22 رمضان المبارك 1438 - 18/06/2017
قدمت لنا مدرسة الإمام علي عليه السلام دروسا في مجالات الحياة كافة، منها السياسي وكيفية إدارة الدولة، ومنها التربوي والأخلاقي وحماية النسيج المجتمعي من التهرّؤ والانحلال، وهكذا كانت هذه المدرسية نموذجية باعتراف الأعداء قبل الأصدقاء، ولا تنحصر النمذجة في الجانب النظري المجرد، بل هنالك الجانب التطبيقي، فلطالما أرفق الإمام أفكاره والقيم التي يدعو لها بالعمل والتطبيق، وكان يطبقها على نفسه أولا، فهو من أول الداعين الى تطبيق الإصلاح على النفس، فإذا شرع القائد بنفسه، فإن الآخرين سوف يتخذونه نموذجا لهم.
وقد رفعته أعماله عليه السلام الى مصاف الأولياء العظماء، والقادة الأفذاذ، والإنسانيين البارعين في التعامل بعدالة مع الجميع ولا يُستثنى من ذلك حتى الأعداء.
فكما يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتاب (من عبق المرجعية): إن (الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه هو بعد الرسول صلى الله عليه وآله أعظم آيات الله عزّ وجلّ، ولا تضاهيه آية).
وقد اختط أمير المؤمنين عليه السلام لنفسه طريقا خاصا في الحياة ميزه عن غيره، ألا وهو الزهد والنظرة التي لا تعير الدنيا اهتماما مبالغا به، فكان عليه السلام زاهدا بالسلطة ولا يعبأ بها، ولا تعني له أكثر من مكان لخدمة الأمة وإدارة شؤونها، ولم تكن نعني الجاه والقوة والأبهة والتعالي على الأمة، يل كانت مكانا لخدمة الناس وإدارة شؤونهم بعدالة ومساواة قلّ نظيرها في التاريخ الإسلامي وسواه.
وقد ثبت الإمام قواعد تفكير وتطبيق عملي في حالتي السلم والحرب، وتحولت هذه القواعد الى ضوابط عمل وقيم يلتزم بها من يتخذ من الإمام علي أسوة وقدوة له، ففي حالة السلم كان العمل قيمة مقدسة لدى الإمام حيث يباشر الزراعة وينتج ويجعل دوره قائما حيويا على الدوام، وفي حالة الحرب هنالك ثوابت أيضا لم يتجاوزها أمير المؤمنين، فهو لم يبدأ بقتال قط.
ولم يخض حربا ولم يشهر سيفا أو سلاحا إلا دفاعا عن النفس، فهو لم يبدأ بقتال إلا إذا اقتضى الأمر أن يدفع عنه وعن معيته خطر الموت الذي يصر العدو على أن يلحقه بالإمام وأصحابه ومقاتليه، في هذه الحالة ليست هناك سنّة أو شرع أو داع لعدم مواجهة الطرف الآخر، أما في حالة التوقف عن القتال أو الكف عن ذلك، فإن الإمام سوف يأمر مقاتليه بالتوقف الفوري عن القتال، لأنه يرفض ذلك إلا في حالة كف الأذى لا أكثر.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: (كان الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه يدفع من ناهضه وبارزه بالنصح والموعظة ما أمكن, وكان يسعى للحؤول دون وقوع الحرب وإراقة الدماء، سواء عن طريق المواعظ الفردية والجماعية أو غيرها.. ولكن إذا وصل الأمر بالطرف الآخر أن يهجم ويريد القتال قام الإمام سلام الله عليه بدور الدفاع لا أكثر).
لم يفكر بالانتقام ولا الغنائم
فعندما يصل الطرف الآخر الى قناعة أن لا فائدة من الحرب، ويكف عن ذلك، فإن الإمام علي (ع) وأتباعه يتوقفون فورا عن ذلك، ولعل هذه القاعدة تمثل أعظم القواعد الدولية التي تجنب البشرية شر الحروب وحالات الاقتتال، وقد تم ترويجها في أدبيات السلم العالمي، وحملتها الكثير من دساتير الدول التي تسعى الى أن تكون مسالمة وتتجنب الدخول في متاهات ومساجلات لا طال ولا جدوى منها.
وقد اشتهر الإمام بهذه القاعدة، حتى الأعداء طمعوا به، فما أن يشعرون بقرب الهزيمة حتى يعلنوا الكف عن القتال، وهم يعرفون مسبقا أن قائد المسلمين الأعلى علي عليه السلام سوف يتوقف عن مقاتلتهم فورا.
لهذا نقرأ قولا لسماحة المرجع الشيرازي جاء فيه: (ما أن يتراجع الخصم أو ينهزم حتى يتوقّف الإمام عن ملاحقته ولا يسعى للانتقام منه، وهو سلام الله عليه لم يبدأ أحداً بقتال أبداً، وهذا الأمر مشهود في تاريخ الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه).
كذلك دأب الإمام عليه السلام على عدم أسر أي فرد من الطرف المعادي ولم يهدف قط الى مصادرة أموال أو سلاح حتى في حالة هزيمة الآخرين، وهنا تسقط قيمة الغنائم عند الإمام فلا يهمه أن يكون الشيء ثمينا أو رخيصا، المبدأ هو عدم الأسر والابتعاد عن جمع المغانم.
كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي: (لم يأسر الإمام عليّ سلام الله عليه من أعدائه حتى فرداً واحداً، ولا صادر أو سمح لأصحابه بمصادرة أي شيء من أموال خصم وإن كان رخيصاً أو عديم الثمن).
عدم التخلي عن المبادئ أبداً
تشريع آخر ومبدأ جديد، أشاعه الإمام علي بين المسلمين وغيرهم، يقوم ذلك على رفض مغريات الدنيا، ورفض الخلافة إذا كانت تقوم على الباطل، بل رفض الدنيا كلها إذا لم تقم على قواعد وثوابت العدل والمساواة، ولم يكن عليه السلام يستوحش السير في الطريق الصعب ألا وهو طريق الحق، حتى قال كلمته الشهيرة (لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه)، وربما كان أمير المؤمنين أول سياسي يرفض السلطة التي تسعى لإبعاده عن مبادئه، وهي مبادئ الحق والإنسانية والسلام.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذه النقطة: إن (الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه رفض وفضل أن تخرج الخلافة من قبضته... لا ... بل فلتذهب الدنيا كلها ويصبح العالم كلّه ضده، ولا يتخلّى عن مبادئه).
وكان عليه السلام زاهدا، ولا يشغله حطام الدنيا قط، وقد قسم أموال المسلمين بعدالة قلّ نظريها، حيث تم توزيع المال بعدالة، ما أثار حفيظة (كبار القوم آنذاك) الذين احتجوا على العدول في التوزيع، وبدأت رحلة التناقض والاحتراب.
لأن الإمام عليه السلام: (كان الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه عادلاً في الرعية، قاسماً بالسوية، وزاهداً في حطام الدنيا) كما نقرأ ذلك في كتاب سماحة المرجع الشيرازي.
ومن المبادئ الجديدة التي رسخها الإمام علي أنه لم يقطع العطاء عن المحاربين من أعدائه بعد إلحاق الهزيمة بهم، ليس هذا فحسب، فقد ذهب عليه السلام الى مرتبة أعلى من ذلك عندما نهى المسلمين أن يطلقوا اسم (المنافقين) على أعداء الإسلام والإمام، وفي هذه المبدأ يرشح سلوك مستجد على الواقع العربي، حيث تُصان كرامة الجميع بعدالة، وتُحفظ كرامتهم، وتستمر مواردهم حتى لا يتم معاقبة ذويهم.
كما نلاحظ ذلك في قول ورد بكتاب المرجع الشيرازي نفسه: (لم يأذن الإمام أمير المؤمنين عليّ سلام الله عليه أيام حكومته بقطع عطاء محاربيه بعد هزيمتهم في ساحة القتال، بل نهى صلوات الله عليه من أن يسمّيهم أحد آنذاك بالمنافقين، مع أنهم كانوا من أظهر مصاديق المنافقين).
هكذا تمخضت رحلة الإمام علي عليه السلام مع السلطة وقبلها وبعدها، عن سجل حافل بالدروس والقيم والأخلاقيات التربوية التي ما أن تتمسك بها الأمة ويطبقها القادة على تجاربهم مع السلطة حتى تصبح الأمة في مصاف الأمم المستقرة المتطورة، عندما يكون الإمام علي أسوة لقادة اليوم في الفكر والمبادئ والسلوك.