7 محرم 1429 - 16/01/2008
لم يكن أمام الفتى الأسدي إلا أن يحث جواده على الإسراع في المسير وسط الصحراء اللاهبة، وتحت أشعة الشمس المحرقة، يدفعه إلى ذلك ما يحمله من الإمام الحسين عليه السلام إلى زعماء الكوفة ورجالها، كتاب يبشرهم فيه بقرب وصوله إليهم، وإنها لن تمضي إلا أيام معدودات حتى يكون أبو عبد الله الحسين عليه السلام بين ظهرانيهم.
وعلى الرغم من كل ما يعانيه ذلك الفتى الأسدي من تعب وإجهاد وما يلاقيه من مخاطر وصعوبات إلا انه كان منشرح الصدر مبتهج الأسارير، ولذا فقد جد قيس في المسير بأقصى سرعة ممكنة للوصول إلى الكوفة التي تركها منذ أيام قلائل فقط عندما أرسله سفير الحسين مسلم بن عقيل إلى الأمام عليه السلام ليخبره عما يدور من أحداث وتطورات في الكوفة، ويبشره بمبايعة أهلها وإعلانهم الولاء الكامل لآل بيت النبي الكريم صلى الله عليه واله وطالبا من الإمام الحسين عليه السلام الإسراع في المسير، بعد أن أصبحت الظروف مهيأة لدخول الكوفة ليسير بالناس بسيرة جده المصطفى صلى الله عليه واله وأبيه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وليعيد الحق إلى أصحابه بعد أن اختطفته الزمرة الأموية، ويحقق لهم أمنياتهم التي تقهقرت وتراجعت اثر البطش الأموي الأرعن، فقد طال عهد الكوفيين بالعدل والمساواة، وطال عهدهم بالأمن والاستقرار، فقد مضى عشرون عاما على مصرع العدل الإنساني في مسجد الكوفة على يد بن ملجم المرادي، حرم فيها المجتمع الكوفي من كل شيء ولم تعد لكلمات العدل والأخوة والمساواة أي معناً لها بسبب السياسة الأموية التي أذاقتهم الذل والهوان.
ربما كان الفتى مسهر الصيداوي يفكر بكل ذلك أثناء مسيره باتجاه الكوفة، إلا أن ما رآه من تغير الأوضاع وانقلاب الأمور رأسا على عقب حتى تلاشت في أفق الحزن والأسى كل تلك الأمنيات التي راودته خلال مسيره، فقد أدار الكوفيون ظهرهم لمسلم بن عقيل وتنكروا له، عندما نكثوا بكل العهود والمواثيق، وأنكروا آلاف الرسائل التي بعثوا بها إلى الإمام الحسين عليه السلام يعلنوا فيها البيعة له والإسراع في الإقدام إليهم.
ما إن أحس الكوفيون بوصول عبيد الله بن زياد واليا عليهم من قبل يزيد بن معاوية حتى أصيبوا بالخوف والذعر يسري في أوصالهم، فهم الذين يعرفون جيدا حقيقة ما يعنيه وصول عبيد الله بن زياد إلى الكوفة، ولذا فقد تفرقوا عن مسلم بن عقيل وحدانا وزرافات حتى لم يبق منهم احد، وقد كانوا من قبل أكثر من ثمانية عشر ألف رجل مبايع.
ولم يكتف الكوفيون ينكص العهود والمواثيق فحسب بل قاموا بمساعدة السلطة الغاشمة في إلقاء القبض على مسلم وصاحبه هانئ بن عروة إلى ابن زياد ليكونوا أول شهيدين في قافلة الشهادة المتوجهة إلى كربلاء.
وعلى الرغم من كل ما فعله ابن زياد في الكوفة من ممارسات وحشية بحق الموالين للإمام الحسين عليه السلام، وما اتخذه من احتياطات أمنية واسعة إلا أنه لم يكن بالمطمئن إلى استقرار الأوضاع، وهو يعرف جيدا إن وصول الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة سوف يقلب الموازين ويغير مجرى الأمور لصالحه، ولذا فقد عمد إلى اتخاذ الإجراءات الاحتياطية القصوى حيث أوكل إلى صاحب شرطته الحصين بن تميم تنفيذ خطته التي تقضي بنزول القادسية، وتنظيم الخيل ما بين القادسية إلى فغان، وما بين القادسية والقطقطانة حتى جبل لعلع، ناشرا فيها الجواسيس في جميع الجهات، وتفتيش الداخلين والخارجين من الكوفة والتحقيق فيمن يشك بهم.
ولم تكن تلك الإجراءات الأمنية الدقيقة تساعد الفتى الأسدي في دخول الكوفة أو حتى الاقتراب منها، فقد فوجئ بما حدث في الكوفة وهو الذي تركها متأهبة لاستقبال الإمام الحسين عليه السلام فأصابه الحزن والأسى العميق لما أصاب مسلم بن عقيل على يد ابن زياد، ولم يكن يتمالك نفسه، وفكر مليا فيما يحيق به من الخطر الداهم الذي كان على مقربة منه، ولذا فقد عمد على تمزيق كتب أبي عبد الله الحسين عليه السلام التي كتبها إلى زعماء الكوفة ورؤساء عشائرها حفاظا على حياتهم.
لقد كان شعور ابن مسهر بالخطر شعورا حقيقيا ويقينيا، فما أن انتهى من تمزيق الكتب حتى القي القبض عليه من قبل الحصين بن تميم الذي سارع بإرساله إلى ابن زياد مكبلا بالأغلال والقيود.
وحين وصل الكوفة وجد بن مسهر نفسه أمام ابن زياد وجها لوجه، الذي سأله بغضب: من أنت؟
فأجابه ابن مسهر بهدوء واطمئنان: أنا من أتباع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه.
فقال ابن زياد: فلم خرقت الكتب؟ قال ابن مسهر بكل صراحة ووضوح: لئلا تعلم ما فيها.
وقد حاول ابن زياد تصنع الهدوء واللامبالاة: وممن الكتب والى من؟
فأجابه قيس بن مسهر: بجنان ثابت وإيمان راسخ لا يهاب الموت في سبيل مبدئه وعقيدته: من الحسين إلى جماعة من أهل الكوفة لا اعرف أسماءهم.
وحين أدرك ابن زياد أنه لن يحصل من فتى بني أسد على معلومات يمكن أن تساعده في أحكام قبضته على الكوفة وأهلها، استشاط غضبا وقال موجها كلامه إلى قيس: والله لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم أو تصعد المنبر وتسبب الحسين بن علي وأباه وأخاه وإلا قطعتك اربآ إربا.
فانفرجت أسارير قيس واطمأن خاطره، وأيقن أن الفرصة قد حانت وهو الذي كان يظن أنها لن تأتِ أبدا، فرصة الإبلاغ عن رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة فأجابه قيس على الفور: أما القوم فلا أخبرك بأسمائهم، وأحاسب الحسين وأبيه وأخيه فافعل.
لقد أعادت موافقة قيس بن مسهر إلى ابن زياد بعض نفسه المهزومة في داخله، وظن أنه قد نال ما كان يتمناه ويزيل عن خاطره مرارة الفشل في أن يحصل أسماء زعماء الكوفة.. ولكن.. بعد أن صعد قيس المنبر، التفت إلى الحضور الحاشد في المجلس فقال موجها كلامه إليهم بعد أن حمد الله وأثنى عليه وأكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وأكثر من الترحم على علي والحسن عليهما السلام: أيها الناس إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنا رسوله إليكم، وقد خلفته بالحاجر فأجيبوه، ثم ختم خطبنه بلعن ابن زياد وأبيه.
وما أن أنهى قيس كلماته الأخيرة حتى انفجروا ابن زياد من شدة غضبه، وأشار إلى شرطته وجلاديه أن يمسكوا بابن مسهر ويلقوا به من أعلى القصر إلى الأرض لتتحطم عظامه ويستشهد صابرا محتسبا في سبيل الله.
وحين علم الإمام الحسين عليه السلام بشهادة رسوله وسفيره الثاني، وما أبداه من شجاعة وتفان في نصرة الحق والعدل تأثرا كثيرا حتى دمعت عيناه باكيا فقال يؤبنه.
( إنا لله وإنا إليه راجعون، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، اللهم اجعل له الجنة ثوابا، اللهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلا كريما، واجمع بيننا وبينهم في مستقر رحمتك، ورغائب مذخور ثوابك، انك على كل شيء قدير).