4 جمادى الأولى 1429 - 10/05/2008
إن لبطلة كربلاء الخالدة السيدة زينب سلام الله عليها مواقف مهمة في واقعة الطف العظيمة وما بعدها حيث تبنت الجانب الإعلامي لتعريف الناس بحقيقة وأهداف خروج الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه سلام الله عليهم أجمعين الى كربلاء, ومواجهة يزيد الكفر والضلالة، فخطاباتها الرائعة والمؤثرة التي ذكرت العالم بأسره ببلاغة أبيها أمير المؤمنين علي عليه السلام.
تلك الخطابات التي عرت سلطات بني أمية قاطبة, وكشفت زيف دعواهم وتبريراتهم في قتل سبط الرسول وسبي أهل بيته.
وقد كانت خطبتها في مجلس يزيد بن معاوية لعنهم الله في الشام التي رواها جماعة من العلماء في مصنفاتهم، من ابلغ الخطب وأفصحها.
روى الصدوق من مشايخ بني هاشم وغيره: انه لما دخل علي بن الحسين (عليه السلام) وحرمه على يزيد جيء برأس الحسين (عليه السلام) ووضع بين يديه في طشت، وجعل يضرب ثناياه بمخصرة كانت في يده وهو يقول:
ليـــت أشيـــــاخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الاسل
لأهلــــوا واستهــــلوا فــرحــاً *** ثم قــــالوا يــــا يـزيد لا تشــل
قد قتــــلنا القــرم من ساداتهم *** وعــــدلناه بــــبدر فـــاعتـــدل
لعــــبت هــــاشم بالمـــلك فــلا *** خــــبر جــــاء ولا وحي نــزل
لســــت من خـندف ان لم انتقم *** من بنــــي احمد ما كان فعـل
فقامت زينب بنت علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، وأمها فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه حيث يقول: (ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوء ان كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن).
أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الارض وآفاق السماء، فاصبحنا نساق كما تساق الأسراء ان بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة، وان ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، تضرب أصدريك فرحاً، وتنفض مذوريك مرحاً، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، وفمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: (ولا تسحبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم، انما نملي لهم ليزدادوا اثماً ولهم عذاب مهين).
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:
لأهلوا واستهلوا فرحاً *** ثم قالوا يا يزيد لا تشل
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك وكيف لا تقول ذلك، وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأقة، بإراقتك دماء ذرية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشياخك زعمت انك تناديهم فلتردن وشيكاً موردهم ولتودن انك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت.
اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا.
فوالله ما فريت الا جلدك، ولا حززت الا لحمك، ولتردن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم، يأخذ بحقهم (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون).
وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد صلى الله عليه وآله خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلاً وأيكم شر مكاناً، واضعف جنداً.
ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، اني لاستصغر قدرك واستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى.
الا فالعجب كل العجب، لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفرها أمهات الفراعل ولئن اتخذتنا مغنما، لنجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد الا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد، والى الله المشتكى وعليه المعول.
فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك الا فند وايامك الا عدد، وجمعك الا بدد، يوم ينادي المنادي الا لعنة الله على الظالمين.
والحمد لله رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله ان يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة، انه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل).
ان بلاغة زينب (عليها السلام) وشجاعتها الادبية ليس من الأمور الخفية، وقد اعترف بها كل من كتب في واقعة كربلاء ونوه بجلالتها اكثر أرباب التاريخ.
ولعمري ان من كان ابوها علي بن ابي طالب (الذي ملأت خطبه العالم وتصدى لجمعها وتدوينها اكابر العلماء، ومن امها فاطمة الزهراء صاحبة خطبة فدك الكبرى، وصاحبة الخطبة الصغرى التي القتها على مسامع نساء قريش ونقلها النساء لرجالهن.
نعم ان من كانت كذلك فحرية بان تكون بهذه الفصاحة والبلاغة، وان تكون لها هذه الشجاعة الادبية والجسارة العلوية.
ويزيد الطاغية يوم ذاك هو السلطان الاعظم، والخليفة الظاهري على عامة بلاد الإسلام تؤدي له الجزية الفرق المختلفة والامم المتباينة، في مجلسه الذي اظهر فيه ابهة الملك، وملاه بهيبة السلطان، وقد جردت على رأسه السيوف، واصطفت حوله الجلاوزة وهو واتباعه على كراسي الذهب والفضة وتحت ارجلهم الفرش من الديباج والحرير.
وهي (صلوات الله عليها) في ذلة الاسر، دامية القلب باكية الطرف، حرى الفؤاد من تلك الذكريات المؤلمة والكوارث القاتلة، قد أحاط بها أعداؤها من كل جهة، ودار عليها حسادها من كل صوب.
ومع ذلك كله ترمز للحق بالحق، وللفضيلة بالفضيلة فتقول ليزيد غير مكترثة بهيبة ملك، ولا معتنية بأبهة سلطانه: أمن العدل يا بن الطلقاء، وتقول له أيضاً: ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك اني لاستصغر قدرك، واستعظم تقريعك، واستكثر وتوبيخك.
فهذا الموقف الرهيب الذي وقفت به هذه السيدة الطاهرة مثل الحق تمثيلاً، واضاء الى الحقيقة لطلابها سبيلاً، وافحمت يزيد ومن حواه مجلسه المشوم بذلك الاسلوب العالي من البلاغة وابههت العارفين منهم بما اخذت به مجامع قلوبهم من الفصاحة، فخرست الألسن، وكمت الأفواه، وصمت الأذان، وكهربت تلك النفس النورانية القاهرة منها (عليها السلام) تلك النفوس الخبيثة الرذيلة من يزيد واتباعه بكهرباء الحق والفضيلة، حتى بلغ به الحال انه صبر على تكفيره وتكفير اتباعه، ولم يتمكن من ان يقطع كلامها او يمنعها من الاستمرار في خطابتها، وهذا هو التصرف الذي يتصرف به ارباب الولاية متى شاءوا وارادوا، بمعونة الباري تعالى لهم، واعطائهم القدرة على ذلك.