28 جمادى الأولى 1429 - 03/06/2008
رحل الإنسان، الرجل المؤمن، الصادق، رجل الفكر المحمدي، العلوي، الحسيني، وانتقلت إلى بارئها الروح الإنسانية الكبيرة بكل معانيها الصادقة، ومشاعرها النبيلة، بقيمها ومبادئها الإنسانية الإسلامية الحقيقية، رحلت الروح النقية، الصافية المتواضعة تحمل معها الجسد الطاهر إلى جوار ربه، لينضم إلى قافلة الآباء والأجداد الطاهرين، وقد خط على جيده، ظلامته ولوعته، يبثها إلى جده صريع كربلاء، وسيد الشهداء، الإمام الحسين بن علي عليه السلام.
رحلت الروح التي عانقت الإيمان، عناق العاشقين، وذابت فيه ذوبان المحبين لحظة فلحظة في جامعة الصادقين، واخلصت للدين، إخلاص الرجال الصادقين، وتواضعت لله، تواضع الأنبياء والمؤمنين، وتجللببت بجلباب النقاء والصفاء والطهر الحسيني، لم تدنسها الدنيا بدنسها، حرة، طليقة لم تكبل أجنحتها الرغبة الدنيوية، غير آبهة لما فيها من نعمة زائلة، ولحظات للفرح والسعادة المؤقتة، غير حزينة إلا لفراق الأهل والأحبة، والقلوب التي رفرفت بأجنحتها قريبة منه، يوم كان يبث إليها مشاعر المحبة والخير والسلام.
رحلت الروح التي غذتها يد الكوثر العلوي، الفاطمي الحسيني حتى انبجست من أعماقها فكراً سلسبيلاً، يروي ظمأ العطاشا من الكهولة والشباب واليافعين، تمسح بنسماتها الرقيقة الهادئة أفئدة علقت بها غبار الجهل والظلمة التي لازمتها سنين طوال، وأذهبت بكلماتها وهمساتها، بصدقها وعفويتها، بإنسانيتها وجمالها المعنوي، بوقارها وسموها، بعلمها وأخلاقها، ما قد يشد هم إلى الدنيا، فرفعتهم معها إلى عالم المحبة إلى الله ورسوله وأهل بيته، تطعمهم من مائدة الله، رحيق الإيمان والعقيدة الثابتة، والسلام والاستقرار النفسي والبدني، وتأخذ بأيديهم إلى نور آيات وكلمات رسوله وسننه وعترته، وتابعت معهم بالحوار الهادف، حياة الأئمة الطاهرين المعصومين، خطوة فخطوة بنية صادقة لوجه الله تعالى، دونما انتظار كلمة إطراء أو مديح من أحد.
ولاشك أن روحاً كهذه، لا يمكن إلا أن تكون قريبة من الله سبحانه وتعالى، فكان رحيلها استجابة لنداء المحب لحيبيه، رغم ما في ذلك من ألم وحزن لأهله وأخوانه ومحبيه، خارجاً من باب الوداع الأخير، يقطع نياط قلوبهم بالحزن والأسى والدمعة الجارية، واللوعة المتأججة و(لنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين). فكان الثمرة الأولى، الناضجة بالإيمان والفكر والإنسانية للإمام الراحل (قدس سره)، وكان النفس العزيزة التي خرجت من محبسها، إلى ساحة الخلود، ورضوان الله، وجنة عرضها السماوات والأرضين.
رحل الإنسان الذي أحبه الناس، صوتاً وصورةً، ومشاعر إنسانية إسلامية فياضة، وعقيدة لا مراء فيها ولا مداهنة، حتى فتحت له أبواب عقولها وساحات قلوبها، يطوف في أرجائها، طواف الصالحين، يتلمس آلامها فيبرءها بكلماته، ويستمع إلى أصوات حزنها ولوعتها، فيهدأ من أشجانها، ويتحسس خوف قلوبها، فيطمئنها بذكر الله، غير طامح لجزاء أو شكر من أحد سوى الله سبحانه وتعالى (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) شعار اتخذه لكل أفعاله وأقواله في رحلته القصيرة في هذه الحياة.
رحل الإنسان الذي جمع الخير والسلام والإيمان من أزهار الفكر ومنابع العلوم، ومحطات الإنسانية كل ما هو جميل ليزرع لأخوانه ومحبيه غصناً للخير والسلام.
رحل الإنسان الذي حاول أن يمسح بيده الحسينية على مواقع الشر التي خلفها أدعياء الحداثة، وصراع الحضارات، والتقارب والتجاذب، الذين استمرءوا الغدر، والتحفوا بدثار الغدر الأموي، والشر النووي، الذين رفعوا شعار الولاية ليزيد، والانبطاح لقوة وسيطرة ابن ابيه، والمشاركة الواقعية لطموحات عمر بن سعد، وأفعال الشمر الدنيئة، دونما خوفٍ من الله أو حياء من أحد.
رحل الإنسان الذي تزعزع برحيله صف المؤمنين وثلمت في جدار الإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلا من دعاه ربه إلى جواره.
رحل الإنسان الذي أزكى بأنفاسه روح المحبة والسلام والإيمان إلى جوار السلام، فسلام عليه يوم ولد ويوم... ويوم يبعث حياً.