1 ربيع الثاني 1429 - 08/04/2008
الدولة بمفهومها العام: هي الكيان القائم على عناصر ثلاثة هي الإقليم والشعب والسلطة صاحبة السيادة. أما الدستور: فهو القواعد القانونية التي تسنها السلطة التشريعية (البرلمان، المجلس الوطني، مجلس الأمة...) والذي يعد القانون الرئيس الذي يجب أن لا تتعارض معه القوانين الفرعية الأخرى.
وبمعني آخر؛ الدستور هو الوثيقة التي تنص على القواعد العامة والمبادئ الأساسية التي تحدد شكل النظام السياسي، وتحدد الحقوق والحريات العامة للمواطن، وتتعرض الى واجبات رئيس الدولة وتكوين السلطات الثلاث، فأنها أيضا ترسم وتحدد العلاقات بين الدولة والمجتمع وبين مؤسسات الدولة(1)، وهو قمة النظام القانوني في أي دولة ولا يتصور وجود قاعدة قانونية تسمو على الدستور وإنما العكس، بمعنى سمو الدستور على كل القواعد القانونية الأخرى.
والدستور يختص بتنظيم الدولة باعتبارها المؤسسة الام لكل مؤسسات الدولة من حيث كيفية تكوينها واختصاصاتها وكيفية مباشرتها لهذه الاختصاصات وحدود وضوابط هذه الاختصاصات، كذلك علاقة السلطات داخل الدولة مع بعضها البعض، وعلاقتها بالمواطنين، إضافة إلى عنايته بحقوق المواطنين في مواجهة السلطات العامة وكيفية حماية هذه الحقوق.
ولا يعمل الدستور والقانون بطريق خارق للعادة ولا تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع أو بين الفرد والحكومة بصورة تلقائية، بل إن تطبيق الدستور والقوانين يتطلب قوة شرعية تعمل على صيانته واحترامه وكذلك احترام القوانين المتفرعة منه، ومن بين تلك القوى المؤسسات الرقابية البرلمان باعتباره هيئة تشريعية ورقابية بالإضافة إلى المؤسسة الإعلامية التي تشمل كل وسائل الإعلام (المقروء والمسموع والمرئية) ومنظمات المجتمع المدني، والتي تعمل على ملاحقة القائمين على تنفيذ القوانين وتسجيل الأخطاء التي يرتكبونها وفضحهم أمام الرأي العام والجهات المسئولة بحيث يشعر الكبير قبل الصغير بأنه تحت رقابة كاملة من جميع أفراد المجتمع والسلطات المختصة قضائياً، وبدون التنفيذ الصحيح للمواد الدستورية والرقابة الكاملة والجيدة لتلك المواد القانونية يصبح مجرد وثيقة شكلية لا يخرج من معنى الحبر على الورق.
وتؤكد أغلب دساتير العالم على أهمية الفصل بين السلطات كمبدأ أساسي لا يمكن الحياد عنه فيما أذا أراد المتصدون لبناء دولة القانون على أساس مؤسساتي ديمقراطي يخدم المجتمع، ولا يسمح للفرد بالتسلط والتفرد باتخاذ القرار والانقلاب على شرعية الحكم، وهذا المبدأ يجعل للقضاء هيبة وسطوة ويضع الجميع تحت طائلة القانون.
أهمية دستورية الدولة وسيادة القانون
سيادة القانون تعني أن القاعدة القانونية تأتى فوق إرادات الإفراد جميعا حاكمين أو محكومين وتلزمهم جميعا باتباع أحكامها، فان لم يلتزموا – خاصة الحكام – بالقاعدة القانونية انقلب تصرفهم المخالف للقانون إلى تصرف باطل وغير قانوني، وتكمن أهمية سيادة القانون فيما يلي:
1. لدستورية الدولة وسيادة القانون وسلطة القضاء أهمية اجتماعية وإنسانية ملحة لأن الدولة الحديثة والديموقراطية تتدخل في تنظيم تفاصيل الحياة اليومية لصالح مواطنيها والتي تتمثل بالخدمات بكافة أشكالها وصورها بحكم دورها في تسيير شؤون الدولة والمجتمع طبقا للقوانين والسياسات التي تعهدت بها الأحزاب المشكلة للسلطة سواء في البرلمان أو الحكومة، وفي حال تخلي الدولة عن مسئولياتها في تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية والخدمية للمجتمع، فستحل الفوضى محل النظام وبذلك تضيع حقوق الأفراد وبخاصة الضعفاء منهم، وهو الحال الذي يعاني منه المجتمع في الدول ذات النظم الاستبدادية والتي لا تحترم القوانين ولا الأنظمة ولا تراعي مبدأ الفصل بين السلطات، إذ تجعل السلطة التنفيذية أو الحاكمة هي أعلى سلطة في المجتمع.
2. كما إنها ضرورة عصرية وحضارية لأنها تحمي مصالح المجتمع بصورة دائمة، والمصالح لا يمكن المحافظة عليها وتنميتها إلا اذا ساد القانون واستقل القضاء، وهذا ما تعمل عليه أنظمة البلدان المتقدمة في العالم، في جعل القضاء هو صاحب الفصل والكلمة الأخيرة في جميع النزاعات سواء تلك التي تحدث بين الأفراد أنفسهم أم تلك التي تحدث بين الأفراد والحكومة.
3. أما بالنسبة لأهميتها في الحفاظ على الموارد المالية ففي دولة القانون يتم الإعلان عن تلك الموارد بكل دقة ووضوح، حيث يتم التعرف على ميزانية الدولة لكل سنة عن طريق عرضها أمام وسائل الإعلام وتفصيل كيفية صرف تلك الميزانية والمشاريع التي تستثمر فيها كي يتسنى للمواطن معرفة ثرواته المالية، وهذا من شأنه أن يحد وبصورة كبيرة من تلاعب السلطة الحاكمة أو من يرتبط بها بالإثراء على حساب أموال وموارد الدولة وبالتالي يتم الحفاظ على الأموال العامة.
4. وفي دولة القانون أيضاً تنتفي حاجة المواطن لصاحب النفوذ أو السياسي أو المسؤول في الحكومة لأنه سوف يحصل على حقه سواء كان على علاقة بأحد المسؤولين أو المتنفذين في دوائر الدولة ومؤسساتها أم لا، كون الجميع سواسية أمام سلطة القانون، وهذا ما نشاهده في الدول المستقرة دستورياً وقانونياً والتي تحترم مجريات القانون والعدالة ولا تتدخل في شؤون القضاء، وبذلك يصبح السياسي هو صاحب الحاجة لأفراد المجتمع في عرض خدماته عليهم من اجل جني أصواتهم التي تصل به الى أهدافه السياسية دون حاجة المواطن إليه باعتبار إن حق المواطن مكفول دستوريا وقانونياً.
وهكذا نستطيع أن نقول إن سيادة القانون تعني أن ارادات الإفراد – مهما علوا في مدارج السلطة- هي ارادات محكومة، بنصوص القانون وتصرفاتهم خاضعة لسلطة القضاء.
القناعة بضرورة احترام دولة القانون والدستور
الأنظمة الدستورية ليست مجرد نصوص في وثائق، بل لابد أن تحظى تلك النصوص بالاحترام من قبل الجميع، فالكثير من الدول المستبدة يوجد لديها دساتير ذات صياغة قانونية جديرة بالاحترام فهي تتكلم عن حقوق الإنسان وحرياته علي نحو رائع، ومع ذلك فلا صلة لهذه الدساتير بالواقع الذي يعيشه الناس من قهر واستبداد ومصادرة للحريات.
كذلك لا توجد أية صلة بين تلك الدساتير وما يحدث من انقلابات عسكرية يتم من خلالها الاستيلاء على السلطة والحكم والتربع على كرسي الرئاسة والتمسك به على حساب افتقار الشعب وممارسة الاستبداد ضده في جميع النواحي الاقتصادية والسياسية والفكرية.
والأنظمة الدستورية هي في جوهرها إيمان بدولة المؤسسات وإنهاء مفهوم دولة الفرد وإيمان بان السلطة يمارسها أشخاص معينون وفقا لقواعد معينة وان هؤلاء الأشخاص ان خرجوا على القواعد القانونية المنظمة لاختصاصهم فقد خرجوا على مبدأ المشروعية، وهذا هو معنى بمبدأ المشروعية وسيادة القانون، وهو يرتبط ارتباطا وثيقا بفكرة دولة المؤسسات وفكرة الاختصاصات الذي يحدده القانون(2).
وكثيراً ما ترد الإشارة إلى دولة القانون والمؤسسات والتي تعني تلك الدولة التي تنشأ السلطات فيها وفقا لقواعد قانونية تحدد كيفية إسناد السلطة إلى فرد أو أفراد معينين، ثم تحدد القواعد القانونية بعد ذلك اختصاصات كل فرد أو مجموعة من الإفراد أو وجهة من الجهات أو هيئة من الهيئات تحديدا واضحا بحيث يكون التصرف داخل هذه الاختصاصات قانونيا ومشروعا ويكون التصرف خارج هذه الاختصاصات غير قانونية وغير مشروع.
الهدف من استقلال القضاء
(لا توجد في الحكومات البشرية سوى قوتين رابطتين قوة السلاح وقوة القوانين، فإذا لم يتول قوة القوانين قضاة فوق الخوف وفوق كل ملامة فأن قوة السلاح هي التي ستسود حتما وبذلك تؤدي إلى سيطرة النظم العسكرية على المدنية)(3).
استقلال القضاء يعني أنه لا سلطان لأحد أياً كان على القضاء سوى مقتضيات العدالة، وحينما نريد الحديث عن دولة المؤسسات وعن مبدأ سيادة القانون وعن المشروعية في دولة لا يوجد فيها قضاء مستقل يصبح هذا الحديث مجرد لغو أو شيء من العبث.
ومن المؤكد أن وجود سلطة قضائية مستقلة تتيح للفرد مقاضاة السلطات العامة في أي تصرف مخالف للقانون، يعني قيام دولة القانون كما يعني حماية حقوق المواطن وحريته ويحول دون قيام نظام دكتاتوري أو لجوء الناس إلى اخذ حقوقهم بأيديهم، بحيث توجد القناعة التامة بسيادة القانون والإيمان بدستورية الدولة، فان السلطة القضائية المستقلة تأتى نتيجة طبيعية، أما عندما يختفي مبدأ الفصل بين السلطات أوعندما لا يكون هناك إيمان بمبدأ سيادة القانون، فانه لا يمكن تصور وجود سلطة قضائية مستقلة في مواجهة من يتربع على عرش السلطة التنفيذية.
كذلك فان الدولة الحديثة تقوم على نوع من التوازن بين السلطات المختلفة داخل الدولة، هذا التوازن يقتضي أن تستقل كل سلطة عن الأخرى وان تحد كل سلطة من جموح السلطات الأخرى عندما يحدث ذلك، ومن هنا قيل إن استغلال السلطة القضائية هو فرع من مبدأ الفصل بين السلطات.
مقتضى مبدأ المشروعية وسيادة القانون والعمل على تنفيذه يتم من خلال وجود سلطة قضائية مستقلة، فوجودها يعني وجود ضمانة قوية لسلامة تطبيق القانون بحيادية وموضوعية في جميع المنازعات، سواء كانت تلك المنازعات بين الافراد أو كانت بين الإفراد وبعض أجهزة الدولة ومؤسساتها، وحيث ان مبدأ الفصل بين السلطات يعد من ابرز سمات الدول الديمقراطية إلا أن هناك تداخل كبير بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في معظم الدول الديمقراطية، لأن الاولى تأتي عن طريق الانتخابات والثانية تأتي منبثقة من الاولى عن طريق الاغلبية النيابية بحيث يكون لكل واحدة منها تأثير واضح بقرارات الأخرى، وهذا ما يلاحظ على التوصيات التي تأتي من قبل الحكومة الى البرلمان ليتم صياغتها على شكل قوانين، فيكون للسياسة اثر واضح وكبير على هاتين السلطتين بعكس السلطة القضائية التي يجب ان تتصرف بحيادية ومهنية واستقلال تام.
وقيام سلطة قضائية مستقلة في الدولة من المبادئ التي كرستها معظم المواثيق و الاتفاقات الدولية و منها قرارا الجمعية العامة للأمم المتحدة المرقم(40/32) في 29/تشرين الثاني/1985 و (40/146) في 29/كانون الثاني /1985 الذي أورد المبادئ الأساسية لاستقلال السلطة القضائية و السبل التي تؤدي إلى هذا الاستقلال(4).
القضاء العراقي
تناول الدستور العراقي الدائم في الفصل الثالث منه السلطة القضائية وما يتعلق بها، حيث تطرق في المادة (85) منه على استقلال القضاء والمحاكم بمختلف أنواعها بنصه ( السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر احكامها وفقا للقانون)، وهذا يعني استقلال القضاء الوظيفي، أي من ناحية ممارسته لوظيفته، ثم يتطرق الدستور الى ماهو أهم في المادة التي تليها بنصه (القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة)(5)، وهذا تأكيد على مبدأ استقلال القضاء بعدم جواز الضغط على القضاة من أية جهة كانت تنفيذية أو تشريعية لغرض اصدار قرارات قضائية معينة أو الامتناع عن اصدار قرارات اخرى.
فما ترتبه تلك المواد التي جاء بها الدستور هو اعطاء حصانة كبيرة وقوية للقضاء بإعتباره الفيصل الذي يتم الاحتكام له في حال وجود نزاعات أوخصومات بين الافراد انفسهم أو بين الافراد ومؤسسات الدولة أو بين مؤسسات الدولة نفسها، وما أعطاه الدستور من حق لهيئة الرئاسة وبالتحديد لشخص رئيس الجمهورية ضمن صلاحياته بموجب المادة (71) أولاً والتي تنص على (اصدار العفو الخاص بتوصية من رئيس مجلس الوزراء باستثناء ما يتعلق بالحق الخاص والمحكومين بارتكاب الجرائم الدولية والارهاب والفساد المالي والاداري)(6)، تعني ان أغلب الصلاحيات هي تكميلية لا يملك أزاءها لرئيس الجمهورية حق الاعتراض أو النقض (الفيتو) مثل المصادقة على القوانين لأنها تعد مصادقا عليها بعد مضي خمسة عشر يوماً من تاريخ ارسالها اليه والمصادقة على أحكام الاعدام التي تصدرها المحاكم.
ومن خلال تلك النصوص الدستورية يتضح لنا بان المشرع العراقي أراد للقضاء أن يكون محترما ومصاناً ومستقلاً بكافة أموره الوظيفية والمالية ولا سلطان لأي احد عليه، غير أن النصوص الدستورية تعاني صعوبة كبيرة في التطبيق الفعلي حيث تقف تلك النصوص عاجزة أمام رغبات السياسيين وما يتم فرضه على السلطة القضائية، فمن الصعب أن نجد منطلقا لبناء نظام للعدالة يؤسس لسلطة قضائية مستقلة في إطار نظام ديموقراطي قائم على مبدأ الفصل بين السلطات ويؤسس لدولة القانون والمؤسسات إذا كان واقعنا ذاته يشكو من غياب للعدالة ويكرس ممارسات الوصاية والتسلط و الاستبداد.
الخلاصة
من خلال معرفة المجتمع بأن الحق غير مضمون وأنه لا حرمة لمسكن أو عرض أو حرية لرأي ولأن كيل التهم وتلفيقها والإقصاء أكثر من المشاكل التي يعاني منها، وحيث يعرف أنه مدان كلما وقع تحت طائلة القمع أكثر مما يعرف أنه بريء إلى أن تثبت إدانته، كما يعرف أن لاضمان لحرمته الجسدية متى تم القبض عليه، ويعرف أن لا مجال للمواطنة في وطنه إلا عن طريق الولاء والانخراط في صفوف الاحزاب الحاكمة، نجد انفسنا في مجتمع تختزل فيه الحياة إلى أدنى مقوماتها الحياتية.
ولكي لا يطال الاضطهاد مجتمع يقايض حياته بولائه ويشكو من عدم سيادة القانون وعدم وجود قضاء مستقل، ونحن في مستهل هذا التغيير الحاصل في بلدنا، فاننا لا نريد أن نفقد الامل أوتغيب فينا معاني الكرامة أو تستشري فينا المسكنة والإحباط، بل نريد أن نؤسس لدولة القانون والعدل التي تحترم الانسان كإنسان مهما تكن صفته في المجتمع أو مركزه الوظيفي.
لذلك لا يمكن أن تكتمل أي نظرية للعدالة بدون ترسيخ مبدأ الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء والايمان بسيادة القانون والقناعة التامة بنصوص الدستور وحماية مبدأ العدالة وصون الاسس اليموقراطية.
وعليه فنحن بحاجة إلى تطوير نظرية العدالة لتنبع من مبدأ الشرعية لا باعتبار الشرعية مجرد تطابق مع القانون ولكن باعتبارها مؤسسة على ضمان سيادة القانون وسلطة القضاء المستقلة بما يكفل للتشريع قاعدة أخلاقية تنبع من مبادئ تضمن استمراريته وعدم تناقضه سواء من حيث دواعيه أومن حيث الهدف الذي شرع من أجله.
لذلك نحن بحاجة إلى ترقية نظرة مجتمعنا للقانون وتنقيته من صبغة الإلزام والغصب التي استشرت فيه و لا نقصد بذلك التخفيف من الزاميته ونفاذه بل أننا نقصد توفير الأرضية اللازمة لنشأة قناعة تترسخ لدى المواطن على احترام القانون وعزل ومعاقبة كل من يحاول خرقه أو التحايل عليه كي يتكرس احترام القانون في أخلاقيات المواطنة وكي يشكل المجتمع مناعة قوية وسداً في وجه العابثين به باعتباره الإطار الوحيد القادر على إعطاء معنى دولة القانون والمؤسسات.
...................
الهوامش:
1. زهير كاظم عبود،المدى،آراء وأفكار، Friday, February 23 .
2. د.يحيى الجميل، أستاذ القانون العام كلية الحقوق – جامعة القاهرة،القضاء الدستوري في مصر.
3. د. محمد عصفور – استقلال السلطة القضائية – الصفحة 2.
4. منظمة مراقبة حقوق الانسان.
5. الدستور العراقي الدائم.
6. المصدر السابق.