29 شوال 1432 - 28/09/2011
لكل أمة رجالها، ولكل عصر رجاله وعلماؤه، وكتّابه، ومؤلّفوه، وشعراؤه، وخطباؤه وشهداؤه، وهكذا في كل حقب التاريخ المتعاقبة، تسجّل لنا ومضات هؤلاء الأعلام بأحرف من نور لتصل إلى الأجيال اللاحقة، فنجد علَماً قد أبدع في جانب من صفحات حضارة أمته، وآخر شكّل رمزاً وطنياً لامعاً يشار له بالبنان. ويسطّر تاريخ أمة ما من مفردات الإبداع الفردي لأبنائها ليصبّ في مصلحة تلك الأمة. فالعباقرة والعلماء هم الذين يخلدون، والأدباء والشعراء والثائرون هم الذين تخط لهم كتب التاريخ صفحات مشعة تبرق للآتين بأنوار الإبداع والتفرد في شتى المجالات الحضارية... إن مسحة التخصص تسم أكثر هذه الشخصيات المميزة فيقترن اسم ما بنوع من الإبداع الذي يعرف به، كالعالم والشاعر والمؤلف والخطيب والفقيه وحتى في الصفات والخصال الأخلاقية، فهناك الزاهد والمهاجر والمعذب في سبيل الله إلى غير ذلك من هذه الخصال الحسنة، إلا أن الأمر النادر هو اجتماع كل هذه الصفات والخصال في شخصية تحملها مجتمعة، وهكذا كانت شخصية الشهيد السعيد آية الله السيد حسن الشيرازي.
دينامية الفعل والتطوير
أحرز السيد الشهيد قصب السبق في تكريس نموذج العالم العامل، المنفتح على روح العصر، والمتفهم لمجمل التغيرات (السياسية ـ الاجتماعية) التي أحدثتها هزات القرن العشرين، كما ضرب مثالاً رائعاً في قدرة رجل الدين على ارتياد أصعب المهام والمسؤوليات في إطار حركية المفاهيم، ونهضوية المشروع الإسلامي المعاصر.
وفي أحلك الظروف التي كانت تواجه الأمة الإسلامية جراء التهميش الدولي والهجمات الأيديولوجية واشتداد الأزمات الداخلية والخارجية التي كانت تستهدف إقصاء الإسلام من المشهد العام، ولدت ملامح المشروع الإسلامي المعاصر، وحمل رجالات الفكر والعلم والجهاد على عاتقهم مسؤولية النهوض به، وتكريسه واقعاً عملياً له حيزه الطبيعي في رسم تطلعات العصر، وصياغة المناهج التي تواكب التطورات المتسارعة، وصون الكيان الإسلامي بما يمثله المسلمون من كتلة بشرية عملاقة.
وضمن هذه الأجواء شخص الشهيد الشيرازي ضرورة (تجسير الفجوة) بين الموروث العقائدي والمفاهيمي والفكري من جهة والعصرنة والتحديث من جهة أخرى، وضمن صياغة المشروع الإسلامي المعاصر بمقاصده ونظريته واندفاعيته، وأن يأخذ هذا المشروع دوره الذي اختطف منه بفعل عوامل التقهقر في الحالة الإسلامية، والتي عانى منها لاحقاً المشروع الإسلامي، كما أعاقت اندفاعته تسارع عناصر التنمية الثقافية والبشرية والاقتصادية في القرن العشرين. ومن هنا لم يؤمن السيد الشهيد بشخصية البعد الواحد لـ«رجل الدين»، بل كرس عملياً ضرورة صقل الشخصية ورفدها بكل موجبات الشخصية الرسالية التي تتعاطى مع محيطها بعناوين شتى تستدعي بناءً ذاتياً غاية في السعة والاطلاع والتعامل مع التطورات وتفكيك طلاسم الواقع، والتفاعل البناء مع المشروع الإنساني العالمي. وقد تميز السيد الشهيد بـ(كاريزما) «شخصية مؤثرة دفاعية» لازمته حتى استشهاده، كانت نابغة من قوة إيمانه وريادته، وتبنيه لقضايا (الإنسان) في واقعه المأزوم وحاضره الجريح وحمله الذبيح.
عالمية المشروع
لم تقتصر مشاريع الشهيد الشيرازي رضوان الله تعالى عليه على بقعة معينة، ولم يتحدد حلمه بأرض، كما لم يتحدد بزمن، بل شملت مشاريعه أغلب المساحة الجغرافية للعالم الإسلامي، فقد عمل سماحته لسدّ الفراغ الذي يعيشه لبنان من ناحية التثقيف والتبليغ الإسلامي، فأسس (مدرسة الإمام المهدي) الدينية، وهي النواة الأولى لتأسيس حوزة علمية في لبنان. وقد حرص الإمام الشهيد على إبعادها عن الانجرار وراء هذه النظرية أو تلك، فضمّت هذه الحوزة إضافة إلى الطلبة اللبنانيين طلبة من بلدان إسلامية عديدة، وفدوا من أفريقيا ومن بلدان أخرى، وقد أضحت هذه الحوزة مصدراً هاما للمبلغين الذين انتشروا في البلاد غير الإسلامية لنشر العقيدة هناك، وقد واصلت الحوزة مسيرتها رغم الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان، حيث توزع الطلبة على حوزات النجف وقم والكويت، ثم عادوا بعد هدوء الحرب لمواصلة الدراسة فيها. كما أسس الشهيد الشيرازي مشاريع أخرى في لبنان كمؤسسة (دار الصادق) للطباعة والنشر، ومكتب جماعة العلماء، وعدد من النشرات والدوريات كمجلة (الإيمان). ولم يكن السيد الشهيد بعيداً عن القارة المنسية «أفريقيا»، فزار عدداً من دولها، ومنها ساحل العاج، وأقام في عاصمتها (ابيدجان) وأسس المركز الإسلامي هناك. كما كانت له زيارات إلى سيراليون حيث أنشأ (الجمعية الثقافية الإسلامية) في العاصمة (فريتاون) بعد ما التقى برئيسها وعدد من المسؤولين هناك، وأسس بعد ذلك (المدرسة الزينبية الهاشمية). كما سافر سماحته إلى دول عربية وإلى فرنسا التي كان له فيها محاضرات وندوات مع الجاليات الإسلامية في (باريس). وكانت لهذه الجهود التي بذلها الإمام الشهيد في أرجاء العالم قصب السبق في إرساء وتأسيس المراكز الإسلامية والمدارس الدينية، وما نراه اليوم من انتشار واسع للإسلام في البلدان الغربية وأفريقيا واستراليا وغيرها من أصقاع العالم فإن لسماحته أثراً كبيراً في وضع لبناتها الأولى.
العراق.. وطن وحلم كبير
بلده العراق... كان حاضراً دائماً في أشعاره وقصائده، بل وفي كل نفس من أنفاسه الطيبة، إذ كان يعيشه في قلبه وشعوره وروحه التي بين جنبيه، فبالرغم من أن الشهيد عاش مهاجراً بعيداً عن مسقط رأسه (النجف الأشرف) وعن المدينة التي ترعرع ونما وشب فيها وتعلم منها حب الدين والوطن والناس، وحب الإيمان والثورة من أجل المستضعفين (كربلاء المقدسة)، إلا أن العراق ظل حاضراً في كل كيانه يعبر عنه ببيت شعر، أو قصيدة كاملة، أو كلمة نارية تلهب الجمهور يلقيها في هذا المهرجان أو ذاك. لقد حدد الشهيد الكثير من المواقف إزاء قضايا العراق المختلفة، والتي كان يعتقد أنها السبيل لإعادته إلى موقعه الصحيح والطبيعي في العالم الإسلامي، كونه الرئة التي تتنفس منها الأمة الهواء النقي والفاعل الذي يحركها باتجاه أهدافها المقدسة كلما انتهت شحناتها الفكرية والثقافية والروحية أو كادت تنتهي، والإرادة التي تمنحها القوة والقدرة والعزيمة كلما أصيبت بالخوار والتكاسل والتثاقل لأيّ سبب كان، والأمل الذي يمنحها ثقة وإصراراً كلما دب فيها اليأس. لقد بادر الشهيد الشيرازي لتحديد الدواء كلما شكا العراق من داء، وكان رائداً في ذلك، لأنه كان يعتقد بأن مرض العراق يسري بأثره السلبي على كل الأمة، فإذا اعتلّ العراق اعتلّت الأمة. كما آمن الشهيد بأن العراق غنيّ بالفكر والقوة البشرية، وغنيّ بتاريخه وقيمه وسلوكياته، إذ يرى سماحته أن للعراق لما يمتلكه من مخزونٍ فكريٍّ ثرٍّ قدرةً على أن يغدق للآخرين ما هو أصيل وحقيقي دون أن يمنعه ذلك من التفاعل والتواصل مع ما يقدمه العقل الإنساني ويتوصل إليه من إنجازات تخدم الإنسان وترسخ الفضيلة وتقيم حضارة،
رسالة وشهادة
قد يتصور بعض الناس أن العبقرية لا يمكن إلا أن تكون ـ دائماً ـ عاملاً مساعداً فاعلاً لمقاربة الإنسان لأهدافه، لأن يكون في الوقت نفسه رائداً مبادراً الى تحمل المسؤولية، سبّاقاً بل ومجدداً مصلحاً عالماً معلماً مربياً وذا شخصية طموحة متعددة الأبعاد، تفكر، وتتشاور، وتخطط، وتكتب، وتتحاور، وتعيش سفَراً دائماً بحقيبة واحدة هي حقيبة القضية، تنقيباً عن الولادة الجديدة للأمة. لكن الواقع لا يؤيد ذلك، فمن الممكن أن تكون العبقرية مصدراً لمشاكل الفرد والمجتمع ولذلك يقال إن العبقرية والإبداع يمكن أن تتسبب في التقدم والبناء الكبير أو التراجع والانهيار الكبير، وليس للعبقري المبدع وحده بل له ولمجتمعه أيضاً. إذن العبقرية سلاح ذو حدين للفرد العبقري، وهي كذلك لمجتمعه!! كتب أحد القادة العالميين قبل وفاته بفترة قصيرة: «لقد أنجزت الكثير ولكنني لم أكسب في النهاية شيئا». وقد يصدر عن «العبقري» سلوك مضطرب، يفتقر إلى حسن النظر، ويفتقد القدرة على التشخيص السليم... وقصة «نيتشه» الفيلسوف والمفكر الألماني معروفة لنقاد الأدب والمفكرين بسبب نهايته العقلية المفجعة. لم يكن هناك منْ يتخيل أن هذا الرجل هو الذي كتب قبل ذلك بسنوات كتابه: «هكذا تكلم زارادشت» الذي يصفه الكثيرون بتحفة «نيتشه» الفكرية.
ما يقدمه الإبداع والمبدعون للمجتمع كثير، وملؤه الثراء والعطاء، وربما لم يبالغ من قال بأن أغلب جوانب التقدم في الحياة مرهون بما تقدمه هذه القلة ـ القليلة كماً والكبيرة كيفاً ـ من العقول اللامعة والمبدعة في أي مجتمع، ولهذا فمساهمات الإبداع والمبدعين في حياتنا أمر لا يجوز إغفاله وينبغي معرفة شروطه ودراسته على نحو يسمح لنا بالاستفادة الملائمة من تلك الإسهامات.
لقد وضع المفكر الإسلامي الكبير والشهيد السعيد السيد حسن الشيرازي وأمثاله قطار العبقرية على السكّة فكانت حياته ـ التي لم تستكمل الخمسة عقود ـ مباركة بعملها وعطائها، وكان رائداً مبادراً الى تحمل المسؤولية سبّاقاً ومجدداً مصلحاً عالماً معلماً مربياً وذا شخصية طموحة متعددة الأبعاد، تفكر، وتتشاور، وتخطط، وتكتب، وتتحاور، وتعيش سفرا دائماً بحقيبة واحدة هي حقيبة القضية تنقيباً عن الولادة الجديدة للأمة، ومن رحم الأصالة المستقاة من نهج الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وأهل بيته الطاهرين سلام الله عليهم.. يقضي فترة غير قصيرة من حياته في السجون والمعتقلات، ويتعرض لأبشع أنواع التعذيب النفسي والجسدي فيهاجر، وحين يفكر في تأسيس الحوزة العلمية الزينبية يلتمس من الله العون، وينطلق للتشرف بزيارة العقيلة زينب بنت علي سلام الله عليهما، فيتوسل ويتوسل لإنجاز الرسالة، ويجد، ويجتهد دون كلل أو ملل حتى تحقيق ما كان يصفه البعض وقتئذ بالحلم تارة والخيال تارة أخرى، ولا يختار لهذا الصرح العلمي الشامخ اسماً سوى اسم هذه البطلة العظيمة سلام الله عليها، وإذا راجعه طالب ليستأذن في إنهاء دراسته لشحة الإمكانات أو لسبب آخر كان يحاول ثنيه عن ذلك وفي النهاية يبادره قائلاً: «الحوزة حوزة السيدة زينب، إذا كان لا بد من ذلك فتشرف بزيارتها لاستئذانها في الانصراف»، وينقل العديد من معاونيه ومرافقيه التزامه وتأكيده المتواصل قدس سره في كل خطوة صغيرة أو كبيرة على تجديد قصد القربة لله عزّ وجلّ .. لذلك كان الشهيد في سباق مع الزمن، كان يعيش حالة طوارئ دائمة آناء الليل وأطراف النهار على مستوى الطاعة والالتزام، وعلى مستوى الإنجاز والعطاء، فينتقل من إنجاز كبير الى إنجاز أكبر حتى تُوجّ بوسام الشهادة، حيث استقرت أكثر من ثلاثين إطلاقة في قلبه ورأسه وسط شارع من شوارع بيروت، معلنةً نهاية سفر عالم كبير، ومجاهد كريم، ومفكر متواضع، وكاتب ثائر، وشاعر محارب، وفارس حالم. فهنيئاً له تلك التضحيات وذلك العطاء وتلك الإنجازات.
طريق.. لا تنتهي بالجنة
حرص الشهيد الشيرازي في جمعة 16/6/1400 هـ على أن يؤبَّن شهيداً كبيراً من العراق، وهو في العاصمة بيروت، وفي طريقه الى مجلس الفاتحة الذي أقيم الى روح الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره ... ما كان يدري أنه في طريق سيؤبن فيها نفسه، فالطريق الذي يسير فيه كان طريقاً قد عشعش فيه غربان القتل والجريمة، وهو طريق عادة ما يكون مضرجاً بالدماء ويوصل الى جنة الشهداء... ففي الساعة السادسة من عصر ذلك اليوم غادر السيد حسن الشيرازي قدس سره الفندق متوجهاً نحو برج البراجنة ليجتمع مع هيئة العلماء التي يرأسها، للاشتراك في فاتحة الشهيد الصدر رحمه الله، ولدى وصول السيارة التي تقله الى محلة الرملة البيضاء، حيث مقر سفارة النظام البائد في العراق، ظهرت سيارتان تابعتان للسفارة المذكورة، فجأة أطلق من فيهما النار على السيد حسن الشيرازي، فأصيب في رأسه الشريف من الزجاج الخلفي إصابة قاتلة، أدت إلى استشهاده. وفيما بعد تبين أنه رضوان الله تعالى عليه أصيب بطلقات عديدة في رأسه من رشاشات ذات عيار واحد. العديد من الطلقات من عدد من الرشاشات!! كلها لنسف إنسان، فهكذا يصنع الباطل مع أهل الحرية والإصلاح والتغيير، وهكذا تكون نهاية العظماء... نهاية تبدأ بإشراقة فوز وانتصار وأمل.. ولا تنتهي بجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين... فـ(رضوان الله أكبر).