b4b3b2b1
الحسين يُذبح من جديد | المعيار الإنساني في واقعة الطف ونهضة الإمام الحسين (عليه السلام) | الامن المطلوب في العراق.. والخلايا الأميبية | هي ذي أم البنين | فقيد آل الشيرازي في سطور | جريمة أخرى لعديمي الشرف ضد أبناء مذهب أهل البيت في البحرين | لماذا البساتين سائرة؟ | محمد صلى الله عليه وآله.......بشارة الهداية والرحمة | طريق أهل البيت (عليهم السلام) | الدور الوهابي بين سوريا والبحرين | الحسين عليه السلام.. نهضة خلدها التاريخ | الجهاد هل يعني العنف المجرد؟ |

أوسمة فخر على جيود الحرائر

 

26 شعبان المعظم 1438 - 23/05/2017

نغم المسلماني

غريبٌ ما حدث لي ذلك اليوم... توسمت من بريق عينيها عقيدة المدرسة الحسينية، وما زلت أتنفس عبقها من زوايا منزلها حتى الآن، ولاحت لي شجاعة أمير المؤمنين عليه السلام التي طالما تمنيتُ رؤية ما يقترب منها ويماثلها في أيام كهذه ، فاختلطت معها مشاعري لفيض التضحية وعمق المبدأ وتجليات الطاعة، حيث الحرص على الآخرة في طريق الصراط المستقيم، كل ذلك في جلسة صغيرة مع والدة الشهيد (حيدر سامي) وهي تجلس أمامي تروي لي قصة التحاقه بالفتوى واستشهاده، كأنها تزفُ خبر عرسه لا قصة الفراق الأخير.

في البدء حملتُ أقدامي المتثاقلة بالحزن ودخلت منزلهم معزية؛ أحاول تسكين الآمهم، لكني وجدت ما فاق توقعاتي وسمعت ما جعلني أشفق على ذاتي مما كانت فيه من قصور غير مبرر؛ لأعيد التفكير في كل هدف وضعته لهذه الحياة، حين أخذت تحدثني بابتسامة الرضا عن بطلها بكل شموخ:

حيدر ولدي الشجاع؛ رزقني به الله سبحانه بعد ثلاث سنوات من حرماني من هذه النعمة، أتى الى هذه الدنيا قرة عينٍ لي، أكمل الدراسة المتوسطة وبعدها بدأ العمل ليساعد والده ويحمل عنه جزء من أعباء الأسرة ويكون لنا عوناً في تحمل مصاعب الحياة، فكان هذا وسام الفخر الأول الذي علقهُ ولدي حيدر على صدري.

ثم الوسام الثاني.. أنه كان وعلى رغم صغر سنه خادماً مخلصاً للإمام الحسين عليه السلام يقضي أيام الزيارات وهو لا يرى أمام عينيه سوى خدمة الزائرين في موكب (أنصار العقيدة)، خاصةً في الزيارة الأربعينية، حيث كان يرابط كالمقاتل في الموكب حتى انقضاء الزيارة وعودة آخر زائر إلى مسكنه.

وعندما أتم ربيعه الثامن عشر أهداني الوسام الثالث، بتلبية نداء المرجعية الحكيمة والالتحاق بأقرانه للدفاع عن الأرض والمقدسات، فالتحق أولاً بركب الأبطال الى جرف النصر وبقى مرابطاً فيها ثلاثة أشهر إلى ان تم تحريرها، وشارك في عامرية الفلوجة ستة أشهر ومن ثم ذهب إلى الرمادي التي استشهد فيها بعد مرور خمسة عشر يوماً من ذلك.

أطرقت قليلاً ثم قالت بصوت حاني: في بادئ الأمر عارضته لشدة خوفي عليه لكنه رجاني أن لا أمنعه من الجهاد، ثم بدا لي أن إشراقة الذكريات الجميلة اعتلت خطوط وجهها وهي تخبرني: ما كان يلفت انتباهي في ولدي حيدر أنه يملك صفات وخصال الرجال الأشداء العقلاء رغم صغر سنه، كان لا يعرف الخوف ويحفز أصدقائه دوماً على الجهاد من خلال إقناعهم أنه خير من التقاعس والذلة؛ وذات يوم بعد عودتنا من احياء ذكرى وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه واله وسلم ، سألني حيدر ما كانت حاجتكِ يا أمي؟ أجبته: رجوت الله ان يوفقنا في بناء حسينية على الطريق لنخدم الزائرين، ثم أعدتُ عليه ذات السؤال وإذا به يفاجئاني بقوله.. طلبت الشهادة!!

أجهشتُ بالبكاء، ولم احتمل ذلك منه؛ لكنه بدأ يواسيني معاتباً: لما البكاء يا أمي؟ فالله انعم عليكِ بأربعة أبناء واحد منهم ينفعكِ في الآخرة (قصد نفسه) والثلاثة الباقين ينفعوكِ في الدنيا ماذا تتمنين أكثر من ذلك؟ ثم عاد لأسلوبه الجاد: أمي إن معركتنا ليست سهلة لخطورة العدو مع ما يملك من أسلحة الكره والإلحاد؛ لذا علينا ان نجود بأنفسنا لكسبها.

واسترسلت تقول: كان حيدر يحمل صفات القادة الشجعان.. نعم كان قائداً بالفطرة؛ هذا ما ايقنته من تفاصيل أحداث محطته الجهادية الأخيرة حين قام العدو بمحاصرتهم داخل منزل في منطقة الملعب بمدينة الرمادي مع أربعين شخصاً آخرين، يعانون من قلة الطعام وضعف البدن فالمساعدات لا يمكنها الوصول اليهم لأنهم كانوا يعسكرون في المناطق الساخنة، عندها قام بجمعهم ووضع خطة استشهاده بنفسه فكانت كالآتي:

" لا بد ان يضحي أحدٌ منا بنفسهِ ليخرج الآخرين بسلام.. سأصعد على سطح المنزل وأحمل معي الكثير من العتاد لأموه العدو وألهيه بالإطلاقات حتى تخرجوا جميعكم سالمين ".

صمتت قليلاً؛ لكن صمتها ترجم سيلٌ جارفٌ من المشاعر والحكايات التي كانت واضحة على لوحة جبينها المعفر بالإباء، مرت دقائق ثم كسرت ذلك الصمت الصارخ بقولها: فعلاً نجحت خطته ونجا الجميع أما هو فقد عادوا بجثته ليقروا بها عيني قبل نقله إلى مثواه الأخير، لم يعلموا أنني شعرت باستشهاده قبل وصولهم.

فقد وطنت نفسي منذ يوم التحاقه الأول على الصبر وقراءة سورة يس ودعاء الحفظ، وفي تلك الليلة بالذات لم أتمكن من قراءة ما يحفظه من شر أعدائه، غلب النعاس أهدابي وأنا أحمل الكتاب بين يدي، وبينما أنا في غفلة نومي أحسست برصاصة اخترقت صدري وأفزعتني حد البكاء، فصرت أردد في سري: " استشهد حيدر.. استشهد ولدي ".

ما بال خيوط ذلك الصباح أبت أن تشرق دون أن تداعب وجهه وهو معفر بدماء التضحية، ففي تمام الساعة الحادية عشر اتصل رفاقه بأخيه ليزفوا خبر استشهاده؛ بيد أنه حاول أن يخفي الحقيقة خوفاً علي، فأخبرني أن حيدر جرح أثناء المواجهات مع العدو.

كلا بني.. إن كانت الرصاصة تُخطأ أحياناً فقلب الأم لا يخطا أبداً، الحمد لله أن ولدي استشهد وخلف لي أوسمة أفخر بها وبه ما حييت.