27 ذي الحجة 1428 - 07/01/2008
تمثل موضوعة الحرية من أكثر الموضوعات إثارة للجدل وأشدها تأثيرا في الرأي العام على أكثر من مستوى، وسنحاول في هذه الورقة أن نستوحي الموقف العام للنظرية الإسلامية تجاه هذه المسالة.
الحرية لغة
مشتق من (حرر)، مقابل الرق.
أما اصطلاحاً فيبدو أن ثمة تطوراً دلالياً قد طرأ على هذه الكلمة؛ فأصبحت دلالتها أوسع دائرة لتعني التخلص من كل قيد سواء كان المملوكية ـ بمعناها الخاص ـ أو غيرها.
ولمعرفة مدى حرية الإنسان من وجهة النظر الإسلامية لابد من التعرف على حاجاته، أولا ومن ثم معرفة ما إذا كان الإسلام استجاب لتلك الحاجات،فيكون قد أعطى الحرية للإنسان وذلك بفسح المجال أمامه لإشباعها دون قيد أم انه تنكر لها أو لبعضها فيكون قد سلبه حريته أو بعضا منها.
تكوّن كيان الإنسان ثنائية متنازعة متمثلة بالروح والجسد ولكل من هذين الجانبين متطلبات تختلف عن متطلبات وحاجات الآخر اختلافا قد يصل إلى حد التناقض أحيانا وسنحاول أن نستجلي الحاجات الأساسية لكل منهما، وان نتعرف على موقف الإسلام من الإيفاء بتلك الحاجات.
أما الروح، فإن الحاجة الأبرز فيها هي الانتماء والارتباط إذ أن الدراسات الأنثروبولوجية تشير إلى أن الانتماء يمثل سنة تاريخية غير قابلة للتغير باختلاف الظروف وقد وضع الإسلام الحل لهذه المسألة من خلال مبدأ التوحيد إذ أن مبدأ التوحيد الذي يمثل ثنائية الرفض والإثبات (لا إله إلا الله) فـ(لا إله) تعني رفض كل أنواع الآلهة سواء كانت مادية أو لا، و(إلا الله) يمثل إثبات الالوهية لذات واحدة هي الله يحرر الروح من الانتماء إلى النسبي الذي ترتبط به لظروف زمكانية خاصة قد تتلاشى كالأحجار والأموال والبشر إذ أن نسبية هذا المنتمى إليه تجعله غير قادر على الاستمرار مطلقاً في هذا الموقع، وبالتالي سيتحول إلى عائق يمنع الروح من الحركة والتطور، قال الله تعالى: (إن الذين اتخذوا من دون الله أولياء مثلهم كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت)، وفي موضع آخر: (ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً) بل نجد أن بعض الآيات القرآنية الشريفة تعد الشرك ظلما عظيما للنفس كما في سورة لقمان:
(يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) وفي الوقت نفسه يشبع هذا المبدأ ـ التوحيد ـ الحاجة للانتماء من خلال ربط الروح بمطلق لا يخضع لظروف زمكانية خاصة وإنما هو يتجاوز الزمان والمكان، مطلق كله علم وكله قدرة وكله حياة وهو جامع لصفات الكمال على نحو اللامحدودية هذا المطلق لا يمكن أن يشكل عائقا لحركة الإنسان، قال الله تعالى: (يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) وهذا المبدأ يمثل الركيزة الأساسية في الأيديولوجية الإسلامية وحجر الزاوية لها، ومن هنا ندرك أن الروح لن تصل إلى مرحلة يكون التوحيد والارتباط بالله عائقاً لها في مسيرتها، إذ أن مسيرتها لا يمكن أن تبلغ نهايتها مهما ترقت في مدارج الكمال وإنما تبقى المسافة محفوظة بينها ـ كأمر نسبي ـ وبين الله ـ كأمر مطلق ـ.
ولابد أن نشير إلى أن الروح في الإنسان يمثل الجانب الستراتيجي في حسابات النظرية الإسلامية في أبعادها المختلفة ونلاحظ مما تقدم أن الإسلام أعطى الروح حرية مطلقة في مسيرها العمودي وفي سلم التكامل اللانهائي.
وأما الجسد
فهو يمثل الجانب المرحلي للإنسان، فعلاقة الإنسان بالجسد إنما تنتهي بمجرد خروج الروح منه، وإنما أوجد الجسد ليكون أداة ووسيلة يتمكن الإنسان من خلالها من خدمة الجانب الثابت فيه ومع ذلك فان الإسلام لم يسقط الجسد من حساباته، وبالوقت نفسه لم يطلق له العنان دون قيد ليحقق كل ما يريد وإنما اتخذ طريقا وسطا متزنا فالجسد بحاجة إلى طعام كي يستمر والإسلام يبيح له الأكل والشرب، قال الله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق).
وهو بحاجة إلى مأوى والإسلام يبيح له ذلك بل شجع الإسلام على امتلاك العقار فقد روي بسند معتبر عن الإمام الصادق(ع) أنه كان يقول: (ما يخلّف الرجل بعده شيئاً أشدّ عليه من المال الصامت، قال: كيف يصنع به؟ قال: يجعله في الحائط، يعني البستان أو الدار).
كما أن هناك الكثير من الروايات تؤكد استحباب التوسع بالمنزل مذكورة في المجاميع الحديثية كوسائل الشيعة وغيرها. وهو بحاجة إلى جنس والإسلام يبيح له ذلك، قال الله تعالى: (فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع). وقال النبي الكريم(ص): (النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني).
فالإسلام إذن اخذ بنظر الاعتبار جميع هذه الحاجات وأباح تلبيتها ولم يفرض على الإنسان ممارسة بعينها لتلك الحاجات دون ما سواها، وإنما وضع أمامه عدة خيارات بالنسبة لكل حاجة من تلك الحاجات، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تعدد الخيارات الموجودة في كل أمر من هذه الأمور الأساسية وذلك ضمن ضوابط وتقنينات لا تقيد أو تشل حركة الإنسان وبالتالي فهي تفسح المجال واسعا أمامه لممارسة حاجاته بطرق مختلفة.
والخلاصة
إن الإسلام ينظر إلى الإنسان باعتباره كائن مركب من ثابت يمثل هدفا ستراتيجياً عمل على تحريره من كل القيود من خلال مبدأ التوحيد؛ ومتغير يمثل هدفا مرحليا عمل على إشباع حاجاته ضمن تقنينات لا تشل حركته، بل تعطيه قدراً من الحرية كي يخدم الهدف الثابت في مسيرته عبر مقاطعها المختلفة.
وفي الختام أحب أن أشير إلى أن هذه الورقة عرضت الرؤية العامة لهذه المسالة دون الدخول بالتفاصيل لان ذلك موكول إلى مجالات أخرى.