9 ذي القعدة 1429 - 08/11/2008
ارتأى الإمام الحسين (عليه السلام) أن يُرسل مندوباً عنه إلى الكوفة يهيئ له الأجواء، وينقل له واقع الأحداث، ليستطيع أن يقرّر الموقف المناسب، ولابد لهذا السفير من صفات تؤهله لهذه السفارة، فوقع الإختيار على مسلم بن عقيل (عليه السلام)، لما كان يتصف به من الحكمة والشجاعة والإخلاص، فكان مصداقاً لقول الإمام الحسين عليه السلام فيه (.. بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي).
انطلق مسلم بن عقيل (عليه السلام) من مكّة متوجّهاً إلى العراق في الخامس عشرمن شهر رمضان سنة (60 هـ)، ودخل الكوفة في الخامس من شهر شوال من نفس السنة، فنزل دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي، واتخذها مقرّاً لعمله السياسي في الكوفة.
ومنذ وصول مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى الكوفة ، أخذ يعبئ أهلها ضد حكم يزيد ويجمع الأنصار، ويأخذ البيعة للإمام الحسين (عليه السلام)، حتّى بلغ عدد مَن بايعه واستعد لنصرته ثمانية عشر ألفاً ، كما ورد في كتاب مروج الذهب.
ولم تكن مثل هذه الأحداث لتخفى على يزيد وأعوانه لعنهم الله وأخزاهم، إذ كتب جواسيس الحكم الأموي رسائل كثيرة إلى السلطة المركزية، منها: (أمّابعد فإنّ مسلم بن عقيل قد قدِم الكوفة، وبايعته الشيعة للحسين بن علي بن أبي طالب، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قوياً، ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك ، فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يَتَضَعَّف) .
وتسلّم يزيد تلك الرسالة، وراح يناقش الأمر، ويبحث عن أكثر الناس قسوة وقدرة على البطش وممارسة الإرهاب والجريمة،حتى وقع الاختيار على عبيد الله بن زياد لعنه الله الذي كان واليا في البصرة، ومنذ وصوله إلى قصر الإمارة ، أخذ يتهدّد ويتوعّد المعارضين والرافضين لحكومة يزيد .
ومن جملة أقواله : (سوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي) .
وهكذا بدأ الانعطاف، وبدأت مسيرة الجماهير الصاخبة تتخذ مجرى آخر ،كما لاحت بوادر النكوص والإحباط تظهر على جماهير الكوفة وبعض رجالاتها .
وراحت سلطة عبيد الله بن زياد تقوّي مركزها ، وتمسك بالعصا الغليظة ، وبوسائل القوّة والسيطرة المألوفة لديها ، من المال والرشوة والإرهاب وتسخير الجواسيس لجمع المعلومات وبث الرعب في قلوب الناس.
أمّا موقع مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) ، فبدأ يضعف ويهتز ، مما اضطره إلى تغييرأسلوب عمله وموقعه فانتقل من دار المختار الثقفي إلى دار هانئ بن عروة متخفّياً بعيداً عن أعين السلطات ، إلى أن كشفته عناصر السلطة الجائرة، وأخبرت عبيد الله بن زياد بمكانه ،فاستدعى ابن زياد هانئ بن عروة - المدافع عن مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) – بشكل سري ، بحجّة أنّ الوالي بعث إليه ليزوره حتّى تزول الجفوة بينهما .
وما أن دخل هانئ القصر حتّى وجد نفسه أمام محكمة ، والتهم موجهة إليه ، والجواسيس شاهدة عليه في أنّه يوالي الإمام الحسين ( عليه السلام) ، فحاول هانئ الإنكار إلاّ أنّه فوجئ بالهجوم عليه من قبل ابن زياد بقضيب كان بيده وراح يهشم به وجهه ، وكان هانئ يدافع عن نفسه بقوّة فلم يستطع ، وأخيراً أصدر ابن زياد أوامره بحبس هانئ في إحدى غرف القصر .
ثمّ تسربت أخبار سجن هانئ إلى أوساط الناس ، فتطوّر الصراع ، وأخذت الأوضاع في الكوفة تنذر بانفجار خطير ، مما جعل ازلام ابن زياد وجواسيسه ببث الإشاعات في كل أنحاءالكوفة ، بأنّ هناك جيش جرّار قادم من الشام وذلك لإخافة الناس وبعث الرعب في نفوسهم ،بإلإضافة الى بث روح التخاذل بين اوساط الجماهير، لغرض كسب الوقت ، وتفتيت قوى الثوار .
وهكذا استمرت الأوضاع في الكوفة ، وصارت الناس تتخلى شيئاً فشيئاً عن مسلم بن عقيل(عليه السلام ) حتّى لم يبق مع مسلم إلاّ عشرة رجال ، صلّى بهم جماعة ، فلمّا انتهىا التفت خلفه فلم يجد أحداً منهم .
ولم يبق امام مسلم (عليه السلام ) خيار آخر بعد ذلك الإنقلاب المفاجيء إلا الخروج من الكوفة قبل إلقاء القبض عليه من قبل سلطات ابن زياد ، كي يُبلغ الإمام الحسين ( عليه السلام ) بانقلاب الأوضاع ، كي لا يقع في حبائل الغدر والخيانة .
ثمّ أصدر ابن زياد أوامره بتحرّي بيوت الكوفة بيتاً بيتاً وتفتيشها ، بحثاً عن مسلم بن عقيل ( عليه السلام )، الذي كان قد اختبأ في بيت امرأة مجاهدة ومحبّة لآل البيت ( عليهم السلام ) اسمها طوعة .
فلمّا علم ابن زياد بمكانه ، أرسل له جيشاً إلى تلك الدار ، فقاتلهم مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) قتالا مريرا استمر طويلا حتى شاءت يد القدر ان يقع بأيدي قوات بن زياد .
وحين اقتيد إلى قصرالإمارة ، دارت بينه وبين ابن زياد مشادّة كلامية غليظة ، انتهت بقول ابن زياد لمسلم ( عليه السلام ) : إنّك مقتول ، ثمّ أمر ابن زياد جلاوزته أن يصعدوا به أعلى القصر ، ويضربوا عنقه ويلقوا بجسده من أعلى القصر .
وماهي إلا لحظات حتى هوى سيف الغدرعلى عنق مسلم (عليه السلام ) ، وحال بين رأسه وجسده الشريف، ليلتحق بالرفيق الأعلىشهيدا مع الشهداء والصديقين والنبيين والصالحين .
ثمّ جاء الجلاّدون بهانئ بن عروة ( رضوان الله عليه ) ، واقتيد مكتوف اليدين إلى سوق الغنم في مدينة الكوفة ، فقتل هناك واقتطع رأسه ، وقام ابن زياد بإرسال رأسيهما الشريفين إلى يزيد في التاسع من ذي الحجة 60 هـ .
وأما الجسدان الشريفان فقد شَدَّهُما الجلاّدون بالحبال وجُرّا في أزقة الكوفة وأسواقها .