27 جمادى الأولى 1429 - 02/06/2008
بمناسبة رحيل فقيه أهل البيت صلوات الله عليهم، الفقيد الغالي سماحة آية الله السيد محمد رضا الشيرازي قدّس سرّه الشريف ألقى المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله كلمة في جموع المعزّين العلماء والفضلاء والشخصيات والمؤمنين الذين وفدوا من العراق وسورية ودول الخليج، في بيته المكرّم بمدينة قم المقدسة صباح اليوم الاثنين الموافق للسابع والعشرين من شهر جمادى الأولى 1429 للهجرة، إليكم نصّها الكامل:
إنا لله وإنا اليه راجعون
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
ونحن نعيش ذكرى شهادة سيّدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها ونستلهم منها وممّا نزل عليها من المصائب العظام الصبر والجلَد، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّينا والجميع أجور الصابرين، ولا يقلّل من الأجر الذي أعدّه لأهل المصائب، بسبب كلمة أو فكر ينافي رضا الله سبحانه ولنا في أهل البيت سلام الله عليهم أسوة؛ ففي الحديث الشريف: «فإذا وقع القضاء سلّمنا أمرنا إلى الله».
أشكركم جميعاً على مواساتكم وتحمّلكم أعباء السفر. أشكر كلّ من جاء من خارج إيران، أو المدن الأخرى داخل إيران، أو من نفس مدينة قم المقدسة. أشكركم جميعاً.
ولي ـ هذه المناسبة ـ كلمتان؛
الأولى: كلمة ـ من الكثير من الكلمات ـ عن هذا الفقيد السعيد.. السعيد حقاً.
الثانية: كلمة لنا نحن الذين على الأثر.
أمّا الفقيد السعيد، فإنني عشت معه منذ ولادته [بكاء متواصل] ولم أر منه غير ما ينبغي للذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين وصفهم القرآن الكريم بهذا الوصف ووصفتهم أحاديث النبيّ الأعظم والعترة الطاهرة صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.
إنّ ممّا يبدو لي أن أذكره في هذا المجال تمثيله رضوان الله عليه للإيمان وللعمل الصالح.
لما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إني مخلّف فيكم كتاب الله وعترتي» طُرح سؤال فحواه: أليس القرآن كتاب الله تعالى وفيه حكم الله، فما الحاجة إلى العترة؟
هناك أكثر من جواب، ومن ذلك أنّ البشر في مسير الهداية بحاجة إلى أمرين: كتابٍ، وتمثيل حيّ.
إن معنى قوله تعالى: «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات» مفهوم: ولكن لكي يقع الناس في طريق الهداية فهم بحاجة إلى تمثيل الإيمان والعمل الصالح، فكان التمثيل الحي بعد النبي صلى الله عليه وآله في شخص الإمام أمير المؤمنين وشخص مولاتنا فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما، فكلّ منهما مثّل دوراً مهمّاً لما قاله القرآن الكريم، وبعدهما الأئمة الأحد عشر من ولدهما صلوات الله عليهم أجمعين.
ونحن نعيش اليوم في كنف سيّدنا ومولانا بقيّة الله الأعظم الإمام المهدي الموعود صلوات الله وسلامه عليه وعجّل الله تعالى فرجه الشريف.
فهؤلاء مثّلوا تمثيلاً صادقاً وجامعاً يتمّ الحجّة لمن أخذ وعلى من ترك.
لقد كانت السمة البارزة لأخي في العلم وابن أخي في النسب آية الله السيد محمد رضا الشيرازي قدس الله سره.. السمة التي لعلّي لمستها أكثر من غيري، ولمسها كلّ من عاشره ولو لنصف ساعة [بكاء] والأكثر أكثر، التمثيل الشخصي للإنسان المسلم الصحيح في أقواله وفي سيرته، وفي نظراته واستماعه، وفي دعوته وإجابته. وهذا مما يندر وجوده في كل زمان ولاسيما في زماننا هذا.
وكلّ من كان أقرب إليه كان أكثر معرفة بهذا الأمر منه. فلقد كان قدّس سرّه يمثّل الإيمان والعمل الصالح. ونعم ما أعدّ لمثل هذا اليوم نفسه طيلة حياته.
حتى الذين عاشوا معه في عالم الطفولة والأيام التي كان يرتاد فيها الصف الأوّل والثاني من مدرسة حفّاظ القرآن الكريم في كربلاء المقدسة التي أسّسها أخي الأكبر آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي أعلى الله درجاته.. حتى أولئك لا أتصوّر أنّ عندهم انطباعاَ غير حسن عنه حتى لمرة واحدة [أخذت سماحته العبرة وأجهش الحضور بالبكاء]. هذا إحساسي أنا.
لقد كان أملي لمستقبل الإسلام [بكاء.. بكاء.. بكاء..].
كان أملي ليقود المسيرة من بعدي [بكاء أكثر].
لا إله إلا الله
ولكنّ الله تعالى شاء له ولنا هذا الذي ترون، ولا رادّ لقضاء الله، رضىً بقضائه ورضىً بقسمته.
هذه القسمة مرّة ولكنّها إرادة الله تعالى فتكون مرضاته لنا رضىً.
وأمّا بالنسبة لنا ونحن لا نزال على قيد هذه الحياة الدنيا.. الدنيا بكل ما في الكلمة من معنى. الدنيا التي من معانيها هذا الموقف الذي نشهده الساعة..
أمّا بالنسبة لي ولكم فخير كلمةٍ قول الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه:
«فلأن يكونوا عبراً أحقّ من أن يكونوا مفتخراً».
هذا الذي ذكرته آنفاً عن هذا الفقيد السعيد هو المفتخر، أما العبر فقد قلت لإخوته الكرام: أعزّائي وأملي أيضاً، لقد خلّف فقيدنا الغالي لكم الكثير من المفاخر ـ ليس لإخوته فقط بل لأصدقائه أيضاً ولكلّ من عاشره ولو لنصف ساعة ذكرى فخورة عنه ـ ولكن الأحقّ من الافتخار هو الاعتبار.
[موجّهاً خطابه للجمهور]:
أنتم.. كل واحد منكم، من الكبار والشباب والأحداث ممّن عايشتموه، حاولوا أن تتّخدوا منه أسوة وقدوة. إن قدوتكم الأولى هم المعصومون الأربعة عشر عليهم السلام بلا شكّ، ولكن من يمثّل المعصومين عليهم السلام؟
لقد كان الفقيد السعيد ممّن يمثّلهم، فاتخذوا منه أسوة، واتخذوا منه قدوة؛ لأنه كان يمثّلهم مع فارق العصمة التي اختصّ الله تعالى بها المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.
لقد كان ـ رحمه الله ـ في درجات العدالة بلا شكّ، فحاولوا أن تكونوا عادلين، وكان على درجة عالية من الخلق الرفيع مع الصديق والعدوّ، مع القريب والغريب، مع من كان يتواضع له أو يتكبّر عليه.. فحاولوا أن تطبقوا على أنفسكم هذه الانطباعات التي لكم عنه.
كان مصداقاً ظاهراً للمغتنم الفرص الصغار في حياته فكيف بالكبار، فحاولوا اغتنام فرص الدنيا. إن الدنيا فرصة قد تنتهي في لحظة وإلى الأبد فانتهزوها ولا تضيّعوها.
إنّ الدنيا من هذه الجهة (أي كونها فرصة لتكامل الإنسان) مكان جيد جداً بشرط أن يغتنمها الانسان. فمن وفّقوا أين وفّقوا ومن أين استفادوا؟
لقد وفّقوا في هذه الدنيا، واستفادوا من هذه الحياة؛ كما فعل فقيدنا السعيد.
يقول الإمام الكاظم سلام الله عليه: «إنما هي عزمة» و«إنما» أداة حصرة أي هي وليس غيرها.
إذا عزمتم فستوفّقون حتماً. فاعزموا على أن تستلهموا من الذكريات التي تحملونها عن هذا الفقيد السعيد لتطبّقوها على حياتكم الشخصية.
لقد عاش حياة سعيدة. نعم، كان من ضمن ماعاشه قدس سره هذا الحديث الشريف «المؤمن نفسه منه في تعب والناس منه في راحة» فقد عاشه تطبيقاً وعملاً، في وقت ندر جداً من يعمل به.
أجل لقد كان فقيدنا مصداقاً جيداً لهذا الحديث الشريف، فحاولوا أنتم أيضاً أن تكونوا مصداقاً جيداً له. ولا تتعبوا غيركم من أجل أنفسكم، بل لاتساووا غيركم مع أنفسكم في التعب، بل أتبعوا أنفسكم وأريحوا غيركم في كل شيء ، حتى في صغائر الأمور.
كنت أتذكر أمس واليوم مراراً أنه قدس سره. كان من هذه الجهة يشبه جدّه آية الله العظمى السيد الميرزا مهدي الشيرازي أعلى الله درجاته [بكاء].
لقد عشت مع أبي قرابة عشرين سنة وهي السنين الأخيرة من حياته الشريفة، وكان مبتلى بأمراض عديدة واستوعبه وشمله الضعف لكبر السنّ ومعاناة الأمراض، ومع ذلك لا أتذكر أنه حتى مرة واحدة قال لي: اعطني ماءً ! [بكاء] حتى الحاجة بهذا المقدار كان لا يتعب غيره بها. وأكيد أنه كان يحتاج أحياناً الماء ولا يستطيع القيام، ولكنه كان يتحمل العناء ويجعل غيره في راحة حتى بهذا المقدار.
لا أقول ذلك افتخاراً بالوالد فلقد كانت له مفاخره ولكن لنتعلم من هؤلاء فهم الأمثلة الحية بعد المعصومين عليهم السلام.
أتذكّر جيداً أنه ذات مرّة كان من المفروض عليه أن يصعد درجاتٍ فكان لا يستطيع، وكان أصيب في رجله ويعاني من ألم شديد، فكان يأخذ بطرفي الجدار ويضغط على رجل ليرفع الأخرى ويضعها في الدرجة الأخرى. فتقدمت إليه وقلت له: أعطني يدك أمسكها ليسهل عليك الصعود، فقال: اتركني فبالمقدار الذي أستطيع أسحب نفسي، فإن عجزت أعطيك يدي، فكان يصعد درجتين أو ثلاث ثم يعجز نهائياً فيعطيني يده، فكان يشعر بصعوده الدرجة أو الدرجتين أنه يرفع هذا العناء عني ويضعه على نفسه، ولذلك كان يسحب يده.
قال الله تعالى: «لقد كان في رسول الله اسوة حسنة».
ولكنا لم نر رسول الله صلى الله عليه وآله وإن كان تاريخه بين أيدينا وهو حجة لمن يعمل وحجة على من لايعمل، وكذلك لم نر أمير المؤمنين ولا فاطمة الزهراء أو الامام الحسن أو الامام الحسين صلوات الله عليهم أجمعين .. ولكن أمثال هؤلاء كانوا تجسيداً لأولئك.
إن الانسان بحاجة إلى التجسيد فهو أحياناً يؤثر أكثر من الأقوال ومن التاريخ، وكان آية الله السيد محمد رضا الشيرازاي قدس سره من السمات البارزة فيه هذه السمة «نفسه منه في تعب والناس منه في راحة».
أسأل الله سبحانه وتعالى بفضله أن يتقبّل من الجميع، كلّ على حسبه ونيّته وعمله وجهده وعنائه وأن يوفق الجميع لاتخاذ القدوات الصالحة والتأسّي بهم في كل مجالات الدنيا لنكون جميعاً عند مغادرة هذه الحياة من الفائزين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
يذكر، أنه قبل كلمة سماحة المرجع الشيرازي دام ظله قدّم عدد من السادة الفضلاء من دول الخليج تعازيهم ومواساتهم لسماحته دام ظله بهذه المناسبة الأليمة.