29 ذي الحجة 1428 - 09/01/2008
امتازت كربلاء المقدسة منذ القدم بتراثيتها الفريدة وارتباطها الحيوي بمعالم النهضة الحسينية المباركة، فاصطبغت أجواء هذه المدينة بالصبغة الشعائرية التي ألقت بظلالها الوارفة على وجوه النشاط البشري بأنواعه، ولم يبق ثمة شيء لم تسطع عليه أنوار تلك النهضة الخالدة.. حتى الحرف الشعبية والصناعات اليدوية ومجمل الحركة اليومية للأهالي. والخراطة أو الجراخة ـ حسب اللهجة الدارجة ـ واحدة من تلك الصناعات الشعبية الشائعة في البيئة الكربلائية، وقد برع الكربلائيون في هذه الصنعة وامتازوا على غيرهم بما أبدعه الصناع المهرة من فن شعبي ظل يحاكي في جماليته أرقى نماذج الفن الإسلامي في البلدان الأخرى.
الحاج مهدي المياحي أحد أمهر اثنين بهذه الصنعة ليس في كربلاء حسب، وإنما في العراق كله، يقول: تعلمت الچراخة منذ سنة 1946 من صديق لوالدي، كان معروفا بدقة عمله ومهارته الفائقة. ويصف تعلقه وشغفه بصنعته فيقول: إنها تسري في عروقي سريان الدم، واليوم الذي لا أعمل فيه لسبب أو آخر لا أعده من عمري، وربما سأمرض لو تركت الجراخة
^1هل الچراخة عراقية الأصل؟^/1
لا ولكنها دخلت العراق مع بعض الوافدين من الدول الإسلامية مثل إيران وتركيا، فهؤلاء كانوا مشتهرين بهذه الصنعة منذ القديم، ولما سكنوا كربلاء إما بقصد التشرف بمجاورة الإمام الحسين (عليه السلام)، أو هربا من الأوضاع السياسية أو الظروف المعيشية الصعبة في بلدانهم، أخذوا يزاولون أعمالهم التي منها الخراطة.. وأنا شخصيا كان أستاذي إيراني الجنسية، وكان يعد في زمانه فنانا بارعا بحيث يعطي لعمله روحه وإحساسه، مثله مثل الخطاط الذي يفرغ من أحاسيسه على الحرف الذي يرسمه بيده فيحبه ويناجيه.
يذكر الحاج مهدي أنواعا كثيرة من الأخشاب التي تستخدم في الخراطة، ومنها ما ينتج محليا كخشب الرمان والتوت والمشمش والنارنج والسدر والصفصاف، وكان هناك نوع من الأشجار تسمى غرب غريب يزرع في منطقة عين التمر بكربلاء وكذلك في الموصل، حيث يتربى في البزول على المياه المعدنية، وخشبته سوداء اللون أشبه بالسيسم الهندي، لكنه فقد في الوقت الحاضر ـ كما يقول ـ بسبب ازدياد عمليات قطعه أيام الحصار، هذا بالإضافة إلى الأخشاب المستوردة من الخارج كالصاج الذي هو أفضل الأخشاب وأغلاها ثمنا وهو يأتي من مناطق جنوب شرق آسيا وأشهره جودة الصاج البورمي، وهناك أخشاب السيسم والأبنوس والزان وغيرها.. بينما الخشب المعروف بالقوغ لا يستخدم في الخراطة لأنه ـ كما يقول الحاج مهدي ـ ركيك لا يتمتع بالقوة المطلوبة.
ويتحدث عن المراحل التي يمر بها الخشب ابتداء من عملية قطعه من الغابات حتى وصوله إلى يد الزبون على شكل آثاث منزلي أو أداة صناعية أو مطبخية يستخدمها الإنسان في أعماله المختلفة أو لعبة جميلة يلهو بها الأطفال.. وهكذا بلغة الچراخين: (يشرح الخشب بواسطة الصينية أو المنشار اللولبي ثم يجرخ حسب الشكل المطلوب ومن ثم يحفر ويزبن ويقفص ويرش غالبا بالمادة الملمعة (كلير) أو أي صبغة لونية حسب الرغبة) ليصبح بعدئذ جاهزا للاستعمال.
وبالنسبة لنوع الزبائن الذين يقبلون على شراء الچراخيات، يقول الحاج مهدي: أنا مرتبط بالدرجة الأولى بأصحاب المحال ومعامل الموبيليا.. نعم هناك بعض الناس يفضلون التعامل معنا بصورة مباشرة أو أنهم يطلبون أشياء معينة غير متوفرة في معارض الموبيليا غالبا.
^1وما هي الأشياء المطلوبة اليوم؟^/1
أشياء كثيرة منها تراثية تستخدم لتزيين البيوت والجوامع والمقاهي والمحال المختلفة وهي ما يطلقون عليها اسم الكلاسيكية مثل: مقابض الخناجر والسيوف، المسابح الكبيرة التي يعلقونها على الجدار، المغزل اليدوي، الحجلة، الجاون أو المهباش، والهاون، والمرصع بأنواعه الجاعوري والوناني وابو الهلاهل.... إلخ. وهناك أشياء تراثية، لكنها لا تزال مستخدمة لحد الآن مثل: بكار النارجيلة، والطخماخ، وچرخ الطيارة، والعوچية أو عصا التوكؤ، وقوالب الكليچة والشيبك المستخدمة في المعجنات، والكاروك أو المهد، والمحجرات التي تسور بها السلالم، وشماعة الملابس، وأرجل الميز، واللباليب والعرانيص، وغير ذلك. أما الأشياء التي تستخدم في المواكب الحسينية أو التي لها علاقة بالشعائر الدينية عامة، فمنها مثلا: القباب والمنائر، مسند القرآن، أرجل المنبر، مقبض الزنجيل، كاروك عبد الله الرضيع، ونبلة حرملة، شبابيك بعض الأضرحة... إلخ.
^1كم تتوقع لهذه الصنعة أن تستمر في ظل هذا التطور التكنلوجي الهائل؟^/1
كل هذا التطور الحاصل لا يمكنه أن يلغي فنية اليد الحرفية، وتبقى الأعمال اليدوية لها قيمتها الثمينة في العالم كله، وهناك بعض الأعمال لا تتقنها الأجهزة الحديثة.. وبعض الأشياء الصناعية تحتاج إلى الچراخة اليدوية لعمل القوالب الخشبية التي تصب فيها المعادن، وهذا يخلق نوعا من المزاوجة بين التقنية الحديثة والمهارات اليدوية القديمة، فلا يستغني الجديد عن القديم، كما أن القديم أيضا يستفيد من كل جديد، وهو الحاصل في مهنة الچراخة نفسها، إذ كان الچراخ سابقا يعمل على آلة يدوية بحتة تسمى الگوز (القوس) وهي عبارة عن لوح خشبي له عارضتين من الجانبين تنتهيان بمسمارين حديديين تحصران الخشبة المراد چراختها فيما يلفها وتر القوس وهو من الليف وبتحريكه (ذهابا وإيابا) تدور الخشبة، وبواسطة شفرة يحملها الچراخ بيد بينما يحمل القوس باليد الأخرى يتم العمل، أما اليوم فنحن نستخدم المحرك الكهربائي لأداء الحركة الدورانية للخشبة.