاته القيمة لكي تكون أفكاره وممارساته منسجمة مع الخط العام والأسس العامة للرسالة الإسلامية، وكان عمر بن عبد العزيز محط أنظار الإمام (عليه السلام) لاستجابته للنصائح والإرشادات المنطلقة من الإمام (عليه السلام) ومن نصائحه قوله (عليه السلام): (واتق الله يا عمر، وافتح الأبواب وسهل الحجاب وانصر المظلوم ورد المظالم... ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان)، فجثا عمر على ركبتيه ثم قال: (إيه يا أهل بيت النبوة)، فقال (عليه السلام): (يا عمر من إذا رضي لم يدخله رضاه الباطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له).
وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يحث أنصاره على المشاركة في صلاة الجماعة التي تقام من قبل الولاة حفاظاً على الألفة والأخوة وتحقيقاً للوحدة في أحد مجالاتها، وهي ممارسة العبادة جماعة.
وكان ينصح الحكام بما هو صالح لخدمة المصلحة العامة وكان لا ينظر إلى شخص الحاكم فليس المهم أن يحكم فلان أو فلان أو الإمام، ولكن المهم تطبيق المفاهيم والقيم الإسلامية في الواقع، فكان يقول (عليه السلام) للمنصور: (نحن لك أنصار وأعوان ولملكك دعائم وأركان ما أمرت بالمعروف والإحسان في الرعية أحكام القرىن وأرغمت بطاعتك أنف الشيطان).
وكان الإمام الرضا (عليه السلام) كثير النصح للحكم العباسي المأمون فيه صلاح الإسلام والأمة، فقد صدرت منه توجيهات قيمة في كيفية إدارة البلدان المفتوحة بما ينسجم مع مصلحة الأمة والحيلولة دون حدوث تصدح الجبهة الداخلية، ومن أجل المحافظة على وحدة الأمة الإسلامية ومنعها من التفكك والتصدع بفتن داخلية نابعة من حب التسلط وحب الزعامة، كان الإمام (عليه السلام) ينصح المأمون ويرشده إلى اتخاذ الموقف المناسب تجاه الأحداث والأشخاص، فقد أخبره بأن هناك مؤامرة لقتله تدبر له في الخفاء بعد أن اطلع الإمام على تفاصيلها.
وهكذا كان لأهل البيت (عليهم السلام) في حياة الأمة الإسلامية دور فاعل وخلاق ومتوازن تحت جميع الظروف وفي ظل التداعيات بما فيها دورهم الواضح في الحفاظ على العقيدة الإسلامية من الاندثار والاضمحلال.