b4b3b2b1
دليل بحاجة إلى أدلة | اشكالات مسلك التصحيح المذهبي لأحمد زقاقي | صلح الإمام الحسن سلام الله عليه ...بين الواقع والتأريخ المزيف | كريم آل محمد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) | الهروب من الهاويّة | نشيد العقيدة والولاء (يحسين بضمايرنه) | الأمة الإسلامية في عصر إمامة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) | إحياء النهضة الحسينية الخالدة | لماذا اختار الحسين عليه السلام، الكوفة مقصدا | أحداث الجنوب الدامية: إهمال حكومي أم فراغ فكري؟ | وقفة في ضلال ذكرى فاجعة تفجير سامراء | الجهاد هل يعني العنف المجرد؟ |

رؤى الإمام الصادق (عليه السلام) في الإصلاح العام

 

29 شوال 1432 - 28/09/2011

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

وبعد ...

استشهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وانقلب القوم على أعقابهم وبدأت مسيرة الانحراف التي واجهها أمير المؤمنين عليه السلام بحزم لا لين فيه واتخذ إسلوباً خاصاً في التعامل معها ـ هو مفصل في محله ـ وقد تخلل ذلك حروب وأحداث كُثر إلى شهادته عليه السلام وبعده كان للإمام الحسن عليه السلام دوره المميز في مسألة الإصلاح والحفاظ على المؤمنين والإسلام المحمدي وهو دور مختلف عن دور سيد الشهداء عليه السلام وشهادته المفجعة وبعد ذلك ضعف الإسلام الأصيل حداً في عهد الإمام زين العابدين عليه السلام ان كان أعداد المؤمنين قليلاً بل يعدون بأصابع اليد، الأمر الذي حتَّم على الإمام عليه السلام اتخاذ طريق جديد في التعامل مع الواقع واستطاع بحكمته البالغة الحفاظ على المؤمنين بل واتساع أعدادهم إلى حدٍ ما وتهيئة القاعدة الإصلاحية الاجتماعية والسياسية، بإظهار الابتعاد عن السياسة والانزواء في تربية النشأ وإعداد العلماء الذي بلغ قمته في عهد الإمامين الهمامين الباقرين سلام الله عليهما.

الإصلاح في عهد الإمام الباقر عليه السلام تميَّز بطابع العلم وتحصيله وتأسيس الجامعة الإسلامية الكبرى في المدينة المنورة التي مهد لتأسيسها الإمام علي بن الحسين عليهما السلام، وفعلاً استطاع الإمام إعداد نخبة من العلماء أخذت على عاتقها إصلاح الأمة بعد ذلك بإظهار الحق فاندرس الباطل تلقائياً وقد واصل الإمام جعفر الصادق عليه السلام تلك المسيرة بعد شهادة والده وبوصيه منه بأصحابه المدَّخرين للإصلاح العام، قال الإمام الصادق عليه السلام حينها وهو في سنة 114هـ: لما حضرت أبي الوفاة قال: يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً؟ قلت: «جعلت فداك والله لأدعنَّهم والرجل منهم يكون في مصر فلا يسأل أحداً»[1].

وهنا إشارة إلى قاعدة أساسية في المصلح وهي أن يكون عالماً غنياً عن علم غيره، فإن كان كذلك كان قادراً على الإصلاح وان كان جاهلاً كان إفساده مؤكد، وبذلك تقرر إن القاعدة السياسية في الإصلاح العام هي في إعداد النخبة المصلحة إعداداً يؤهلها لتحقيق الغاية ويتحدد عددها باتساع الرقعة والبعد الزمني المتوخى للإصلاح وكذا ديمومته، حيث أن إصلاح الحق لا يتأطر بإطار زمني محدد أو بالنظر إلى الواقع المعاش فقط بل على المصلح أن يضع أسس خلود إصلاحه وبطبيعة الحال إن الكثير من الإصلاحات لا تأتي أكلها سريعاً بل تحتاج إلى سنين أو عقود أو قرون من الزمن، وخلاصة الأمر إن الإمام عليه السلام شحذ الهمم وأثار في النفوس التواقة إلى الإصلاح ضرورته وإمكانيته من الطريق الصحيح الذي حدده سلام الله عليه لذا في عهده بلغت الجامعة الإسلامية عصرها الذهبي وغدا الآلاف طلبة تحت منبر الإمام عليه السلام يُعرِّفهم الحق فيتبعونه ويكونوا بدورهم دعاة إليه ويميزهم الباطل فيجتنبونه ويكونوا بدورهم محذِّرين الناس منه.

والأسلوب الإصلاحي الذي اتخذه الإمام عليه السلام تطلب ابتعاده عن الاصطدام المباشر مع الغاصبين للخلافة من الأمويين والعباسيين وبذلك تفرغ الإمام عليه السلام لأداء رسالته العلمية واستغنى عن طلب الرئاسة والسلطة السياسية لذا نجده عليه السلام لم يتعرض للخلافة قط ولا نازع احد فيها بل غرق في بحار المعارف متألقاً في ذروة الحقيقة، منتشل الأمة من حضيض الجهل وإتباع سلاطنة الجور.

فهل هذا يعني إن الإمام عليه السلام لم يكن سياسياً؟

الواقع يكشف لنا خلاف ذلك بل هو سياسي من الدرجة الأولى، ففي الوقت الذي نجده مبتعد ظاهراً عن الملوك الأمويين وسياستهم معتكف على تأسيس المناهج العلمية وتربية العلماء نجد زيد الشهيد رضوان الله عليه وهو عم الإمام عليه السلام ومن أتباعه المخلصين ثائراً ضد الحكم الأموي حتى استشهد عام 125هـ وثورته هذه مواجهة مباشرة مع السلطة الأموية إلا أن الإمام عليه السلام بحنكته لم يستطيعوا عليه سبيلا.

الإمام الصادق والعباسيين:

ثم جاءت الدولة العباسية لتظهر أشد إلحاقاً في تعقب آل علي عليه السلام من بني أمية وشيعتهم، إلا إنهم في بادئ أمرهم أيام السفاح وهو أول خلفاءهم لمدة أربع سنين انشغلت الدولة بترسيخ دعائمها وملاحقة بني أمية، فكان فيها فسحة للإمام عليه السلام لعمله الإصلاحي والارتقاء به درجات عالية.

المشكلة إن العباسيين كانوا على معرفة إلى حد ما بأهداف الإمام ومنزلته ومقامه فان تركوه وهم بعد لم يترسخ ملكهم اتجه الناس والتفوا حول الإمام عليه السلام لذلك لم يدعوه وشأنه بل بعثوا إليه من يتعقبه من المدينة المنورة إلى الحيرة ليفتك به، لاسيما وان الناس كانوا ينظرون إلى الخلافة جامعة للسلطتين الروحية والزمنية ولا تراها سلطاناً خالصاً مبتوت الصلة بالدين.

ولذا إن استطاع الإمام عليه السلام بيان مكانته ومنزلته وانه إمام مفترض الطاعة منصَّب من قبل الله سبحانه وتعالى واستطاع أن يتبلور العقائد الحقة في أذهان الناس فهذا أمر مزلزل للحكم العباسي الجائر بل قاضياً على المنصب الأعلى فيه ورأسه وهو الخليفة العباسي، فتعرض الإمام عليه السلام اثر ذلك إلى ترصد جعفر الدوانيقي به فرأى الإمام عليه السلام منه ضروباً من الآلام والمكاره، قال السيد ابن طاووس رضوان الله عليه: إن المنصور دعا الصادق عليه السلام سبع مرات كان بعضها في المدينة والربذة حين حج المنصور، وبعضها يرسل إليه إلى الكوفة، وبعضها إلى بغداد، وما كان يرسل عليه مرة إلا ويريد فيها قتله[2].

وأخيراً استطاع الدوانيقي قتل الإمام عليه السلام في الخامس والعشرين من شهر شوال المكرم 148هـ بالعنب المسموم الذي أطعمه إياه وكان عمره الشريف حين ذاك خمساً وستين سنة.

إلا إن المنهج الإصلاحي الخالد الذي وضعه استمر إلى يوم الناس هذا وبذلك كان هو المنتصر عليه السلام لا الدوانيقي وخلفاءه العباسيين وان الأطر الإصلاحية التي وضعها الإمام عليه السلام كفلت بانتشال الأمة وتصحيح الاعوجاج عبر الزمن.

أقول إن أردنا السير وفق نهج الإمام عليه السلام السياسي والاجتماعي الإصلاحي لابد من اقتفاء خطواته ومواكبته لاسيما في إعداد الكفاءات والتخصصات وتأسيس الجامعات العظيمة التي تضم بين دفتيها مئات الآلاف من الطلبة ليكونوا دعاة إلى نهجه عليه السلام وليس هذا بالأمر الصعب لا أن نكتفي بتدريس بضع مئات لا تتوفر في جميعهم الشروط المطلوبة.

والحمد لله رب العالمين ...

_________________________

[1] الإرشاد، ج1 ص40, وبحار الأنوار، ج47 ص12.

[2] بحار الأنوار، ج47 ص185.