14 شوال 1438 - 09/07/2017
بقلم : حيدر السلامي
للحب مراتب ومظاهر أعلاها وأبرزها الطاعة والإتباع. وله كذلك دلائل وشواهد أقربها الذكر الدائم والتلفظ المستمر لاسم الحبيب الذائب في حنايا الفؤاد.
هذا بعض ما يفصح عن سر العلاقة بين أحباب الحسين ومحبوبهم.
ومن بين أولئك يطالعنا الشيخ هادي الكربلائي. فقد ولد هذا الرجل حسينيا وعاش فانيا في حب الحسين ولم يفارق الحسين يوما حتى وفد على ربه الكريم معاهدا محبوبه على الوفاء فدخل معه في زمرة الخالدين.
الكربلائي عشق الحسين ووله بذكره وتعلق بجواره طول حياته فلم يسافر عن مدينة كربلاء إلا لأداء فريضة الحج ولمرة واحدة فقط. ولم يخرج للخطابة بعيدا عن مدينة الحسين رغم إلحاح المريدين وإغراء المحبين.
التحمت روحه بروح مولاه وتعطرت أنفاسه بنوره وامتزجت عبراته بذكره وحلق في فضائه الأرحب وارتفع إلى منازل عليين بمودته فرفض أن ينزل إلى كوكب غير كوكبه أو يحل في دار غير داره.
كانت عاشوراء بالنسبة للشيخ هادي موسما ليس له ابتداء ولا انتهاء، فالعمر كله عاشوراء. وأما كربلاء فلا حدود لها.. الكون كله كربلاء.. وأما الحبيب ابن الأحبة الحسين فهو الوجود بشخصه.
وأما الفاجعة فقد عاشها الكربلائي بوجدانه ورافق كل أحداثها وتحسس كل آلامها وبكى كل أحزانها ليس ساعة من نهار ولكن على مدار حياته. و"من أحب عمل قوم حشر معهم".
بلهجة ما أصدقها وبحزن ما أحرّ ناره وفناء في ذات الله وأوليائه وخشوع في حضرة المعبود وجوار المعشوق، ظل يروي الكربلائي على مستمعيه وحاضري مجلسه فصول المأساة وكأن لسان القدس هو الناطق أو قلم الإرادة يسطر على لوح القضاء فيصدع القلوب ويقرع النفوس فتسيل العبرات بلا اختيار.
بحق هو شيخ الخطباء وخادم الإمام الحسين عليه السلام ومبلغ رسالته. وكفاه فخرا أن يكون معلم أجيال من خطباء المنبر الحسيني ومدرسة مستقلة ينتمي إليها المشاهير كالسيد جاسم الكربلائي والشيخ مرتضى الشاهرودي ونجليه الشيخ بهاء الكربلائي والشيخ علاء الكربلائي وغيرهم ممن أجاد طرائقه الحزينة وأسلوبه المميز الشجي وصوته الرائق الرخيم وأطواره الندية المؤثرة.
وللشعر في حياة الكربلائي حضوره المتألق أيضا. كتبه منذ حداثة سنه فأجاد وأبدع في لغته ولهجته (القريظ والدارج) وقرأه على المنابر فأثار وأثر حتى في الحجر.
ما زال يلهج في عزاك لساني* حاشاك في يوم الجزا تنساني
يابن النبي المصطفى ووصيه * وابن البتولة خيرة النسوان
وأما دراسته فبدأت بالفقه والأصول على والده الشيخ صالح وتطورت إلى فنون الخطابة على الشيخ محسن أبو الحب. وعلوم الدين والعربية على الشيخ محمد الخطيب، بين مدرسة الصدر الأعظم والمدرسة الزينبية.
وقرأ شرح القطر وألفية ابن مالك على الشيخ محمد العماري بمدرسة العلامة الخطيب الرسمية، ولكن مدرسة المنبر وفيوضاته القدسية كانت هي المعين الحقيقي الذي انتهل منه الشيخ هادي الكربلائي كل ما آتاه الله من علم وحكمة وأدب وارتقاء في سلم الفضيلة وسبح طويل في سماء العشق الحسيني الخالد.
وانتقل حين انتقل إلى دار البقاء قرير العين مسرور الفؤاد ونفسه مرضية بما أنعم الله عليه من خدمة الحسين وشفاعته يوم الورود.
في هذه الرحلة الطويلة التي تبدأ من محلة الشيخ بشار ببغداد حيث ولد عام 1908م وتنتهي بوفاته في كربلاء المقدسة ليلة الأحد 4/1/1992م قدم الشيخ هادي بن الشيخ صالح بن مهدي بن درويش آل عجام الخفاجي الكربلائي كل ما استطاع إليه سبيلا وحالف به التوفيق الإلهي لخدمة مخدومه الإمام سيد الشهداء الحسين عليه السلام وبقي صدى كلماته العابقة بذكر النبي وأهل بيته الطيبين صلوات الله عليهم أجمعين يتردد وظل صوته الهادر وسيظل إلى ما شاء الله يملأ الأرجاء شدياً عاطرا كأجمل ما يكون عليه الوفاء. فسلام على الكربلائي حيا عاشقا ومرتحلا خالدا في ذمة مولاه.