b4b3b2b1
الإمام الكاظم (سلام الله عليه)... وطغاة بني العباس | هل ستصبح ليبيا عراق اوباما؟ | التطرف الديني في العراق: الاسباب والمعالجات | الامن المطلوب في العراق.. والخلايا الأميبية | المتناقضون | الغرب ينحني تعظيماً لرسول الله (صلى الله عليه وآله)! | رمضان ... مدرسة جهاد النفس والصبر ومواساة الفقراء | أقوال سماحة المرجع الشيرازي بحق الفقيد الراحل | ركائز النهضة العراقية ومعوقاتها | صوم رمضان.. محطة لتزويد الإنسان بالإرادة والصبر | وشاء الباري تعالى ان ينجوا الامام السجاد | الصحوة الإسلامية وضرورات إدامة النهوض بواقع الأمة |

الإمام الشيرازي.. مرحلة جديدة للأمة الشيعية

 

27 محرم الحرام 1432 - 02/01/2011

‏يصعب على المقيّم لمسيرة الإمام الشيرازي (قدس سره) أن يعدّد الإنجازات التي حفلت بها هذه المسيرة الوضاءة، ذلك لأنها في تنوعها وسعتها وحجمها وأبعادها؛ أعظم من أن تُحصى تمام الإحصاء أو توصف حق الوصف، خاصةً إذا لاحظنا أن كثيرا من هذه الإنجازات خافية عنّا، ويتكشّف لنا بعضها بعد رحيله رضوان الله تعالى عليه، إذ كان من سماته الأخلاقية عدم الإشارة إلى النفس، أو تزكيتها، بذكر حُسن صنيع ما، فيبقى ذلك الصنيع قيد الكتمان إلى أن يشاء الله تعالى إظهاره.

بيد أنه يمكننا أن نعتبر - بملاحظة كمّ وكيف إنجازات الإمام الراحل - أن أعظم ما حقّقه كان نقل الأمة الشيعية إلى مرحلة جديدة، رتّب هو فصولها وخلق أجواءها، حتى غدت عهدا جديدا بحيث يمكن أن يُقال أن التاريخ الشيعي المعاصر أو الحالة الشيعية المعاصرة بدأت مع انطلاقة مرجعية الإمام الشيرازي أعلا الله درجاته. تماما كما يُقال مثلا أن التاريخ الفقهي الشيعي قد تحوّل وتطوّر إلى مرحلة جديدة مع انطلاقة مرجعية الشيخ الأعظم الأنصاري قدس الله نفسه.

ونقول أن العهد الجديد للأمة الشيعية قد بدأ مع الإمام الشيرازي؛ لأننا إذا تتبّعنا تحرّكاته في الواقع العام، نجدها قد خلقت تطوّرات هائلة في شتى المجالات، العلمية والفكرية والسياسية والاجتماعية، وما إليها وما يتفرّع منها. وغير خفي على أحد أن الإمام الراحل (قدس سره) ضرب رقما قياسيا من حيث الشمول والاستيعاب لكافة مجالات الحياة وأبعادها المختلفة، فأسهم فيها جميعا، تأليفا وصياغة، وتأسيسا وتنفيذا، وتطويرا وتغييرا.

خذ مثلا الجانب العلمي؛ تجد أن هناك كثيرا من الفقهاء الفطاحل تغيّرت بتحقيقاتهم المستجدة مباني الفقه والأصول، كما هو على سبيل المثال اعتبار الفقهاء المتقدّمين أن ماء البئر بمنزلة الماء القليل، ثم لما جاء زمان المحقق الحلي صاحب الشرائع (رضوان الله تعالى عليه) تغيّر ذلك المبنى تماما إلى اعتبار ماء البئر بمنزلة الماء المعتصم، واستمرّت هذه النظرة الفقهية جارية إلى اليوم. أما حينما تصل النوبة إلى الإمام الشيرازي (قدس سره) لا تجده يغيّر من المباني فقط، بل يؤسس لفقه جديد، بتقسيم جديد، ولغة جديدة، ومباني جديدة. فيكون كمن قلب الطقس الفقهي بأكمله! لاحظ ذلك مثلا في موسوعته الفقهية العملاقة التي لا نظير لها، وما اشتملته عليه من أبواب مستحدثة لم يتطرّق لها الفقهاء من ذي قبل. ودونك كتاباه (فقه القانون) و(فقه الاقتصاد) كنموذج على ما فرّعه من آلاف المسائل التي لم يسبق إليها أحد.

من هنا نعرف أن التاريخ الفقهي الشيعي قد تأسس من جديد وفق أدبيات جديدة، وسيكون ما أرساه الإمام الشيرازي في هذا المضمار قاعدة للبحث الفقهي والأصولي في المستقبل إلى ما شاء الله تعالى. ولعلّك تلاحظ من الآن، أن كثيرا مما طرحه الإمام الراحل (قدس سره) في هذا الجانب أصبح متداولا في لغة غيره من الفقهاء المعاصرين، فمسألة كحرمة العنف ووجوب السلم، التي طوّرها الإمام لتصبح قاعدة فقهية حاكمة، أخذت موقعها في لغة غيره من الفقهاء بموازاة سائر القواعد، وبدأت بالتسلل إلى اجتهاداتهم وسلائقهم وأذواقهم الاستنباطية.

لم نكن نقرأ من ذي قبل مفردة (اللاعنف) في غير الرسالة العملية للمرجع الشيرازي أو في كتبه ومحاضراته المدوّنة. أما اليوم فنجدها في بعض كتب الاستفتاءات لمراجع آخرين، وفي مدوّنات بعضهم. إن هذا هو ما يمثّل بحق تطوّرا وعهدا جديدا، وهو ما نعنيه.

وانظر إلى ما أحدثه الإمام الراحل (رضوان الله تعالى عليه) من تحوّلات على صعيد حركة النشاط التبليغي الشيعي العام في العالم، تجد أن ازدياد حركة النشر، ودخول فئات جديدة فيها كان وليد جهوده، فهو الذي تحرّك باتجاه تأثيري مبهر لإقناع أمثال جورج جرداق وسليمان كتاني وأنطون بارا وبولس سلامة وغيرهم، للدخول على خط التبليغ للتشيع ولأهل البيت عليهم السلام! إنه أمر لم يكن أحد يحلم به أو يتصوّره من ذي قبل! لقد كان التشيع محليا من ذي قبل، فإذا بالإمام الراحل يخرجه إلى طور العالمية حتى يقول النصراني بكل فخر: "لا تقل شيعة هواة علي إن في كل منصف شيعيا"!

وانظر إلى حجم المؤسسات التبليغية العاملة اليوم، ونشاطاتها المختلفة المتنوعة الهائلة، عبر وسائل مقروءة وسمعية ومرئية، وكيف أنها جميعا انبثقت من دفعه وتشجيعه، وهو الجامع المشترك في ما بينها، تعرف أنه خلق حالة جديدة في سماء نشر التشيع في العالم، لم تكن قد شوهدت من قبل.

خذ مثلا الكويت التي أتحدث عنها من واقع معايشة، كثيرون جاءوا إليها من العلماء قبله وبعده، وقد صنعوا فيها ما صنعوه من أوجه البر والخير. إلا أنه عندما جاء هو إليها إذا بها تتحوّل من قرية مستوردة كانت تعيش على هامش العالم الشيعي؛ إلى عاصمة مصدّرة من عواصمه المؤثرة! منها تصدر مئات الألوف من الكتب والصحف والمجلات والنشرات، وفيها يجنَّد ألوف العاملين النشطين في مجالات التبليغ، وبها تقوم مئات المشاريع الإسلامية في أنحاء العالم، ناهيك عما تأسس فيها من مساجد وحسينيات ومراكز إسلامية ومؤسسات وهيئات وقنوات فضائية.. وقد تغيّرت أجواؤها كليّة حتى أصبح لدينا في الليلة الواحدة؛ أكثر من أربعمئة مجلس مقام على هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة من الأرض ذات النفوس البشرية القليلة!

ويكفيك أن تعرف أن الكويتيين لم يكونوا يعرفون قبل الإمام الشيرازي معنى الحجاب الشرعي إلا من ندر منهم! فقد كانت موجة الانحلال طاغية عليهم في الستينات الميلادية والسبعينات كما سائر البلدان العربية، فلما وصل إليها قادما من كربلاء المقدسة إذا به في غضون أشهر قليلة يقلب المعادلة رأسا على عقب! حتى يصبح الحجاب هو الطاغي على ما سواه!

ثم إن الكويتيين كانوا منقسمين بين أصولهم العرقية، إلى درجة أن المقابر القديمة كانت مقسّمة بشكل عنصري فلا يُدفن الشيعي ذو الأصل الإيراني إلى جوار الشيعي ذو الأصل الإحسائي! وبين المدفونين من أهل الملة الواحدة جدار فاصل! فلما حلّ سماحته (رضوان الله تعالى عليه) في الكويت وحّد المجتمع، وأزال التفرقة، حتى أصبحوا يتزاوجون ويتصاهرون ويتزاورون و.. يُدفن بعضهم إلى جوار بعض!

من ذا الذي يتمكّن من أن يقضي على حالة تفرقة اجتماعية متأصلة بهذه السهولة؟ إن الأمر شبيه إلى حد ما بتوحيد الأوس والخزرج! فإذ نجح فيه الشيرازي العظيم (قدس سره) يمكننا القول بكل ثقة أنه خلق تاريخا وعهدا جديدا للشيعة والتشيع.

ولو أردنا أن نعدّد المآثر لطال بنا المقام، فكيفيك أن تعرف أن كثيرا من الكويتيين "البدون" لولاه لما كان لهم سكن! فبسبب ضغطه على الحكومة آنذاك استطاع أن يقنعها ببناء "المساكن الشعبية" في منطقة الجهراء حيث أصبحت مأوى لهؤلاء المظلومين، ومازالوا فيها إلى اليوم!

إن هذه نماذج سريعة لطبيعة التغيير الذي كان يخلقه الإمام الشيرازي (قدس سره) الذي يصدق عليه أنه تحوّل جذري من مرحلة لأخرى. ولو تتبّعت - كما أسلفنا - سائر خطواته وتحركاته وأعماله وإنجازاته، أينما حلّ وارتحل، لعرفت أن الإمام الشيرازي هو عنوان لمرحلة وعهد جديد للأمة الشيعية، وأننا جميعا مدينون له بالتحوّل الذي صنعه في عالمنا الذي نعيش.

..رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته.