17 ذي الحجة 1429 - 16/12/2008
يُعتبر حديث الغدير من الأحاديث التاريخية الهامة والمصيرية التي أدلى بها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في السنة الأخيرة من حياته المباركة، وهو من الأحاديث التي تثبت إمامة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) وتوجب ولايته على جميع المؤمنين بعد ولاية الله تعالى وولاية رسوله المصطفى (صلَّى الله عليه وآله) بكل صراحة ووضوح.
ثم إن حديث الغدير حديث متواتر رواه المحدثون عن أصحاب النبي (صلَّى الله عليه وآله) وعن التابعين بصيغٍ مختلفة، تؤكد جميعها على إمامة الإمام أمير المؤمنين (عليه السَّلام)، لكون الجوهر الأصلي فيه واحد وإن اختلفت بعض العبارات.
أما نسبة الحديث إلى الغدير فيعود سببه إلى أن النبي أدلى بهذا الحديث على أرض غدير خم في اجتماع حاشد يضم ما يربو على مائة ألف من المسلمين وذلك بعد رجوعه من أداء مناسك الحج في آخر سنة من حياته المباركة.
وقد تناقلت المصادر الإسلامية السنية والشيعية على حد سواء حديث الغدير في كتب التفسير والحديث والتاريخ والكلام وغيرها بأكثر من عشر صيغ وفي ما يقارب المائة من الكتب المعتبرة المعتمدة.
أما رواة حديث الغدير الذين تمكّن التاريخ من ضبط أسمائهم فهم: من الأصحاب (110) صحابياً ومن التابعين (84) تابعياً، وأما رواة هذا الحديث من العلماء والمحَدِّثين فيبلغ عددهم (370) راوياً ، كما ألّف علماء الإسلام كتبا مستقلة في هذا الحديث إذعاناً منهم بأهمية هذا الحديث وصحته ومصيريّة موضوعه ، وفي ما يلي نذكر بعض النماذج التي أوردها علماء السنة في كتبهم رعاية للاختصار، ومن شاء التفصيل فليراجع مصادر الحديث .
1- احمد بن حنبل: أبو عبد الله احمد بن حنبل بن هلال الشيباني، المتوفى سنة: 241 هجرية، عن البراء بن عازب، قال: كنا مع رسول الله (صلَّى الله عليه و آله) في سفر فنزلنا بغدير خم، فنودي فينا الصلاة جامعة، وكُسح لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) تحت شجرتين فصلى الظهر واخذ بيد علي (رضي الله عنه) فقال: ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟
قالوا: بلى.
فاخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه.
فلقيه عمر بعد ذلك فقال له: هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة .
2- الخطيب البغدادي: أبو بكر احمد بن علي، المتوفى سنة: 463 هجرية، عن أبي هريرة، قال: من صام يوم ثمان عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهرا، وهو يوم غدير خم لمّا اخذ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بيد علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) فقال: ألست أولى بالمؤمنين ؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: من كنت مولاه فعلي مولاه .
فقال عمر بن الخطاب: بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي و مولى كل مسلم .
3- ابن حجر: احمد بن حجر الهيثمي، المتوفى سنة: 974 هجرية، أن النبي (صلَّى الله عليه وآله) قال يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه، وأحب من أحبه، وابغض من ابغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار.
وقال ابن حجر حول حديث الغدير: انه حديث صحيح لا مرية فيه، وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي واحمد، وطرقه كثيرة جدا، ومن ثم رواه ستة عشر صحابيا، وفي رواية لأحمد أنه سمعه من النبي (صلَّى الله عليه وآله) ثلاثون صحابيا وشهدوا به لعلي لما نُوزع أيام خلافته ... وكثيرا من أسانيدها صحاح وحِسان، ولا التفات لمن قدح في صحته .
ومما تقدّم يمكن استخلاص النقاط التالية:
- أن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إنما أدلى بهذا الحديث بأمر من الله تعالى وذلك بعد نزول آية التبليغ وهي: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }، في يوم الغدير تحثّه على تنصيب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) خليفةً له وإماماً للناس.
- التدبر في الآية السابقة ولهجتها الصارمة بصورة عامة، مضافا إلى التدبر في دلالة {... وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ...} يكشف لنا عن حساسية القضية وخطورة المسالة المطروحة.
- إن انتخاب غدير خم الصحراء القاحلة التي يلفحها الهجير وتلتهب رمالها بوهج الظهيرة كمكان لإلقاء حديث الغدير، وانتخاب المقطع الأخير من حياة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) كزمان لإلقاء الحديث، وانتخاب الاجتماع التاريخي الحاشد الذي يشكله الحجاج العائدون من بيت الله الحرام كمستمعين لهذا الخطاب التاريخي الهام، إلى غيرها من الأمور إن عبرت عن شيء فإنما تعبّر عن أهمية ما أمر الله النبي (صلَّى الله عليه وآله) بإبلاغه، وهو تعيين المسار القيادي للأمة الإسلامية دينيا وسياسيا.
- عدم إبلاغ النبي (صلَّى الله عليه وآله) الناسَ بولاية أمير المؤمنين (عليه السَّلام) يُعدّ مساويا لعدم تبليغ الرسالة الإلهية، وهذا مما يُبين أهمية مسالة الإمامة والقيادة ويفهم هذا المعنى من قول الله تعالى: {...وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه...}.
- إن المخطط الإلهي للحياة البشرية مخطط حكيم وكامل ولا يمكن أن يهمل مسالة قيادة الأمة الإسلامية بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله) بدون تخطيط أو يترك الأمة من غير راعٍ وولي، وهذا مما يدفع بالأمة إلى الانزلاق نحو هاوية الفتن والصراعات والتناقضات، ويكون سبباً لإهدار أتعاب الرسالة، وهو ما لا يقبله العقل السليم و لا يصدقه الشرع طبعاً.
- إن نزول آية الإكمال وهي: {... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا... } في يوم الغدير بعد إبلاغ النبي (صلَّى الله عليه وآله) الناسَ بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) لدليل واضح على أن اكتمال أهداف الرسالة وضمان عدم وقوع انحرافٍ أو فراغٍ تشريعي أو قيادي أو سياسي بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، إنما يتحقق في حالة استمرارية القيادة المنصوبة والمنصوص عليها من قبل الله.
- وفي ضوء ما تقدمت الإشارة إليه من النقاط يمكن أن نفهم عمق العلاقة بين النصوص القرآنية والحدث التاريخي الكبير في يوم الغدير الذي تمّ من خلاله تعيين الخليفة والإمام من قبل رب العالمين، وبواسطة رسوله الأمين (صلَّى الله عليه وآله).
- وأخيرا: الحديث يحمل دلالة واضحة وصريحة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) باعتباره المرشح الوحيد لتسلّم زمام الأمة بعد النبي (صلَّى الله عليه وآله)، وكونه الولي الشرعي المنصوب من قبل رب العالمين بواسطة سيد الأنبياء والمرسلين (صلَّى الله عليه وآله).
وهو الأمر الذي اعتبره الله عَزَّ و جَلَّ تكميلاً للرسالة وتتميماً للنعمة إذ قال: {... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا...}.