b4b3b2b1
الكاشي الكربلائي.. دلالات روحية وخصائص جمالية | صناعة الزوارق.. تولد من جديد بجنوب العراق | عشق قديم يكنه الإنسان للأحجار الكريمة | خراطة الخشب.. صنعة تتحدى الزمن بعمق التراث | سوق الصفافير من عمق التراث العراقي | السبحة.. جزء لا يتجزأ من التراث الديني | التصوير الشمسي يلتقط أنفاسه الأخيرة | شناشيل الحلة... تراث معماري أصيل وشاهد على التأريخ | الذهب حسب القول المشهور (زينة وخزينة) |

سوق الصفافير من عمق التراث العراقي

221

 

29 ذي الحجة 1428 - 09/01/2008

ثمة أشياء عدة كان لازماً على زائر العراق أن يفعلها أيام كانت البلاد مركزاً للسياحة يتهافت عليها العرب والأجانب لزيارة المتاحف والأسواق القديمة كانت في المقدمة المتحف البغدادي الذي يعرض تماثيل من الشمع، والمتحف العراقي بمحتوياته النادرة، وفي ما يخص الأسواق فإن سوق الصفافير كان المعلم السياحي الأبرز الذي يقصده الزوار لاقتناء بعض مما يباع فيه، بالإضافة الى سوقي الشورجة والكاظمية وهما من أسواق بغداد القديمة وترجع تسمية الصفافير الى مادة النحاس الصفر الذي تصنع منه الأواني المنزلية وأباريق الشاي والكاسات والملاعق وإطارات الصور والفوانيس والقدور ومقتنيات آثارية تحاكي آثار العراق، فضلاً عن مقتنيات العروس البغدادية في خمسينات القرن الماضي من صناديق خشبية مرصعة بالنحاس كان يوضع فيها جهاز العروس وحلي الطفل وحاجياته وغيرها.

ويعتبر النحاس المادة الأساسية للصناعات التي يشتهر بها السوق، ويسمى أصحاب المهنة الصفارون ويقسم عملهم بحسب مراحل الإنتاج فمنهم من يضرب على النحاس نحتاً باستخدام المطرقة والمسمار، وأكثرهم من صغار السن بينما يختص الآخرون بتصميم الزخارف التي ستُنحت على صفائح النحاس، في حين يعكف غيرهم على صقل المنتج بعد زخرفته وتلميعه أو يلوّن بعض أجزاء الصفائح المطروقة لتضفي لمسات فنية أكثر جمالية على الأواني، وبعضهم يرصعها بالأحجار شبه الكريمة أو يطليها بالمينا.

وعلى نقيض محلات البيع، فإن ورش الصناعة غير مرتبة وتختلط فيها الاشياء بشكل عشوائي غير أن إتقان أصحابها المهنة منذ زمن جعلهم يعرفون الأماكن التي يضعون أغراضهم فيها تلقائياً الجلبة التي كانت تحدثها مناقشات السياح وهم يتحاورون مع أصحاب المحلات على السعر النهائي باتت مفقودة اليوم، باستثناء أصوات قليلة ناجمة عن مطارق الحدادين الذين أصبحوا نادرين الآن يقول الحاج خالد الأيوبي الذي أمضى ثلاثين عاماً في هذه الحرفة إن التكلم بصوت عال كان سمة السوق لأن كثرة الزبائن وأصوات الطرق على النحاس كانت تمنعك من السماع، مشيراً الى ان السوق تفتقد هذا الأمر الآن وكأنها أصيبت بـالخرس بعد أن هجرها السياح الذين ترتبط عودتهم إلى العراق، وبالتالي الى السوق، بتحسن الوضع الأمني.

ويؤكد زميله الحاج أبو فاطمة أنه بعد أن كانت السوق معلماً تراثياً وسياحياً باتت اليوم وكأنها مصابة بالشلل، إذ هجرها شيوخ المهنة وخبراؤها وتحول معظم المحلات الى ورش لتصليح الأواني والمقتنيات النحاسية، كما انخفض الإنتاج لقلة الطلب عليه، واجتاحت السوق المقتنيات المستوردة الأجمل شكلاً والأرخص سعراً.

ويعتبر سوق الصفافير معلماً سياحياً لقدمه ومكانته في تاريخ بغداد وفي الوقت الذي تخلى العراقيون عن اقتناء الأواني النحاسية وتوجهوا لشراء الزجاجيات، فان الصفارين لم يتخلوا عن مهنتهم في وقت أصبح امتلاك النحاسيات ضرباً من اقتناء التراثيات والتحف التي تمثل جانباً من المصنوعات الشعبية العراقية.

ويتفاخر الصفارون بسوقهم الذي يرونه أهم أسواق بغداد ولا مثيل له في مختلف أنحاء العالم ويؤكد عدد منهم أن المهنة لم تسلم من الغش، فغياب الرقابة في هذه الظروف أدى الى تراجع جودة النحاس المستعمل، وكذلك يُسجل عدم إتقان العمل من قبل بعض الحرفيين بعدما كان عملهم مشهوراً بالفن والذوق الرفيع.

وسوق الصفافير هو عبارة عن مجموعة من الأزقة الضيقة الواقعة في منطقة الميدان، وهذه المنطقة بحد ذاتها منطقة تراثية، ولقد وضعت دائرة التراث العراقية يدها على كل منشآتها البنائية تنفيذًا لقانون وضعته الحكومة يقضي باعتبار أي بناء مضى عليه أكثر من مائة عام أثرًا تراثيًّا لا يجوز التصرف به، ويجب المحافظة على نكهته القديمة، ولهذا فقد وضعت دائرة التراث يدها على مناطق مهمة في بغداد، في مقدمتها منطقة الميدان التي تقع فيها سوق الصفافير وسوق الورَّاقين التي تسمى بشارع المتنبي.

وإذا كانت الأسواق الأخرى تشهد في كل فترة ظهور باعة جدد لا تحتاج منهم إلى كثير من الدقة والصبر والذوق، فإن من مميزات سوق الصفافير وجود الحرفيين الذين ورثوا المهنة أبًا عن جد، وتوارثوا أيضًا البراعة في الطرق على النحاس والقدرة على الخيال والابتكار، فهاتان يدان ترتجفان وهما تطرقان على النحاس تجدان متعة كبيرة في هذه العملية التي قد تبدو شاقة للآخرين، لكن هذا الشيخ الطاعن في السن لن يتخلى عنها، لأنها تأخذه من متاعب الحياة إلى متعة العمل والإبداع، فقد أبدعت يدا هذا الرجل الآلاف من الأعمال النحاسية التي انتشرت في أغلب البيوت البغدادية وحملها السواح إلى بلدانهم كأثمن شيء يحصلون عليه من زيارتهم لبغداد، لايمتلك هذا المكان سجلاً للزيارات والاحداث التي تحفظ له تاريخه من النسيان، ولكنه يمتلك ذاكرة قوية تؤهله لسرد الوقائع بالدقة والتفصيل، كما لو أنها مدونة في كتاب مفتوح.