27 ذي الحجة 1428 - 07/01/2008
يموت ابن آدم، وتنقطع صلته بهذه الدنيا، فلا هم يؤرقه ولا حزن يكدره، ولا غائب عنها يسأل عنه، ولا آت إليها يفرح به، ولا بما يحدث فيها من خراب ودمار، وإصلاح وإحياء يحفل به، فهو عنها في شغل أهم وأعظم مما كان يشغله في دنياه التي عاشها بين أهله وأحبائه، الذين يتذكرونه في المناسبات التي شاركهم فيها، ويتذكرون مواقفه الإيجابية والسلبية منها، فيترحمون عليه في مواقفه الإنسانية، ويتحدثون عن عطاءه، وقد يعتبون عليه حين يعدون سلبياته وإن كان ذلك لا تذكره الألسن بالتصريح المباشر، ويتمنون مشاركته أفراحهم وأحزانهم ومسؤولياتهم، ويرسمون صوراً جميلة لتصرفاته وسلوكياته وأخلاقه في مثل تلك الأوقات. وقد يصل الأمر في بداية رحيله عنهم الرجاء الممزوج بالحزن والألم إلى مشاركته معهم في أدق اللحظات وكل ذلك يحدث تجاه كل من فارقنا من أحبتنا وأعزائنا إلى الدار الآخرة، ثم يخف وهج الذكريات قليلاً قليلاً، وتستبدل الذكرى الآنية واليومية إلى ذكرى المناسبات وفي لحظات معدودة لا تتعدى ثواب قراءة سورة الفاتحة والإطعام ثواباً لروحه الطاهرة.
إلا أن رحيل العالم العامل له صور أخرى تختلف عن الصور التي تحدث للذين يرحلون عنا من الناس العاديين بعد رحيلهم إلى جوار ربهم سبحانه وتعالى.
ذلك أن العالم الذي يحمل هموم وتطلعات الأمة طوال فترة حياته التي عاشها بحلوها ومرها، بأفراحها وأتراحها، ويطرح مشروعاً حضارياً متكاملاً لنهوض أمته قائم على الفهم الصحيح لقضايا الأمة ومعاناتها والوعي السليم لما يدور حوله من أحداث لا يمكن أن يخف وهج الذكريات عنه أو أن يطصبغ أفق شخصيته ومشروعه باللون الداكن أبداً، لأن حياة العلماء الكبار مثل سماحة الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) لا يمكن أن تحدد بفترة زمنية محدودة تبدأ بولادته وتنتهي برحيله إلى الدار الآخرة، فحياة الإمام الراحل (قدس سره) ذو تاريخ طويل يبدأ من وجوده المبارك بيننا، بل من أول لحظة بدأ التفكير فيها بمشروعه الحضاري ليدخل الحاضر إلى المستقبل بآفاقه الرحبة التي لا نهاية لها.
إن الحديث عن الإمام الراحل (قدس سره) ليس حديث ذكريات وعلى جميع المؤمنين بمشروعه أن يختصروا في الحديث عنها لينتقلوا إلى مرحلة العمل وبتنفيذ مشروعه الشامل الذي بدأه على أرض الواقع عملاً وحركة وبناء، ذلك المشروع الذي كان محوره الأساس اللاعنف، و كان له (قدس سره) مبدأ وفكراً وسلوكاً عملياً في أدق تفاصيل حياته المباركة.
وإذا كانت مشاريع البعض تنتهي عند أول لحظة لقاء لهم بالموت فإن مشروع الإمام الراحل لا يمكن أن ينتهي ويتلاشى فالبعد الاستراتيجي للمشروع أكثر ثباتاً وقوة وعمقاً من كل المشاريع التي خضعت للمساومات والاتفاقات المصلحية والآنية، فهو مشروع قائم على الإيمان بالله والتوكل عليه وشمل كل نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وإن الذعر والخوف الذي أصاب الآخرين منه، وفرض حالة الحصار والمضايقة طوال فترة حياته المباركة لدليل على شمولية مشروعه وحيزه الذي يشغله حاضراً ومستقبلاً، لأن في مشروعه (قدس سره) نهاية لكل مشاريعهم الآنية الضيقة وتشدقهم وأدعائهم بالدفاع عن مصالح الأمة، وينزع عنهم ثوب القيادة الذي لبسوه في غفلة من الأمة لا يمكن للمشروع الذي حدد الإمام الراحل (قدس سره) لهذه الأمة الطريق الواضح نحو الحرية والاستقلال والتقدم أن يتراجع القهقرى إلى الوراء، أو ينسحب إلى الزوايا المعتمة مادام يحمل روح الإسلام وأفكاره السامية، ومادام هناك شخص يحمل نفس الروح ذاتها التي كان يحملها الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي والمشروع ذاته والمتمثل في سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) الذي ساهم مع الإمام الراحل (قدس سره) في تحديد ملامح وأسس ذلك المشروع وعاش معه لحظات العمل والبناء لحظة فلحظة على أرض الواقع.
كما لا يمكن لأي مشروع حضاري قائم على الصدق والإخلاص أن يتراجع يوماً مادام هناك من جرى في دمه الحب والوفاء الحقيقيين للإمام الراحل (قدس سره) وآمن بمشروعه الحضاري والإنساني الكبير.