29 ذي الحجة 1428 - 09/01/2008
في سطور
اسمه: محمد.
والده: عبد الله بن عبد المطلب.
والدته: آمنة بنت وهب.
ميلاده: في السابع عشر من شهر ربيع الأول عام الفيل.
كنيته: أبو القاسم.
ألقابه: الصادق، الأمين، خاتم الأنبياء والمرسلين...
بعثته: بعث إلى العالم كافة في السابع والعشرين من شهر رجب.
صفته: كان أبيض الوجه مشربا بحمرة، أسود العينين، مقرون الحاجبين، عظيم المنكبين، ليس بالطويل ولا بالقصير بل معتدل، إذا التفت التفت كله يمشي على سكينة، ليس له ظل.
زوجاته: خديجة بنت خويلد، أم سلمة، عائشة بنت أبي بكر، حفصة بنت عمر، زينب بنت جحش، جويرية بنت الحارث، زينب بنت خزيمة، سودة بنت زمعة، رملة بنت أبي سفيان.
أولاده: القاسم وتوفي، إبراهيم وتوفي أيضا، ويقال أنه ولد له الطيب وهو الآخر توفي. ومن بناته فاطمة الزهراء (سلام الله عليها).
حرزه: بسم الله أسترعيك ربك وأعوذك بالواحد من شر كل حاسد قائم أو قاعد وكل خلق زائد في طرق الموارد لا تضروه في يقظة ولا منام ولا في ظعن ولا في مقام سجيس الليالي وأواخر الأيام يد الله فوق أيديهم وحجاب الله فوق عاديتهم.
نقش خاتمه: محمد رسول الله.
مولده الشريف (صلى الله عليه وآله)
تاريخ ولادته:
ولد النبي (صلى الله عليه وآله) في عام الفيل (570م) باتفاق كتّاب السيرة، كما اتّفقوا على أنّه ولد في شهر ربيع الأوّل، يوم الجمعة السابع عشر منه، عند الشيعة، أمّا السنّة فقد عيّنوا يوم الاِثنين الثاني عشر من الشهر نفسه. ولمّا كان الشيعة ينقلون أخبار أهل البيت عنهم، فلابدّ من الاِقرار بأنّ ما ينقله هوَلاء ويكتبونه من تفاصيل تتعلّق بحياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي أقرب من غيرها إلى الحقيقة، لاَنّها مأخوذة عن أقربائه وأبنائه.
وقد حملت به أُمّه السيدة آمنة بنت وهب في أيّام التشريق من شهر رجب، فإذا اعتبرنا يوم ولادته، 17 من ربيع الاَوّل، فتكون مدّة حملها به ثمانية أشهر وأيّاما ًوقد وقعت يوم ولادته أحداث عجيبة، فقد وُلِد مختوناً مقطوع السرة، وهو يقول: (اللّه أكبر والحمد للّه كثيراً، سبحان اللّه بكرةً وأصيلاً) كما تساقطت الاَصنام في الكعبة على وجوهها، وخرج نورٌ معه أضاء مساحة واسعة من الجزيرة العربية، وانكسر إيوان كسرى، وسقطت أربعة عشر شرفة منه، وانخمدت نار فارس التي كانت تعبد، وجفت بحيرة ساوة.
وهدفت هذه الاَحداث الخارقة والعجيبة إلى أمرين موَثرين:
1) فهي تدفع الجبابرة والوثنيين إلى التفكير فيما هم فيه من أحوال، فيتساءلون عن الاَسباب التي دعت إلى كل ّذلك لعلهم يعقلون. إذ أنّ تلك الاَحداث كانت في الواقع تبشر بعصر جديد هو عصر انتهاء الوثنية وزوال مظاهر السلطة الشيطانية واندحارها.
2) ومن جهة أُخرى، تبرهن على الشأن العظيم للوليد الجديد، على أنّه ليس عادياً، بل هو كغيره من الاَنبياء العظام الذين رافقت ولادتُهم أمثالَ تلك الحوادث العجيبة والوقائع الغريبة.
وفي اليوم السابع لمولده المبارك، عقّ عبد المطلب عنه بكبش شكراً للّه تعالى، واحتفل به مع عامة قريش. وقال عن تسميته محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن سببه: أردت أن يُحمَد في السماء والاَرض وكانت أُمّه (عليها السلام) قد سمّته أحمد قبل أن يسمّيه جدّه وكان هذا الاسم نادراً بين العرب فلم يسم به منهم سوى 16 شخصاً، ولذا فإنّه كان من إحدى العلامات الخاصّة به.
احتفال المسلمين بميلاده (صلى الله عليه وآله):
ينبغي أن يحتفل المسلمون جميعاً بمولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإقامة المهرجانات الكبرى والاحتفالات، تكريماً له (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو أمر مطلوب ومحبّب في الشريعة المقدسة لقوله تعالى: (فَالّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُوا النُّورَ الّذِي أُنْزِلََ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون) الأعراف:157 وعزّر بمعنى كرّم وبجّل فالاحتفال بمولده (صلى الله عليه وآله وسلم) يعني ذكر أخلاقه العظيمة، وسجاياه النبيلة، والإشادة بشرفه وفضله، وهي أُمور مدحها بها القرآن الكريم: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيم) القلم:4 (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) الاِنشراح:4.
فالاحتفال بمولده الكريم هو احتفالٌ بالقيم السامية، وشكرٌ للّه على منّه، وإظهار للحبّ الكامن في النفوس له، وتكريم لمن كرمه اللّه تعالى وأمر بتكريمه واحترامه وحبّه ومودّته. وهو ردّعلى من يزعم بأنّ ذلك محرم لكونه بدعة، لا يخلو من منكرات ومحرمات كالرقص والغناء. فالمسلمون درِجوا في العصور الإسلامية الاَُولى على الاحتفال بذكرى مولده بإنشاد القصائد الرائعة في مدحه، وذكر خصاله ومكارم أخلاقه وإظهار السرور والفرح، والشكر للّه تعالى بلطفه وتفضّله به صلى الله عليه وآله على البشرية ولذا كان لابدّ من أداء هذا الاحتفال في كلّ وقت وزمان، في حياته وبعد مماته.
نزول الوحي
في جبل حراء الذي يقع شمال مكّة، ويستغرق الصعود إليه مدّة نصف ساعة، ويتكوّن من قطع صخرية لا أثر للحياة فيها. غار يقع في شمال الجبل، وهو يحكي ذكريات رجل طالما تردّد عليه وقضى الساعات والاَيّام والاَشهر في رحابه، يتعبد اللّه ويتأمّل في الكون وفي آثار قدرة اللّه وعظمته. إذ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يفكّر في أمرين، قبل أن يبلغ مقام النبوة:
1. ملكوت السماوات والاَرض، فيرى في ملامح كلّ من الكائنات نور الخالق العظيم وقدرته وعظمته، فتفتح عليه نوافذ من الغيب تحمل إلى قلبه وعقله النور الاِلهي المقدّس.
2.المسؤَولية الثقيلة التي ستوضع على كاهله، فكان يفكر في فساد حياة المجتمع المكي، وكيفية رفع كل ّذلك وإصلاحه.
وأمّا الرسالة الاِلهية إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أمر اللّه تعالى جبرائيل (عليه السلام) بأن ينزل على أمين قريش في الغار ويتلو على مسامعه بضع آيات كبداية لكتاب الهداية والسعادة، معلناً بذلك تتويجه بالنبوة ونصبه لمقام الرسالة، وطلب منه أن يقرأ، أو قال: يا محمّد اقرأ، قال: وما أقرأ؟ قال يا محمّد (اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الّذي خَلَق* خَلَقَ الاِِنْسانَ مِنْ عَلَق*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاََكْرَم* الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَم* عَلَّمَ الاِِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَم) ثمّ أوحى إليه ربّه عزّ وجلّ ما أمره به ثمّصعد إلى العلوّونزل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من الجبل، وقد غشيه من تعظيم جلال اللّه وورد عليه من كبير شأنه ما ركبه الحمى والنافض.
وقد أوضحت هذه الآيات برنامج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيّنت بشكل واضح أنّ أساس الدين يقوم على القراءة والكتابة والعلم والمعرفة باستخدام القلم. ثمّ خاطبه الملك: يا محمّد، أنت رسول اللّه، وأنا جبرائيل.
و قد اضطرب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذين الحدثين، لعظمة المسؤولية التي أُلقيت على كاهله، فترك غار حراء متوجّهاً إلى بيت السيدة خديجة (عليها السلام)، التي لاحظت الاضطراب والتعب على ملامحه فسألت عنه، فأجابها وحدّثها بكلّ ما سمع وجرى، فعظمت خديجة (عليها السلام) أمره ودعت له وقالت: أبشر، فواللّه لا يخزيك اللّه أبداً. ثمّ دثرته فنام بعض الشيء. ثمّ انطلقت إلى بيت ورقة تخبره بما سمعته من زوجها الكريم، فأجابها: إنّ ابن عمّك لصادق وإنّ هذا لبدء النبوة، وإنّه ليأتيه الناموس الاَكبر (أي الرسالة والنبوة).
لقد خرج النبي من الغار وقد ملئ بالمعنويات الرحمانية، وأحس بقدرة الله سبحانه ترافقه وتعضده، فذهب إلى بيت زوجته خديجة ليأخذ قسطا من الراحة لما أصابه من ثقل تحمل الرسالة، فهبط عليه الأمين جبرئيل ليفجر الطاقات الروحية عنده فخاطبه: (يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر....).
مراحل الدعوة الإسلامية
1ـ دعوة الأقربين
استمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو إلى دينه سرّاً مدّة ثلاثة أعوام، عمد فيها إلى بناء الكوادر وإعدادها من أفراد محدّدين، كانوا السبب في أن ينجذب إلى الدين الجديد جماعة آخرون تقبّلوا دعوته واشتهروا من بين السابقين إلى الاِيمان برسول اللّه وهم كل من:
1ـ السيدة خديجة بنت خويلد، وعلي بن أبي طالب.
2ـ زيد بن حارثة، والزبير بن العوام.
3ـ عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.
4ـ طلحة بن عبيد اللّه، وأبو عبيدة الجراح.
5ـ أبو سلمة، والاَرقم بن أبي الاَرقم.
6ـ عثمان بن مظعون، وقدامة بن مظعون.
7ـ عبد اللّه بن مظعون، وعبيدة بن الحارث.
8ـ سعيد بن زيد، وخباب بن الاَرت.
9ـ أبو بكر بن أبي قحافة، وعثمان بن عفان.
وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخرج مع بعض أتباعه إلى شعاب مكّة للصلاة فيها بعيداً عن أنظار قريش، إلاّ أنّ البعض منهم رأوهم يصلُّون، فحدث نزاعٌ قصيرٌ بين الطرفين، حين استنكروا فعلهم، وهو ما جعلَ النبي يقرر اتّخاذ بيت (الاَرقم بن أبي الاَرقم) مكاناً للعبادة، حيث آمن في هذا البيت عددٌ آخر من المشركين، كان أبرزهم: عمار بن ياسر، وصهيب بن سنان الرومي.
وقد ركّز الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) جهده في الدعوة السريّة، دون عجلة أو تسرّع، يعرض فيها دينه على كلّ من وجده أهلاً لتقبل المبادىَ السامية، من الناحية الفكرية، ففي خلال ثلاثة أعوام اكتفى بالاتّصال الشخصيّ بمن وَجَدَه موَهلاً وصالحاً للدعوة ومستعداً لقبول الدين الجديد، ممّا ساعده في أن يكسب فريقاً من الاَتباع الذين اهتدوا إلى دينه بقبول دعوته.
أمّا زعماء قريش فإنّهم لم يعتنوا بالدعوة الجديدة، كما لم يتعرضوا بأي عمل عدائي للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بل ظلوا ينظرون إليه باحترام، مراعين قواعد الآداب والسلوك، في الوقت الذي لم يتعرض فيه النبي أيضاً لاَصنامهم وآلهتهم بسوء، ولا تناولها بالنقد والاعتراض بصورة علنية، وذلك أنّ زعماء قريش كانوا متأكدين من أنّ دعوته ستنتهي في العاجل بقولهم: إنّها أيّام وتنطفئ بعدها شعلة الدعوة هذه فوراً، كما انطفأت من قبل دعوة (ورقة وأُميّة) اللّذين دعيا إلى نبذ الوثنية واعتناق المسيحية، ثم ّنسي الاَمر.
وقد جمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في السنوات الثلاث الاَُولى، أربعين شخصاً، لم يكن فيهم كفاية لاَن يصبحوا قوة دفاعية لحماية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورسالته، ممّا جعله يسعى إلى دعوة أقربائه، فكسر بذلك جدار الصمت، بالشروع في دعوة الاَقربين ثمّ الناس أجمعين، فالنبي كان يؤمن ويعتقد أنّ أي إصلاح وتغيير لابدّ أن يبدأ من إصلاح الداخل وتغييره، ومن هنا أمره اللّه تعالى بأن يدعو عشيرته الاَقربين، الذين تمنّى أن يكوّنَ منهم سياجاً قوياً يحفظه ويحفظ رسالته من الاَخطار المحتَملة: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الاََقْرَبين) الشعراء:214، كما خاطبه بصدد دعوة الناس عامة: (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكينَ* إِنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزئِين) الحجر:94ـ95.
وقد اتّخذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أُسلوباً مميزاً في دعوة أقربائه، إذ أنّه أعدّ لهم مائدةً كبرى، لـ45 فرداً من سراة بني هاشم ووجهائهم، ليكشف لهم أمر رسالته خلال تلك الضيافة، إلاّ أنّ الجو لم يناسب الحدث، فانفضّ المجلس دون تحقيق الغرض، ممّا اضطرّه إلى إعادتها في اليوم التالي. فقام النبي بعد تناول الطعام، خطيباً فيهم وقال: (إنّ الرائد لا يكذب أهله، واللّه الذي لا إله إلاّ هو، إنّي رسول اللّه إليكم خاصةً وإلى الناس عامةً، واللّه لتموتنّ كما تنامون، ولتبعَثُنّ كما تستيقظون،ولتحاسبنّ بما تعملون، وإنّها الجنة أبداً والنار أبداً. يا بني عبدالمطلب، إنّي واللّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه عزّوجلّ أن أدعوكم إليه، فأيّكم يوَمن بي ويوَازرني على هذا الاَمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟) فقام علي (عليه السلام) وهو في الثالثة عشرة أو الخامسةعشرة من عمره قائلاً: (أنا يا رسول اللّه أكونُ وزيرُك على ما بعثك اللّه). وبعدما تكرّر هذا الموقف ثلاث مرّات، أخذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد عليّ والتفت إلى القوم قائلاً: (إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا)، فضحك الجميع مستهزئين، وقالوا لاَبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيعه وجعله عليك أميراً.
إنّ هذا الاِعلان عن وصاية الاِمام علي (عليه السلام) وخلافته في مطلع عهد الرسالة وبداية أمر النبوة، يفيد أنّ هذين المنصبين ليسا منفصلين، فقد أعلنهما الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم إعلانه للدعوة والنبوة، ممّا يوَكد أنّ النبوة والاِمامة يشكّلان قاعدة واحدة، وإنّهما حلقتان متصلتان لا يفصل بينهما شيء، كما أنّ موقف الاِمام علي (عليه السلام) يكشف عن مدى شجاعته الروحية، حينما أعلن بكلّ جرأة وشجاعة، موَازرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حضور قوم ضمّ شيوخهم وسادتهم، معلِناً استعداده للتضحية في سبيل دينه، وهو غلام لم يتعد الخامسة عشرة.
2ـ الدعوة العامة
بعد تلك السنوات الثلاث، عمد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى إعلان الدعوة جهراً، حين وقف ذات يوم على صخرة عند جبل الصفا منادياً بصوت عالٍ: (أرأيتكم إن أخبرتكم إنّ العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدّقونني؟) قالوا: بلى. قال: (فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد). فرد عليه أحدهم: تبّاً لك ألهذا دعوتنا؟ فتفرّق الناس على أثر ذلك. إلاّ أنّه بعد فترة من الدعوة العامة، تشكلت جماعة قوية متعاطفة متحابّة، من السابقين واللاحقين، أو القدامى والجدد، كانت بمثابة إنذار لاَوساط الكفر والشرك والوثنية، وهم المخالفون، وقد تألّفت تلك الجماعة من قبائل مختلفة منعوا الكفّار من التعرض لهم، إذ لم يكن اتّخاذ أي قرار حاسم بحقّهم، أمراً سهلاً ومريحاً. ولذا قرر سادة قريش مواجهة قائد تلك الجماعة ومحركهم، بوسائل الترغيب والترهيب، بالاِغراء والتطميع، والاِيذاء والتهديد، واستمرت برامج قريش وموقفها من الدعوة بهذه الاَساليب طيلة عشر سنوات هي عمر الدعوة العامة في مكة، حتى اتّخذوا قرارهم النهائي بالتخلّص منه بقتله، في الوقت الذي تمكن (صلى الله عليه وآله وسلم) من إبطال موَامرتهم وإفشالها بالهجرة إلى المدينة.
وقد بدأوا التحرك في مطالبة كفيله أبي طالب بأن يبعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم قائلين له: يا أبا طالب إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفَّه أحلامنا، وضلّل آباءنا، فإمّا أن تكفّه عنّا، وإمّا أن تُخلّي بينا و بينه. إلاّ أنّ أبا طالب رَدّهم بقول ٍجميلٍ حكيمٍ. ولكن الدين الجديد انتشر بقوّة بين العرب، والقادمين إلى مكّة خلال الاَشهر الحرم، فأدرك طغاة قريش أنّ محمّداً بدأ يفتح له مكاناً في قلوب جميع القبائل، فكثّر أنصاره منها، الاَمر الذي دفعهم إلى مقابلة أبي طالب مرةً أُخرى، ليذكّروه إشارة وتصريحاً، بالاَخطار التي أحدقت بهم وبعقائدهم نتيجة نفوذ الاِسلام وقوّته: إنّا واللّه لا نصبرُ على هذا من شتم آبائنا وعَيب آلهتنا حتى تكفّه عنّا أو ننازله وإيّاك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين. فسكّن غضبهم وأطفأ نائرَتهم وهدّأ خواطرهم، ليتم معالجة هذه المشكلة بطريقةٍ أفضل.
فأتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبره بأمرهم، فردّ عليه بالجواب التاريخي الخالد، والذي يعتبر من أسطع وألمع السطور في حياة قائد الاِسلام الاَكبر محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عمّ، واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمرَ في يساري على أن أترك هذا الاَمر حتى يظهِرَه اللّه، أو أهلك فيه، ماتركته). وأثرت في عمّه تلك الكلمات العظيمة، فأظهر استعداده الكامل للوقوف إلى جانبه قائلاً: إذهب يا ابن أخي فقل ما أحببتَ، فواللّه لا أُسْلِمَكَ لشيءٍ أَبداً.
وحاولت قريشٌ مساومة أبي طالب مرةً أُخرى، للتخلّص من النبي ودعوته، إلاّ أنّه رفض أي نوع من المساومة في هذه القضية، محافظاً على محمّدودينه.
فسلكوا طريقاً آخر، ووسيلة أجدى لاِثناء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المضي في دعوته، وهي تطميعه بالمناصب والهدايا والاَموال والفَتَيات الجميلات: (فإن كنتَ إنّما جئتَ بهذا الحديث تطلبُ به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثر مالاً، وإن كنتَ إنّما تطلب الشرفَ فينا فنحن نسوِّدُكَ ونشرِّفك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك تابعاً من الجنّ قد غلب عليك، بذلنا أموالنا في طِبّك).
إلاّ أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعمّه: (يا عمّ أريدهم على كلمةٍ واحدة يقولُونها، تدين لهم العرب، وتوَدّي إليهم بها العجم الجزية).
قالوا: ما هي؟
قال: (لا إله إلاّ اللّه). فقاموا فزعين قائلين: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إِنْ هذا لشيء عجابٌ).
مواجهته لقريش
تحركت قريش ضد دعوة النبي وبدأت مرحلة المواجهة فكانت على أقسام:
1- مواجهته بالاستهزاء وإلصاق التهم به حيث قالوا عن النبي بأنه ساحر، وكان الوليد بن المغيرة هو الذي أشار على قريش بهذا.
2- المواجهة بالإغراء، إذ لما فشلوا في إقناع الناس أن محمدا ساحر حاولوا أن يستعملوا سلاحا آخر وهو المساومات والاغراءات، فبعثوا أبا الوليد ليفاوض النبي، فطرح عليه الدنيا (من أموال وملك) فامتنع النبي وأجابهم بأن قرأ على أبي الوليد سورة فصلت.
وعندما سمعها رجع إلى قريش وقال لهم: والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي وخلوا بين الرجل وما هو فيه.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.
3- المواجهة بالتهديد، إذ بعد أن سقطت عروضهم أمام أقدام النبي ذهبوا إلى عمه أبي طالب وقالوا: (لا نصبر على شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين).
فأخبر أبو طالب رسالة قريش للنبي فأطرق رسول الله قليلا وقال: (ياعم: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر حتى أنفذه أو أقتل دونه)، فأعلن صموده الرائع وموقفه المبدئي.
عندها قال أبو طالب:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم*** حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة*** وابشر بذاك وقر منك عيونا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي*** ولقد دعوت وكنت ثم أمينا
ولقد علمت بأن دين محمد*** من خير أديان البرية دينا
وبذلك بدأت قريش في محاربة النبي، فقد رجموه بالحجارة ووضعت أم جميل الشوك في طريقه، وألقوا التراب على رأسه..
فكان يتلقى ذلك بالصبر والتحمل ويواصل كل يوم دعوته، حتى قال: (ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت).
وصبت قريش عذابها على من أسلم، فعذبوا بلالاً وياسراً وابنه عماراً وأمه سمية، وغيرهم، ولكن استمر الصمود والمواصلة وفي كل يوم يزداد عدد المسلمين.
وأكد بذلك النبي (صلى الله عليه وآله) معيار الاَهلية والجدارة والكفاءة في حيازة المناصب الاجتماعية والاَُمور الاجتماعية الاَُخرى.
فتح مكة
أخلّت قريش باتفاقية الحديبية ونقضتها، حينما زودت قبيلة بني بكر بالاَسلحة، وهي من كنانة المتحالفة معها، وحرضتهم على أن يبيتوا لخزاعة المتحالفين مع المسلمين فيغيروا عليهم ليلاً، يقتلون فريقاً ويأسرون آخرين.
و أُبلغ النبيبما حدث لخزاعة على أيدي بني بكر، فوعدهم النصرة. ولكن قريشاً ندمت على فعلتها من تأليب بني بكر على خزاعة، واشتراكهم معها في العدوان، فأرسلوا زعيمهم أبا سفيان إلى المدينة لتطييب خاطر النبي (صلى الله عليه وآله) وتسكين غضبه وتأكيد احترام قريش لمعاهدة الصلح، إلاّ أنّه عندما وصل إلى بيت ابنته أُمّ حبيبة زوجة الرسول (صلى الله عليه وآله)، لم يجد التقدير والاحترام المطلوب لديها على أساس أنّه مشرك نجس، فتوجه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وكلّمه حول إمكانية تجديد العهد، فلم يرد عليه وهو ما يعني عدم اعتنائه به، فسار إلى بعض أصحابه يطلب منهم أن يشفعوا له عند الرسول (صلى الله عليه وآله) وإقناعه بتجديد ميثاق الصلح، ولكن دون جدوى فذهب إلى منزل الاِمام علي (عليه السلام) والسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فرد عليه الاِمام (عليه السلام): (واللّه لقد عزم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) على أمر ما نستطيع أن نكلّمه).
فالتفت إلى السيدة الزهراء (عليها السلام) وهو يطلب شفاعتها أو شفاعة الحسنين لدى النبي (صلى الله عليه وآله): يا ابنة محمد، هل لك أن تأمري و بُنَيّك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ فقالت (عليها السلام) وهي تعلم بنواياه الشريرة: (ذلك إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وإنّهما صبيان وليس مثلهما يجير).
فطلب النصيحة من الإمام (عليه السلام) فقال له: (ما أجد لك شيئاً أمثل من أن تقوم فتجير بين الناس ـ أي تعطي الاَمان للمسلمين ـ ثمّ إلحق بأرضك). فأدّى ما طلبه منه، ورجع إلى مكّة وأخبر سادة قريش بما صنع، فاجتمعوا للتشاور فيما يطفىَ غضب المسلمين ويثني الرسول (صلى الله عليه وآله) عن عزمه.
أمّا النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) فقد أعلن التعبئة العامة بهدف فتح مكة، وتحطيم أقوى قلعة من قلاع الوثنية، وإزالة حكومة قريش الظالمة، التي كانت أقوى الموانع والعقبات في طريق تقدم الدعوة الاِسلامية وانتشار الاِسلام،طلب من اللّه سبحانه و تعالى في دعائه أن يعمي عيون قريش وجواسيسهم كيلا يعلموا بحركة المسلمين وهدفهم: (اللّهم خُذ على قريش أبصارهم فلا يروني إلاّبغتةً ولا يسمعون بي إلاّ فجأة).
(3) واجتمع في مطلع شهر رمضان الكثيرون، فقد شاركت قبائل وطوائف مختلفة في هذا الفتح العظيم، اشتهر منهم:
المهاجرون: 700+3 ألوية إضافة إلى300 من الخيل.
ـ الاَنصار: 4000+ألوية كثيرة إضافة إلى700 من الخيل.
ـ قبيلة مزينة: ألف مع مائة فرس، ولواءان.
قبيلة جهينة: 800 مع خمسين فرساً و4 ألوية.
ـ قبيلة بني كعب: 500 مع ثلاثة ألوية.
هذا بالاِضافة إلى اشتراك عدد آخر من قبائل غفار وأشجع وبني سليم.
ويذكر ابن هشام، أنّ جميع من شهد فتح مكّة من المسلمين بلغوا عشرة آلاف، من بني سليم700، ويقول بعضهم ألف، ومن بني غفار400، ومن أسلم400، ومن مزينة ألف و300 نفر، وسائرهم من قريش والاَنصار وحلفائهم وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد.إلاّ أنّ أخبار هذه الحملة الكبيرة وصلت إلى قريش، فقد أخبر جبرائيل (عليه السلام) النبي (صلى الله عليه وآله) أنّ أحد المسلمين أرسل كتاباً إلى قريش يخبرهم فيه بتوجههم إلى مكة، وأنّ امرأة تدعى (سارة) وهي مغنية، تريد توصيل الكتاب لهم لقاء حصولها على مال.
وقد ساعد النبي (صلى الله عليه وآله) و المسلمون هذه المغنية من قبل، عندما تركت عملها في مكة واتجهت إلى المدينة، ورغم ذلك فإنّها خانتهم بعملها جاسوسة تعمل لصالح قريش. ممّا جعل النبي (صلى الله عليه وآله) يطلب من الاِمام علي (عليه السلام) والمقداد و الزبير أن يلحقوا بها ويدركوها ويصادروا منها الكتاب. وتمكّنوا من اللحاق بها عند روضة الخاخ ـ الخليقة ـ إلاّ أنّها أنكرت وجود كتاب لديها في رحلها، فهددها الاِمام (عليه السلام): لتخرجنّ لنا هذا الكتاب أو لنكشفنّك. فاستخرجت الكتاب.
وهكذا أعد النبي (صلى الله عليه وآله) للحركة الكبرى، دون أن يعلم أحد وجهته على وجه التحديد، وكان ذلك في يوم10 رمضان. وفي الطريق أفطر على الماء وأمر جنده بالاقتداء به: (إنّكم مصبحوا عدوكم،والفطر أقوى لكم).
إلاّ أنّ البعض منهم أمسك عن الاِفطار ظناً منهم أنّ الجهاد أفضل في حالة الصوم، فغضب النبي (صلى الله عليه وآله) لذلك و قال عنهم: (أُولئك العصاة). وفي هذا الوقت، خرج العباس بن عبد المطلب من مكة متوجهاً إلى المدينة ليلتحق بالرسول (صلى الله عليه وآله) خلال الطريق، فهو سيوَدي دوراً بارزاً هاماً في عملية الفتح العظيم. كما التحق به عدوّان له أحجما عن الاِيمان برسول اللّه والاستجابة لدعوته و هما: أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد اللّه بن أبي أُمية بن المغيرة، فقد كانا من أشدّ المعارضين للرسول (صلى الله عليه وآله) والموَذين له، بالرغم من أنّ أبا سفيان هذا كان ابن عمّ الرسول (صلى الله عليه وآله) وأخاه من الرضاعة، وعبد اللّه هو أخو أُمّ سلمة ابنةعاتكة عمّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وحاولا مقابلة النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ أنّه لم يأذن لهما، ولم تنفع الوسائط في ذلك، إلاّما ذكره لهما الاِمام علي (عليه السلام)، بأن يقولا للنبي (صلى الله عليه وآله): (قالُوا تاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنا وَإنْ كُنّا لخاطِئين) فسوف يعفو عنهما كما فعل يوسف (عليه السلام) مع إخوته. وقد حدث ما اقترحه الاِمام (عليه السلام) فقبل إسلامهما. وحينما وصل الجيش الاِسلامي إلى مشارف مكّة، عمد النبي (صلى الله عليه وآله) إلى إرعاب أهلها وتخويفهم بإشعال النيران فوق الجبال والتلال، وزيادة في التخويف وإظهار القوة، أمر بأن يشعل كلّفرد منهم ناراً في شريط طويل على الاَرض.
وهنا اتّجه (العباس بن عبد المطلب) ليوَدّي دوره العملي لصالح الطرفين، فيقنع قريشاً بالتسليم وعدم المقاومة، إذ أخبرهم بقوّة المسلمين وعددهم ومحاصرتهم لمكّة المكرمة، واصطحب معه أبا سفيان حتى يطلب له الاَمان و لهم كذلك من الرسول (صلى الله عليه وآله)، فأجاره عند الوصول إلى معسكر المسلمين، خاصة عندما حاول (عمر بن الخطاب) أن يقضى عليه ـ أي يقتل أبا سفيان ـ كما أنّه حاول إعادة قتله أمام النبي (صلى الله عليه وآله) على أساس أنّه عدو للّه فلابدّأن يقتل،تحدث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خيمته مع أبي سفيان قائلاً: (ألم يأن لك أن تعلم أنّه لاإله إلاّاللّه؟) فقال أبو سفيان: بأبي أنت و أُمّي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، واللّه لقد ظننت أن لو كان مع اللّه إله غيره، لقد أغنى عني شيئاً بعد.
فقال الرسول (صلى الله عليه وآله): (ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول اللّه؟) فقال: أما واللّه فإنّ في النفس منها حتى الآن شيئاً. فغضب العباس من عناده وقال: أسلم واشهد ألاّ إله إلاّاللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه قبل أن يُضرب عنقك. فشهد شهادة الحقّ وأسلم ودخل في عداد المسلمين.
فارتفع بذلك أكبر سد، وانزاح أكبر مانع من طريق الدعوة الاِسلامية. ومع ذلك فقد أمر النبي (صلى الله عليه وآله) العباس بحبسه لاَنّه لم يأمن جانبه بعد، قبل أن يتم فتح مكّة: (يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل ـ أي أنفه ـ حتى تمر به جنود اللّه فيراها). فطلب العباس من النبي (صلى الله عليه وآله): إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً. فاستجاب له النبي (صلى الله عليه وآله) وقال:
(من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن،ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن طرح السلاح فهو آمن). وذلك بالرغم من أخلاق أبي سفيان المنحدرة وأعماله السيئة تجاه النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمين، طيلة السنوات الماضية).
وكان النبي (صلى الله عليه وآله) قد عزم على أن يفتح مكة دون إراقة دماء وإزهاق أرواح وتسليم العدو دون شروط.
وقد تم ذلك نتيجة التخطيط السليم،وتحييد موقف أبي سفيان العدائي وهوقائد قريش،ولما كانت القطع العسكرية الاِسلامية تمر من أمام أبي سفيان، كان العباس يوضح له اسمها وخصوصياتها، فمرت كتيبة النبي (صلى الله عليه وآله) فقال للعباس: ما لاَحد بهوَلاء قبل ولا طاقة يا أبا الفضل، واللّه لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً. فرد عليه العباس موبخاً: ويحك يا أبا سفيان، ليس بملك، إنّها النبوة، حينئذٍ أطلق النبي (صلى الله عليه وآله) أبا سفيان ليرجع إلى مكّة فيخبرهم بما رأى من قوّة الجيش الاِسلامي، ويحذرهم من مغبة المواجهة والمقاومة، والتسليم للاَمر الواقع بإلقاء السلاح والاستسلام دون قيد أو شرط.
فصاح في أهل مكّة: يا معشر قريش، هذا محمّد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، أو قال: هذا محمّد في عشرة آلاف، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، و من ألقى السلاح فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن،ومن أغلق بابه فهو آمن،أضاف النبي (صلى الله عليه وآله) إلى ذلك: و من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن.
وهو موقع خامس عينه الرسول (صلى الله عليه وآله) للتأمين من القتل،أدّى كلّ ذلك إلى إضعاف نفوس أهل مكّة، حتى القياديين الاَعداء، ركنوا إلى المطالبة بالتسليم دون مقاومة،بالرغم من أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قد أمر جنوده بعدم بدء القتال، فلا يقاتلوا إلاّمن قاتلهم، إلاّ أنّه أمر بقتل عشرة من الاَفراد وإن وجدوا تحت أستار الكعبة وهم:
1. عكرمة بن أبي جهل
2. هبار بن الاَسود
3.عبد اللّه بن أبي السرح
4.ن حبابة الكندي
5. الحويرث بن نقيند
6. صفوان بن أمية
7. وحشي بن حرب، قاتل حمزة
8. عبد اللّه بن الزبعرى
9. حارث بن طلالة
10. عبد اللّه بن خطل
وأربعة نساء
وكان كلّواحد من هوَلاء إمّا قتل أحداً، أو ارتكب جناية أو شارك في موَامرة أوحرب ضدّ الاِسلام والمسلمين.
وفي دخول مكّة أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) الحيطة والحذر، ففرّق الجنود، على أن يدخلوها من أسفلها، وآخرون يتخذون طريقاً من أعلاها، وأعداداً أُخرى تدخل من جميع المداخل والطرق الموَدية إلى داخل مكّة، فدخلت الفرق كلّها مكّة دون قتال، إلاّ ما حدث مع جبهة خالد بن الوليد، الذي قابلته مقاومة صغيرة تمكن من السيطرة على الوضع بعد هروب المعتدين.
أمّا النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله) فقد دخل مكة من ناحية أذاخر وهي أعلى نقطة في مكّة، فضربت له قبة من أدم بالحجون ـ عند قبر عمّه العظيم أبي طالب ـ ليستريح فيها، فقد أبى أن ينزل في بيت من بيوتها. واغتسل بعد الاستراحة، فركب راحلته القصواء متوجهاً إلى المسجد الحرام لزيارة بيت اللّه المعظم والطواف به على راحلته، حيث لم يترجل، وكبّـر فكبّـر المسلمون، حتى ارتجت مكة لدويّ صوتهم، فسمعه المشركون الذين تفرّقوا في الجبال ينظرون المشهد المثير. وحينما كان يمر على أي صنم من أصنام المشركين، يقول و هو يشير بقضيب في يده: (جاءَ الحقُّ وزَهَقَ الباطِلُ إنَّ الباطِلَ كانَ زَهُوقاً) فيقع الصنم لوجهه، ثمّأمر بتحطيم أكبر الاَصنام على مرأى من المشركين.
وبعد أخذ استراحة، طلب من عثمان بن طلحة أن يأتيه بمفتاح الكعبة، فقد كان هو سادن الكعبة، حيث كانت السدانة تتوارث جيلاً بعد جيل. وفتح النبي (صلى الله عليه وآله) باب الكعبة و دخل البيت، و دخل بعده، أُسامة بن زيد، و بلال وعثمان. ثمّأمر (صلى الله عليه وآله) بإغلاق الباب، الذي قام خالد بن الوليد بحراسته ومنع الناس عنه.
ولمّا كانت جدران الكعبة من الداخل مغطاة بصور الاَنبياء والملائكة وغيرهم، فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أمر بمحوها جميعاً وغسلها بماء زمزم.
وقد اشترك الاِمام علي (عليه السلام) في كسر الاَصنام الموضوعة في الكعبة، وحاول النبي (صلى الله عليه وآله) أن يصعد على كتفيه، إلاّأنّ ضعف الاِمام (عليه السلام) لم يساعده في ذلك، فطلب منه النبي (صلى الله عليه وآله) أن يصعد ـ عليٌ ـ على كتفه قائلاً: (يا عليّ اصعد على منكبي)، فصعد على منكبه، فألقى صنم قريش الاَكبر وأصنام أُخرى محطمة إلى الاَرض. ثمّ وقف النبي (صلى الله عليه وآله) على باب الكعبة وقال: (الحمد للّه الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الاَحزاب وحده). ثمّ اتجه إلى الناس الذين يشاهدون الرسول (صلى الله عليه وآله) وهو يكسر الاَصنام ويحمد اللّه، فسألهم: (ماذا تقولون وماذا تظنون؟) فقالوا: نقول خيراً ونظن خيراً. أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف: (قالَ لا تَثْريبَ عَلَيْكُمُ اليَومَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمين).
وبهذا أعلن (صلى الله عليه وآله) العفو العام والشامل عن أهل مكة بقوله: (ألا لبئس جيران النبي كنتم،لقد كذّبتم،وطردتم وأخرجتم وآذيتم ثمّ ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني، اذهبوا فأنتم الطلقاء).
وكان الوقت ظهراً فحان وقت الصلاة، فصعد بلال سطح الكعبة ورفع نداء التوحيد و الرسالة ـ الاَذان ـ وبعدها رد ّمفتاح الكعبة على عثمان بن طلحة و قال له:
(هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم برّ ووفاء). فالنبي (صلى الله عليه وآله) هو أوّل من يلتزم بالتعليم الاِلهي في أداء الاَمانة إلى أهلها، فيعيد مثل تلك الاَمانة الكبرى إلى صاحبها. ثمّ ألغى جميع مناصب الكعبة السائدة في الجاهلية، إلاّ ما كان نافعاً للناس، كالسدانة، والحجابة ـ و هي القيام بشوَون أستار الكعبة ـ و سقاية الحجيج.
وفي حديث له (صلى الله عليه وآله) إلى أقاربه، في اجتماع ضم بني هاشم و بني عبد المطلب، أوضح لهم أنّ صلة القربى التي تربطهم به (صلى الله عليه وآله) لا تبرر لاَحد منهم أن يتجاهل قوانين الحكومة الاِسلامية، فيتخذ من انتسابه إلى زعيمها ذريعةوغطاء لارتكاب ما لا يحل للآخرين.
قبسات من أخلاقه
عدله بين الأصحاب: كان (صلى الله عليه وآله) يقسم لحظاته بين أصحابه فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية.
أدبه الرفيع مع جلسائه: ولم يبسط رسول الله (صلى الله عليه وآلهرجليه بين أصحابه قط.
أدبه في الاستقبال: وإن كان ليصافحه الرجل فما يترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) يده من يده حتى يكون هو التارك.
جوده وكرمه: وفي ذات يوم فاجأه أحد المشركين وشد عليه بالسيف ثم قال له: من ينجيك مني يا محمد؟
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (ربي وربك).
فجاء جبرئيل وطرح المشرك على الأرض وقام النبي (صلى الله عليه وآله) وأخذ السيف وجلس على صدره وقال: (من ينجيك مني؟).
فقال المشرك: جودك وكرمك فتركه وذهب.
رفقه بالحيوان: لما سار رسول الله (صلى الله عليه وآله) من المدينة إلى مكة في عام الفتح نظر في منتصف الطريق كلبة تهر على أولادها وهم حولها يرضعون منها، فأمر النبي (صلى الله عليه وآله) رجلا من أصحابه يقال له جعيل بن سراقة أن يقوم عندها حتى لا يتعرض لها ولجرائها أحد من الجيش.
إلى هذا الحد كانت رأفة ورحمة نبينا العظيم، وإلى هذا المستوى الرفيع يدعو الإسلام البشرية جمعاء نحو الرفق بالحيوان، فهذا غيظ من فيض ونزر يسير جدا من صور إنسانية شامخة جسدها رسولنا الكريم، لنا فيها أسوة ولنا فيه قدوة... فما أعظمه من بشر وما أكرمه من نبي كريم.
معركة الخندق (الأحزاب)/ سنة5 هجرية
في السنة الخامسة من الهجرة اتفقت قريش وجماعة من الأعراب واليهود على غزو المدينة، فتحالفت اليهود مع قريش في مكة على موضوع الغزو ثم عاد اليهود إلى المدينة واتجهت قريش بجيش جرار نحو المدينة يقدر بعشرة آلاف جندي.
ولكن الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله) علم مسبقا بذلك، فأشار سلمان الفارسي بحفر خندق أمام المدينة من جهة العدو، وحصنت المنازل أيضا، وخرج الرسول بثلاثة آلاف وجعل الخندق أمامه.
وعندما وصل الكفار تعجبوا من أمر الخندق وبقوا خلفه أياما وأسابيع فأصابهم البرد والجوع والتعب.
وقد استطاع بطل قريش وصنديدها عمر بن عبد ود عبور الخندق بفرسه، وطلب بكل تحد أن يبارزه أحد الرجال فبرز إليه الإمام علي (عليه السلام) وقتله وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) حينها واصفا عظمة الموقف لعلي: (أفضل أعمال أمتي إلى يوم القيامة) وهكذا رجعت قريش وخابت تحالفاتهم مع اليهود وانتصر الإسلام.