27 ذي الحجة 1428 - 07/01/2008
العالم الإسلامي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله مرَّ بمراحل كثيرة وخطيرة فكان الأئمة عليهم السلام يواجهون كل مرحلة بما يناسبها من المواقف والأفعال حتى يصححوا كل ما قد انحرف عن جادة الإسلام الصحيح.
وربما كانت أخطر مرحلة تلك التي أعقبت كربلاء وما جرى فيها , حيث استبيح الدم الطاهر و انتهكت بها حرم الإسلام و ضاعت قيم الدين الحنيف من أنفس الناس وتولاهم كل منحرف شاذ يحملهم على ترك مخافة الله وارتكاب الموبقات.
وهذه المرحلة عاش فيها الإمام السجاد عليه السلام أربع وثلاثون عاماً من سني حياته الشريفة وهو يصحح ما قد انحرف أو زال , ذلك الإسلام الذي أراده الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله من نفوس الناس.
فقد عمل بنو أمية ومن والاهم على صنع نموذج من الإسلام يستطيعون به ان ينعموا بنعم الدنيا ويستعبدوا المسلمين , وقد دأبوا على ذلك حتى قبل ان يستاثروا بها.
فهذا معاوية بعد أن ركب السلطة وقف ليعلن فصل الدين عن الدولة صراحة ويقول (يا أهل الكوفة أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وأَلي رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم له كارهون. ألا إن كل دم أصيب في هذه مطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين) الكامل لابن الأثير: 6|220، مصر، 1356هـ.
إسلام بني أمية
فكانت أبرز سمات وملامح إسلام بني أمية هي:
1- تشويه أهل الحق بوضع الأحاديث وتلفق التفاسير.
2- تصفية المعارضين جسدياً.
3- إنشاء الفرق الفكرية المعارضة.
4- نشر ثقافة السكوت على الظلم والظالمين بين المسلمين بل وتأييدهم، وأن الأسلم لهم عند احتدام المعركة بين الحق والباطل الفرار إلى رؤوس الجبال خشية الفتنة.
5- إرهاب الآمنين من الناس، ومصادرت أموال المعارضين ظلماً وعدواناً.
6- إغداق أموال الدولة على حزب بنو أمية ومؤيديهم.
7- تعطيل الحدود وإيقاف الشرع ونشر البدع في الدين.
هذه السمات وغيرها هي التي جاءت بيزيد إلى الحكم وعلى أساسها حكم وسار كل خلفاء بنو أمية وأصبح هذا الفاجر المتجاهر بشرب الخمر وضرب الدفوف أميراً على المسلمين والمتحكم برقاب الناس , وقد أبى وريث الدوحة المحمدية المتمثلة بالإمام الحسين عليه السلام أن يدين لهم بالتمكين وأصبحت واقعة الطف الجذوة التي لا تنطفئ ولا تبرد في قلوب المؤمنين.
الإمام السجاد قائداً للحركة التصحيحية
فكان على الإمام السجاد عليه السلام أن يتولى المواجهة والتصحيح وقد كانت البداية في الشام حيث الدور الإعلامي أكثر تأثيراً من قعقعة السيوف وطعن الرماح مع ما يستبطن من فضح وكشف واحتمال تصفية وقتل، فيقف الإمام السجاد عليه السلام في مجلس يزيد مسفّهاً الدعاوى الأموية التي حاولت تشويه نهضة الحسين عليه السلام، وتزييف أهداف ثورته , فيروح مندّداً بالعصابة التي حرّفت دين النبي صلى الله عليه وآله ويضع أُولى العناوين العريضة في المسيرة التبليغية الإعلامية التي قادت وتقود مسيرة الأحياء العظيمة هذه، برائدها الوحيد الحيّ الباقي، مؤكداً على الفرعونية الجديدة التي تتحكّم باسم الدين , وتجلّى دور الإمام السجاد عليه السلام في قيادة مشروع الإحياء وثورة التصحيح بالارتقاء بمهمته الرسالية إلى استكمال هذا المشروع وريادة هذه الثورة من خلال مدرسة علمية كبيرة بوجوده في المدينة المنورة التي هي البداية الثانية.
مدرسة المدينة بقيادة الإمام زين العابدين
كانت مدرسته تعجّ بكبار أهل العلم من حاضرة العلم الأولى في بلاد الإسلام، يحملون عنه العلم والأدب، وينقلون عنه الحديث وعلوم الشريعة من تفسير القرآن الكريم والعلم بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وأحكامه وآدابه، والسُنّة النبوية الشريفة روايةً وتدويناً في عصر ما زال كتابة الحديث فيه متأثراً بما سلف من سياسة المنع من التدوين، كما تأدبوا على يديه في مجالسه بآداب الإسلام التي شحنها في أدعيته التي اشتهرت وانتشرت في عهده حتى أصبحت تشكّل لوحدها ظاهرة جديدة في تبني أسلوب روحي متين, كما أن الإمام عليه السلام سجل سابقةً علمية وتاريخية برسالة خالدةٍ استوعبت جلّ الحقوق التي لا يستغني الإنسان عن معرفتها والعمل بها وسميت (رسالة الحقوق).
وواجه الإمام السجاد عليه السلام أيضاً مقولات عقائدية تبنتها فرق إسلامية وتمحورت حولها واتخذت منها مناهج خاصة في فهم عقائد الإسلام وتوجيه أحكامه , فما كان منه إلاّ أن وقف موقفه الواضح والمنسجم مع منهجه في التعليم والدفاع عن مبادئ الشريعة، فضمّن أقواله الحكيمة وأدعيته المشتهرة نصوصاً تجتث تلك المقولات من جذورها، ومن هذه المقولات عقيدتي الجبر والارجاء اللتين روّج لهما الامويون تبريراً لوجودهم في السلطة ولمشروعهم السياسي، وعقيدتي التشبيه والتعطيل في الصفات اللتين اتخذتهما فرق متناقضة بذرائع مختلفة.
أهداف الإمام زين العابدين عليه السلام
كان على الإمام عليه السلام أن يُلفت الأنظار إلى أمور كثيرة اختلط حابلها بنابلها، وكان عليه أن يجذّر أمور أخرى في عقول وضمائر الجماعة المؤمنة التي يُراد لها أن تحفظ الإسلام عقيدةً ونظاماً، شريعةً ومنهاجاً، وليس شعاراً وسوقاً، أو تجارة واستهلاكاً , فكانت مدرسة الإمام عليه السلام تقوم على عدة أسس أبرزها:
1- تركيز ثورة الإمام الحسين عليه السلام في ضمائر الناس لأنه خرج لطلب الاِصلاح في أُمّة جدّه، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، داعياً لتحكيم دين الله وبهذا يكون الإمام قد فضح الشرعية المزيفة التي تقنّع بها الحكم الاَموي، وكشف زيف شعاراته الإسلامية العريضة ومزاعم انتمائه للنبي والوحي والرسالة الإسلامية، وبالتالي يوضح معالم الاِسلام المحمدي الاَصيل والفرق بينه وبين الإسلام المدّعى الملفّع بتلكم الشعارات.
2- بناء القاعدة الجماهيرية الشعبية، المؤهّلة لحفظ الرسالة وحدودها بعيداً عن الزيف والتزييف وسياسة تسطيح الوعي التي غطّت مساحات عريضة من الجمهور المسلم.
3- تعميق مفهوم الاِمامة والولاية في الجماعة الخاصة بعد أن اهتزّت لدى العامّة تحت ضغط الاِعلام المزيف وأبواقه المأجورة.
4- العمل بمنهاج دقيق وتكتيك خاص يراعى فيها جبروت السلطة الحاكمة التي كانت تحسب على الاِمام عليه السلام حركاته وسكناته، وتعدّ عليه أنفاسه وكلماته من خلال أزلامها وجواسيسها المنتشرين في كل زاوية وزقاق.
محاور الرسالة السجادية
وهذا العمل الدؤوب والمنهج الحكيم، والموازنة الدقيقة تمثلت بعدة محاور , المحور الأول هو عدم المغامرة بتركةٍ ثقيلة عليه أداؤها في تبليغ الرسالة وحمل الأمانة وبلورة أحكام الدين التي سفّهها حكام بني أمية.
المحور الثاني تحريك أجواء الصراع ضد الظالمين واستثمار بعض فضاءاته الحرّة لتطويق مساعي الحكام الأمويين في الالتفاف على جريمتهم في تحريف الدين وخبثهم في احتواء غضب الأمة المقدس ضد قتلة الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه.
المحور الثالث إن الإمام عليه السلام لا يريد أن يُتّهم أنه اعتزل التصدي تشبثاً بالحياة وحرصاً على حطامها، بل انه كان يسعى إلى تسفيه تلك التهمة باعتباره أزهد الناس في حياة نتنة (اغتالت حسين السبط واختارت يزيداً).
المحور الرابع أنّه عليه السلام لم يرد أن يعطي للمتقاعسين والمتخاذلين عذراً آخر لتبرير قعودهم وغدرهم واحتمائهم بعزلته وانطوائه، أي اتخاذ ذلك ذريعةً وغطاءً لنكوصهم وجبنهم وتهافتهم على الدنيا وملذّاتها، وبالتالي مواصلة طريق الانحراف الذي كان الإمام عليه السلام أصدق الناس في محاربته، وأمضاهم في مناجزته ومناوءته.
ولكل هذا فإن الإمام وعدد قليل من المخلصين الذين تضافرت جهودهم على نصرته استطاع أن يحقق نتائج قياسية ويترك آثاراً عظيمة لا يقدر على تحقيقها أي زعيم أو قائد يمرُّ بظروفه , فدوره العلمي كان رائداً وعظيماً في إحياء الرسالة المحمدية وتعميقها في نفوس المسلمين.