26 رجب 1429 - 30/07/2008
يوم بُعث النبيُّ الأكرم (صلّى اللّه عليه وآله) لهداية الناس، ودوّى في سمعه الشريف نداء إنك لرسول اللّه الصادر عن ملاك الوحي أُلقيت على كاهله مسؤولية كبرى وثقيلة جدّاً، على نمط الوظيفة الهامة التي أُلقيت على كاهل من سبقه من الأنبياء والرسل (صلوات اللّه عليهم أجمعين)، منذ ذلك اليوم اتضح هدف أمين قريش، أكثر فأكثر، وتجلت خطته أكثر فأكثر.
يقع جبل حِراء في شمال مكة ويستغرق الصعود إلى غار حراء مدة نصف ساعة من الزمان، ويتألف من قطع صخرية سوداء، لا يُرى فيها أيُّ أثر للحياة أبداً ويوجد في النقطة الشمالية من هذا الجبل غار يمكن للمرء أن يصل إليه ولكن عبر تلك الصخور، ويرتفع سقف هذا الغار قامة رجل، وبينما تضيء الشمس قسماً منه، تغرق نواح أُخرى منه في ظلمةٍ دائمةٍ.
وكان هذا الغار يحمل في رحابه ذكريات كثيرة عن صاحب له طالما تردّد عليه، وقضى ساعات بل وأياماً وأشهراً في رحابه ...ذكريات يتشوق الناس - وحتى هذا الساعة - إلى سماعها من ذلك الغار، ولذلك تجدهم يسارعون إلى لقائه كلّما زاروا تلك الديار، متحملين في هذا السبيل كل عناء، للوصول إلى رحابه، لكي يستفسروه عما جرى فيه عند وقوع حادثة : الوحي العظيمة وليسألون عما تحتفظ به ذاكرته من تاريخ رسول الإنسانية الأكبر ممّا جرت حوادثه في ذلك المكان التاريخي، العجيب.
لقد اختارالنبي الكريم محمّد صلّى اللّه عليه وآله ذلك المكان البعيد عن ضجيج الحياة، للعبادة والتحنث، فكان يمضي جميع الأيام من شهر رمضان فيه، وربما لجأ إليه في غير هذا الشهر أحياناً أُخرى، إلى درجة أنّ زوجته الوفيّة كانت إذا لم يرجع إلى منزلها، تعرفُ أنه قد ذهب إلى «غار حراء» وأنه هناك مشتغل بالعبادة والتحنث والاعتكاف وكانت كلّما أرسلت إليه أحداً وجده في ذلك المكان مستغرقاً في التأمل والتفكير، أو مشتغلاً بالعبادة والتحنث.
لقد كان (صلّى اللّه عليه وآله) قبل أن يبلغ مقام النبوة، ويُبعث بالرسالة يفكر - أكثر شيء - في أمرين:
1 - كان يفكر في ملكوت السماوات والأرض، ويرى في ملامح كل واحد من الكائنات التي يشاهدها نور الخالق العظيم، وقدرته، وعظمته وعلمه، وقد كانت تفتح عليه من هذا السبيل نوافذ من الغيب تحمل إلى قلبه وعقله النور الإلهي المقدس.
2 - كان يفكر في المسؤولية الثقيلة التي ستوضع على كاهله.
إن إصلاح المجتمع في ذلك اليوم على ما كان عليه من فساد عريق وانحطاط عريض، لم يكن في نظره وتقديره بالأمر المحال الممتنع. ولكن تطبيق مثل هذا البرنامج الإصلاحي لم يكن في نفس الوقت أمراً خالياً من العناء والمشاكل، من هنا كان يفكر طويلاً في الفساد في حياة المجتمع المكّي وما يراه من ترف قريش، وكيفيّة رفع كل ذلك وإصلاحه.
لقد كان (صلّى اللّه عليه وآله) حزيناً لما يرى من قومه من فساد العقيدة المتمثل في الخضوع للأوثان الميتة، والعبادة للأصنام الخاوية الباطلة، ولطالما شوهدت آثار ذلك الحزن على محيّاه، وملامح وجهه الشريف، ولكن لما لم يكن مأذوناً بالإفصاح بالحقائق، لذلك كان يتجنب ردع الناس عن تلك المفاسد، ومنعهم عن تلك الانحرافات.
بدء الوحي:
لقد أمر اللّه ملكاً من ملائكته بأن ينزل على أمين قريش وهو في غار حراء ويتلو على مسمعه بضع آيات كبداية لكتاب الهداية والسعادة، معلناً بذلك تتويجه بالنبوة، ونصبه لمقام الرسالة.
كان ذلك الملَك جبرائيل، وكان ذلك اليوم هو يوم المبعث النبوي الشريف ولا ريب أن ملاقاة الملك ومواجهته أمرٌ كان يحتاج إلى تهيّؤ خاصّ، وما لم يكن محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) يمتلك روحاً عظيمة، ونفسية قوية لم يكن قادراً قط على تحمّل ثقل النبوة، وملاقاة ذلك الملك العظيم.
أجل لقد كان أمين قريش يمتلك تلك الروح الكبرى، وتلك النفس العظيمة وقد اكتسبها عن طريق العبادات الطويلة، والتأمّل العميق الدائم، إلى جانب العناية الإلهية.
لقد قرأ (صلّى اللّه عليه وآله) قوله تعالى: (إقرأ باسمِ ربِّك الّذي خلق. خلق الإنسان مِن علقٍ. إقرأ وربُّك الأكرمُ. الّذي علَّم بِالقلم. علّم الإنسان ما لم يعلم)(سورة العلق: الآيات 1 - 5).
وبعد أن انتهى جبرائيل من أداء مُهمته التي كُلِّف بها من جانب اللّه تعالى، وبلّغ إلى النبي تلكم الآيات الخمس، انحدر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) من جبل حراء، وتوجه تحو منزل خديجة (السيرة النبوية : ج 1 ص 236 و237).
ولقد أوضحت الآيات المذكورة برنامج النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) إجمالاً، وبيّنت وبشكل واضح إن أساس الدين يقوم على القراءة والكتابة، والعلم والمعرفة، واستخدام القلم.
واستنارت نفس رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله)، وروحه الكبرى بنور الوحي المبارك، وتعلّم كل ما ألقى عليه ملك الوحي في ذلك اللقاء العظيم، وأنتقشت تلك الآيات الشريفة في صدره حرفاً حرفاً، وكلمة كلمة.
وقد خاطبه نفس ذلك الملك بعد تلاوة تلكم الآيات بقوله:
يا محمّد... أنت رسولُ اللّه... وأنا جبرائيل
وقيل: انه (صلّى اللّه عليه وآله) سمع هذا النداء عند نزوله من غار حراء وقد اضطرب رسولُ اللّه (صلّى اللّه عليه وآله)، لهذين الحدثين، اضطرب لعظمة المسؤولية الكبرى التي أُلقيت على كاهله.
وكان هذا الاضطراب طبيعياً بعض الشيء، وهو لا ينافي بالمرة يقينه (صلّى اللّه عليه وآله)، وإيمانهُ بصدق ما اُنزل عليه لأن الروح مهما بلغت من العظمة والسمّو والقوة والصلابة، ومهما كانت قوة ارتباطها بعالم الغيب، وبالعوالم الرُّوحانية العُليا فإنّها عندما تواجه لأول مرّة ملكاً لم تره من قبل، وذلك في مثل المكان الذي التقى النبيُ (فوق الجبل) لا بُدّ أن يحصل لها مثل هذا الاضطراب، ولهذا زال ذلك الاضطراب عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) في ما بعد.
ثم إن الاضطراب والتعب الشديد قد تسبّبا في أن يتوجه النبيُ (صلّى اللّه عليه وآله) إلى بيت السيدة «خديجة» (عليها السّلام)، وعندما دخل بيتها ووجدت على ملامحه آثار الاضطراب والتفكير سألته عما جرى له، فحدّثها بكل ما سمع ورأى وقصّ عليها ما كان من أمر جبرائيل معها، فعظّمت السيدة «خديجةُ» سلام اللّه عليها، أمره، ودعت له، وقالت : أبشر فواللّه لا يخزيك اللّه أبداً.