16 رمضان 1429 - 17/09/2008
الجود والكرم غريزة مغروسة فيه (عليه السلام)، ونهجه ما زال يقتفيه الناس فإيصال صلاته إلى المعوزين من مناقب معانيه، وإبقاء الأموال عنده من مثالب معانديه، ويرى إخراج الدنيا عنه خير ما يجتبيه من عمله ويجنيه، فهذا ابن طلحة الشافعي ينقل لنا صوراً من كرمه وجوده في كتابه (مطالب السؤول: ج2 ص23، الفصل الثامن، ط1/ أم القرى) منها: إن الحسن (عليه السلام) سمع رجلاً يسأل ربه تعالى أن يرزقه عشرة آلاف درهم، فانصرف الحسن إلى منزله فبعث بها إليه.
ومنها: إن رجلاً جاء إليه (عليه السلام) وسأله حاجة فقال له: (يا هذا حق سؤالك إياي يعظم لديّ، ومعرفتي بما يجب لك تكبر علي، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات الله (عز وجل) قليل، وما في ملكي وفاء بشكرك، فإن قبلت مني الميسور، ورفعت عني مؤونة الاحتفال والاهتمام لما أتكلفه من واجبك فعلت).
فقال: يا ابن رسول الله أقبل القليل، وأشكر العطية، وأعذر على المنع. فدعا الإمام الحسن (عليه السلام) بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها فقال: (هات الفاضل من الثلاثمائة ألف درهم) فأحضر خمسين ألفاً. قال (عليه السلام): (فما فعل الخمسمائة دينار)؟ قال: هي عندي. قال (عليه السلام): أحضرها، فأحضرها، فدفع الدراهم والدنانير إلى الرجل فقال (عليه السلام): (هات من يحملها) فأتاه بحمالين، ودفع إليهم رداءه لكراء الحمل، فقال له مواليه: والله ما عندنا درهم.
فقال (عليه السلام): (لكني أرجو أن يكون لي عند الله أجر عظيم).
فهذه قطرتان من بحر جوده نكتفي بهما مثلاً لهذه الإطلالة.
إن العبادة تنقسم إلى ثلاثة أنواع: بدنية، ومالية، ومركبة منهما. فالبدنية: كالصلاة والصيام وتلاوة القرآن وأنواع الأذكار، والمالية: كالصدقات والصلات والمبرّات، والمركّب منهما: كالحج والجهاد. وقد كان إمامنا الحسن (عليه السلام) ضارباً في كل واحد من هذه الأنواع بالقدح الفائز، والقدم الحائز.
أما الصلاة والأذكار وما في معناهما: فقيامه بها مشهور، واسمه في أربابها مذكور فروى السيد هاشم البحراني (في حلية الأبرار: ج1 ص520): عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) كان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا قام إلى صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربه عز وجل).
وأما الصدقات: فقد نقل الحافظ أبو نعيم (في حلية الأولياء: ج2 ص38) - وهو من أكابر علماء العامة -: (إنه (عليه السلام) خرج من ماله مرتين، وقاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات ويتصدق به حتى أنه كان ليعطي نعلاً ويمسك نعلاً، ويعطيه خفاً ويمسك خفاً).
إن الله تعالى قد رزقه الفطرة الثاقبة منذ نعومة أظفاره، وصغر سنّه، فذكر أصحاب السير أن الحسن (عليه السلام) كان يحضر في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعمره سبع سنين، وكان يستمع إلى جدّه ويحفظ ذلك كله، ويأتي إلى أمه الزهراء (عليها السلام) يحدثها بذلك، وكان الإمام يأتي إلى البيت ويجد كل ما تحدث به رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المسلمين في المسجد عند فاطمة (عليها السلام)، فيقول لها (عليهما السلام): من أين لك ذلك؟ فكانت تقول: إنه من ولدي الحسن، مما يدل أنه (عليه السلام) كان ينفتح على علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويعيش اهتماماته به. وفي هذا المجال نترك القارئ يستمع إلى ما ينقله الواحدي - من أعلام السنة- في تفسيره (المسمى بالوسيط: ج4 ص458): (إن رجلاً قال: دخلت مسجد المدينة، فإذا أنا برجل يتحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والناس حوله، فقلت: أخبرني عن (شاهد ومشهود).
فقال: نعم، أما الشاهد فيوم الجمعة، وأما المشهود فيوم عرفة، فجزته إلى آخر يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: أخبرني عن (شاهد ومشهود).
فقال: نعم، أما الشاهد فمحمد (صلى الله عليه وآله)، وأما المشهود فيوم القيامة، أما سمعته يقول: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) وقال تعالى: (وذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود).
فسألت عن الرجل الأول فقالوا: ابن عباس، وسألت عن الثاني فقالوا: الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان قول الحسن أحسن.
وقيل للإمام الحسن (عليه السلام): (كم بين الحق والباطل، وكم بين المشرق والمغرب؟
فقال (عليه السلام): بين الحق والباطل أربع أصابع، فما رأيته بعينك فهو حق وقد تسمع بأذنيك باطلاً كثيراً.
وقال: بين السماء والأرض دعوة المظلوم ومدّ البصر، فمن قال لك غير هذا فكذّبه.
وقال: وما بين المشرق والمغرب مسيرة يوم للشمس، تنظر إليها حين تطلع من مشرقها وتنظر إليها حين تغيب من مغربها.
هذا هو الإمام الحسن (عليه السلام) الذي زُقّ العلم زقاً من جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبيه أمير المؤمنين (عليه السلام). فما بالك بابنهما الحسن (عليه السلام)؟
للإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) كما لسائر أهل البيت (عليهم السلام) مكانة عظمى في كتاب الله تعالى. فهذا القرآن الكريم، دستور الأمة ومعجزة الإسلام الخالدة، يحمل بين طياته الآيات البينات التي تنطق بمكانة الإمام الحسن (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) عند الله تعالى، ومنها:
1- آية التطهير: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) (الأحزاب: 33)، فقد ورد في سبب نزولها أن النبي (صلى الله عليه وآله) دعا بعباءة خيبرية، وجلل بها علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً ثم قال: (اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)، فنزلت آية التطهير استجابة لدعاء المصطفى (صلى الله عليه وآله).
2- آية المباهلة: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا..) إلى آخر الآية (آل عمران: 61).
قال المفسرون وأولو العلم، منهم السيوطي في الدر المنثور: إنها نزلت عندما اتفق نصارى نجران مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يبتهل كلا الطرفين إلى الله أن يهلك من كان على الباطل في دعوته واعتقاده، وخرج رسول الله بأهل بيته: علي وفاطمة والحسن والحسين دون سواهم من البشر بالمباهلة، وحين رأى النصارى الوجوه الزكية التي خرج بها الرسول (صلى الله عليه وآله) لمباهلتهم اعتذروا للرسول (صلى الله عليه وآله) عن مباهلته، وأذعنوا لسلطان دولته بدفعهم الجزية.
وأنت ترى الآية الكريمة عبرت عن الحسنين (عليهما السلام) بالأبناء.
3- آية المودة: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) (الشورى: 23).
قال المفسرون، ومنهم الطبري والقرطبي: إن الآية نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام). عن ابن عباس قال: لما نزل (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهما.
4- روي في تفسير فرات الكوفي في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته) (الحديد: 28) قال: الحسن والحسين (عليهما السلام)، (ويجعل لكم نوراً تمشون به) قال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
5- روى ابن شهرآشوب (في المناقب: ج3 ص163) ، عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: (والتين والزيتون) قال: الحسن والحسين. (وطور سنين) قال: علي بن أبي طالب، (وهذا البلد الأمين) قال: محمد (صلى الله عليه وآله)، (ثم رددناه أسفل سافلين) ببغضه أمير المؤمنين، (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) علي بن أبي طالب (عليه السلام) (فما يكذبك بعد بالدين) يا محمد، ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام).