10 ربيع الثاني 1429 - 17/04/2008
حينما سقط صنم الدكتاتورية الذي كان ماثلا في ساحة الفردوس ببغداد صبيحة يوم 9/4/2003 بفعل الغزو الامريكي الذي ابتدأ في 21/3، استبشر اغلبية العراقيين خيرا في ان تكون هذه "النتيجة العرضية" التي اوجدتها السياسة الامريكية في المنطقة بداية عهد جديد في العراق تسود فيه الديمقراطية الحَقّة بعد عدة حروب طائشة دمرت العراق على يد النظام البائد وعقود من تهميش الاغلبية الشيعية وقمعها بالحديد والنار واضطهاد الاكراد واستهدافهم بالاسلحة الكيماوية.
وبعد مرور خمس سنوات على اجتياح القوات الامريكية والقوات المتحالفة معها للعراق مازال كثير من العراقيين يتساءلون.. هل كان الأمر يستحق كل هذا العنف والاضطراب والدمار الذي قلب حياتهم رأسا على عقب؟
وهل ان نشوة الحرية وفرحة سقوط الدكتاتورية تحولت الى كابوس مرعب يقض مضاجع العراقيين كل يوم؟
التكلفة البشرية مذهلة.. مقتل قرابة مليون عراقي وفقا للتقديرات المتضاربة، ومقتل 4000 جندي امريكي، ونزوح اربعة ملايين عراقي. وخراب البنى التحتية وتردي الخدمات لأدنى المستويات.
هذا من الجانب المظلم. أما على الجانب المشرق فقد تخلص العراقيون من طاغية اعتبره اغلبهم دكتاتورا من أشرس أباطرة القرن العشرين، قضى من خلال حروب متعاقبة مع جيرانه، على اكثر من مليون عراقي وشُّرد بسبب سياساته القمعية ملايين العراقيين الى الخارج، وقضى على الثقافة بانواعها في العراق وجعلها مجرد ابواق تطلق ما يريده من شعارات وسياسات.
وأُجريت انتخابات حرة، وان كانت تحت تاثيرات نفسية ودينية لجهات معينة، ووُضع دستور جديد كتبه العراقيون بانفسهم. وهم ماضون في عملية سياسية لإعادة بناء وطنهم رغم ما يتخللها من هفوات واخطاء.
ان تحديد ما اذا كان الغزو يستحق هذه التضحية أمر يتوقف في جانب كبير منه على مَذهب العراقي وعرقيّته ومكان اقامته.
فصدّام كان سنّيا واضطهد الغالبية الشيعية وكذلك الاكراد. ويمسك الشيعة الان بزمام السلطة بينما أصبح العرب السنّة الذين كانت لهم اليد الطولى في البلاد، اصبحوا يمارسون دورهم كأقلية، ولكن هل يقتنعون بان هذا هو استحقاقهم، بعدما كانوا يحظون بحصة الأسد من العراق طوال عقود؟
في بغداد التي كانت مركزا لحرب طائفية نشبت عامي 2006 و2007 وكادت تمزق العراق.. يتوق بعض الناس للأمان المُقنَّع المصنوع بقوة الحديد والنار، الذي كان سائدا في الشوارع في عهد صدام. أما في الجنوب الشيعي.. فلم يعد الناس يخشون أتباع صدام وانما الفصائل الشيعية المدعومة داخليا وخارجيا التي تتنافس على النفوذ والسلطة في الجنوب الغني بالنفط.
تُظهر أحدث بيانات جماعة (ايراك بدي كاونت) المعنيّة بإحصاء عدد الجثث بالعراق، ان ما يصل الى 89 الف مدني قتلوا منذ عام 2003 وان كانت الابحاث التي أجرتها جماعة بريطانية رائدة في مجال الاستطلاعات تشير الى مليون قتيل.
أما عدد القتلى بين الجنود الامريكيين فبلغ 4000 قتيل، الى حد يوم الرابع والعشرين من اذار مارس الجاري. والاحصاءات الاخرى تعطي صورة لا تقل قتامة.
فأرقام الامم المتحدة تظهر ان اربعة ملايين عراقي يكافحون للحصول على ما يسد رمقهم في حين لا يجد اغلب سكان البلاد مياها نقية. وتقول نقابة الاطباء العراقيين ان ما يصل الى 70 في المئة من الاطباء المتخصصين فرّوا الى الخارج.
ومع انهيار شبكة الكهرباء نتيجة سنوات الحروب والعقوبات يعيش الملايين في ظلام. ورغم ان العراق به ثالث اكبر احتياطي نفطي في العالم فان السيارات في بعض الاحيان تصطف أمام محطات الوقود لساعات وربما لأيام.
اما الصحافة والاعلام فمع ان سقوط نظام صدام كان نعمة كبيرة لها حيث فُتحت ابواب الحريات الصحفية على المصراعَين، وأمسى العراق من اكثر بلدان الشرق الاوسط امتلاكا للوسائل الاعلامية إلا ان العنف والارهاب وقوانين الطوارئ في البلد، عملت كلها على وأد حرية الصحافة، وتعرّضَ خلال الاعوام المنصرمة المئات من العاملين في الصحافة الى القتل والخطف والاعتداء والابتزاز والترهيب والتهجير، وغدى العراق من اخطر الاماكن في العالم لممارسة هذه المهنة بحسب التقارير المحلية والدولية المتخصصة.
من جهة اخرى يخشى العراقيون ان يكون الغزو قد حرك قوى سياسية يمكن ان تؤدي الى تقسيم العراق الى مناطق شيعية وسنية وكردية وهو احتمال سيكون حتما دمويا وقد يمتد الى بلدان مجاورة، ان لم يقام بمستوى متقدم من التفاهمات وفق ما جاء به الدستور الجديد.
لكن العراق لم يعد يمثل تهديدا لجيرانه، وهو أيضا واحد من الدول المعدودة في المنطقة التي تُجري انتخابات حرة. ومن المتوقع اجراء انتخابات اقليمية نهاية العام الحالي ربما تعيد رسم الخريطة السياسية للعراق بنضوج اكثر، على خلفية وعي العراقيين المتزايد حول الاختيار الصائب الذي يمثل توجهاتهم ويحقق تطلعاتهم، لا ان يُستَخدموا كقوة انتخابية ومن ثم يتم التخلي عنهم ونبذهم في العراء بلا مأوى ولا عيش كريم.
ان النظر من الناحية الاستراتيجية يُحتم علينا الاقتناع بان جميع المآسي التي جرّها التغيير في العراق هي تحصيل طبيعي لحالة المخاض عندما تشهد الدول ولادة عصر جديد فيها.
ولكن ذلك لا يعني ان تستمر مرحلة الفوضى الى ما لا نهاية، بل ان الامر يُحتّم على الجميع مسؤولية المشاركة في وضع اللبنات الاساسية للبناء الجديد.
كما ان القصور السياسي للكُتل وضعف الأداء للسُلطات الثلاث عموما يعمل حاليا على تذويب القاعدة الجماهيرية التي غلّفت القوى السياسية تحت تاثير ظروف غير طبيعية كحالة الاستقطاب الفئوي والتخندق الطائفي إبان الانتخابات الأولى، وبعد عملية الذوبان من المتوقع حدوث إعادة بلورة وتغيير جذري في الخارطة السياسية خاصة بعد تطور حالة النضج السياسي في الشارع العراقي وتحوله من موقع التابع للعناوين المطروحة الى موقع المنتَقِد الفعّال نحو تشخيص دقيق للأصلح والأكثر قدرة ونزاهة.
وأخيرا فإن الانتخابات المحلية المرتقَبة نهاية السنة القادمة ستشهد تحرير المواطن العراقي من قيود التوجهات الفئوية، بعدما اثبتت فشلها على مدى الخمس سنوات المنصرمة، رغم انها جاءت كتحصيل حاصل في مرحلة ما بعد التحرير من الكبت والدكتاتورية.
ولكن المرحلة القادمة لن تخلو من مخاطر التفكك والأزمات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية، عندما تشهد الساحة العراقية قيام الاقاليم خلال السنة الجارية، كما هو متوقَع.
المهم في الموضوع الان هو ان تدرك الكتل والاحزاب في ان المصلحة العليا للبلد تكمن في تجاوز الخلافات البَينية وإتّباع منهج المنافسة الشريفة من خلال اسلوب التحاور وتقديم افضل ما يمكن لخدمة المشروع الوطني، بعيدا عن الاجندات الخارجية والاتهامات المتبادَلة التي تستنزف الوقت والجهد وتزعزع الثقة وتقوض المنجزات المتواضعة الحاصلة حتى الان.
وهذا الطريق وحده الذي يكفل بناء دولة المؤسسات في العراق وترسيخ مبادئ تداول السلطة واحترام حقوق الانسان والحريات المدنية والفصل بين السُلطات واحترام الصحافة والاعلام بوصفها سُلطة رابعة وعينٌ على الحدَث.