b4b3b2b1
مدينة سامرّاء | مدينة الكوفة | حسينية الجامع الأعظم في زنجان | طرقبة في مشهد | مدينة كركوك بحر لاينضب من الخيرات الطبيعية | مدينة الوركاء الأثرية | كربلاء: سوق الصفارين بين ماضٍ مجيد وحاضر مرير | الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة | مقبرة نادرشاه أفشار | مزار البقيع | حصن الأخيضر | صناعة الورق بين الماضي والحاضر |

مدينة سامرّاء

3913

 

26 رجب 1433 - 17/06/2012

سامرّاء اسم آراميّ (1)، وهو في أصله مقصور كسائر الأسماء الآرامية بالعراق مثل «كربلا وعكبرا وحَرَوْرا وباعقوبا وبَتمَّار وتامَرّا» وقد مَدَّ العرب كثيراً من هذه الأسماء الآرامية المقصورة في استعمالهم إيّاها، وخصوصاً ذكرها في الشعر إلحاقاً لها بالأسماء العربيّة أو توهماً منهم أنّها عربيّة تجمع بين المدّ والقصر، مثل كثير من الأسماء التي انضمت عليها اللغة العربيّة ذات الأصول العربية.

رأيت « سامرّا » مكتوبة في نسخة تاريخ الطبري المطبوعة بمصر، أعني بالألف المقصورة وسيأتي النصّ وهكذا.

ولم يذكر لسترنج المستشرق المشهور العالم المحقق معنى « سامرّا » الآرامية، ولا مُترجماً كتابه إلى العربية (2) في الترجمة، وإذ كانت الآرامية فرعاً من فروع اللغة السامية الأمّ، وكان الغالب على « سينها » أن تبدل « شيناً » في العربية جاز أن يكون بين مادة « شمر » العربيّة و « سامرا » الآرامية صلة لفظية وصلة معنوية.

قال الأصمعي: «التشمير: الإرسال من قولهم: شمّرتُ السفينة: أرسلتها، وشمّرت السهم: أرسلته».

وقال ابن سيدة: « شمّر الشيء: أرسله، وخصّ ابن الأعرابي به السفينة والسهم ». وقال أبو عبيدة في التسمير ( بالسين ) الوارد في الحديث: « وسمعت الأصمعي يقول: أعرفه بالشين وهو الارسال، قال: وأراه من قول الناس: شمّرت السفينة: أرسلتها، فحُوّلت الشين إلى السين » (3).

فغير بعيد إن كانت « سامرا » عند الآراميين فرصة كبيرة لإرسال السفن في دجلة أو دار صناعة لها، ولدجلة عندها خليج لا يزال على حاله القديمة يتبطّح فيه الماء عند الزيادة. مع هذا فتفسيري هذا لا يخرج عن عداد الحُسبان؛ وذلك لعُسر تفسير الأسماء الواغلة في قديم الزمان.

وقال الأب أنستاس ماري الكرملّي: « لا جَرَم أن الذي أسس سامرّا وبناها هو الخليفة العباسي المعتصم بالله.. أما اسم المدينة فليس من وضع المعتصم نفسه بل هو قديم في التاريخ، فقد ذكره المؤرخ الروماني أميانس مرقلينس الشهير الذي ولد سنة (320) وتوفي سنة (390) بصورة (سومرا) Sumera. ونوّه به زوسيمس المؤرخ اليوناني من أبناء المائة الخامسة للمسيح صاحب التاريخ الروماني بصورة (سوما) Souma ويظن أهل النقد من أبناء هذا العصر أنّه سقط من آخر الاسم حرفان والأصل (سومرا: Soumara) وورد في مصنفات السريان (شومرا) بالشين المنقوطة، وعرّفها ابن العبري باسم السامرة (كذا) وهذه عبارته (4):

« فلما جدّوا (أي الناس) في زمن بناء برج بابل في ذلك بأرض شنعار وهي السامرة... ». راجع كتابه؛ مختصر الدول ص 19 من طبعة اليسوعيّين في بيروت.

والغلط ظاهر إذ ليست السامرة في بلادنا بل في فلسطين، لكنّ مجانسة اللفظ الواحد للآخر خدعته فقال ما قال... أما الكلمة فليست بعربية صرفة وإن ذهب إلى هذا الرأي كثيرون من المؤرخين والكتبة واللغويين، وذلك لعتقها كما أوضحناه وهي عندنا من أصل سامي قديم ويختلف معناها باختلاف تقدير اللفظة المصحفة عنه، فإذا قلنا: إن أصلها (شامريا ) فمعناها الله يحرس المدينة أو بعبارة أخرى ( المحروسة )، وإن قدّرنا أصلها ( شامورا ) بإمالة الألف الأخيرة فمعناها الحرس أي منزل الحرس أو مواطن الحفظة بتقدير حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه، وهو كثير الورود في جميع اللغات السامية. وعليه نعتبر قولهم إن ( سامرا ) تخفيف (سُرَّ من رأى) أو (ساء من رأى) من قبيل الوضع، ولهذا لم يقبل أحد من المستشرقين هذا الرأي وعدّوه في منتهى السخف.

وزعم الأستاذ هرزفيلد أن اسم هذه البلدة قد جاء في الكتابات الآشورية بصورة (سرمارتا Su - Mar - Ta) وأنها كان لها في أيّام الفرس شأن كبير في محارباتهم الرومان.

أما مدّ « سامرا » وجعلها سامراء فهو محدث أحدثه العرب إجراءاً منهم لهذا الاسم مجرى الأسماء العربية كما ذُكر انفاً، وكانوا يفعلونه حتّى مع اعترافهم بأن الاسم غير عربيّ.

قال ياقوت الحموي: عُكبرا بضمّ أوله وسكون ثانيه وفتح الباء الموحدة، وقد يمدّ ويقصر، والظاهر أنّه ليس بعربيّ...

وقال حمزة الأصبهاني: بزرج سابور معرب وزرك شافور وهي المسماة بالسريانية عكبرا (5).

وللأستاذ كاظم الدجيلي مقالة جيّدة بعنوان: « أثار سامراء الخالية وسامراء الحالية » قال فيها: أما اسمها فقد اختلفت الروايات فيه وفي معانيها ( كذا ) وكلها لا نصيب لها من الحقيقة، وأصدق لغة رويت في اسمها هو ( كذا ) سامراء بفتح السين بعدها ألف يليها ميم مفتوحة وبجانبها راء مثقلة مفتوحة ثمّ ألف ممدودة وفي الآخر همزة. وأما قولهم: إن الرواية الصحيحة هي ( سُرَّ مَن رأى ) أو ( سام راه ) فهذه وغيرها من مخترعات المخيلة، ومن التآويل التي أنتجتها قرائح بعضهم إجابة للعقل الذي يحب الوقوف على أسرار الكون والاكتفاء بما يرضيه. ولو فكروا قليلاً لأقرّوا أن تأويلهم بعيد لقدم ورود الاسم، ولعله من وضع البابليين أو الآشوريين أو الكلدانيين أو غيرهم من الأمم الخالية، فكيف يُطلَب لها معنى في اللغة العربية ؟!.

قلت: قد ذُكر رُجحان المقصور « سامرا » على الممدود « سامراء » في كلام سابق لهذا، واستبانت أسباب الرجحان، ويضاف هنا أن مدّ الأسماء الأعلام غير مألوف في غير اللغة العربية من اللغات السامية، والغالب عليها فيها القصر، وإذ كانت اللغة البابليّة واللغة الآشورية واللغة الكلدانيّة مع تشابههنَّ من اللغات السامية كاللغة العبريّة فلا بأس في البحث عن معنى « سامرا » في اللغة العربيّة مع مُراعاة أطوار الأبدال والأوزان في اللغات المذكورة وهي في الصعوبة بمكان، بحيث لا يعلمها إلاّ متقن تلك اللغات ودارس علم الموازنة بينها. ومع ذلك فلا حرج في إقامة باعث على التفكير في معنى الاسم، أو إحداث فكرة تدور حولها، والبحث عن معاني الأعلام المدنية هو مما اعتاده المؤرخون المحدثون والآثاريون العصريون، لأنّه ذو فائدة لعلم التاريخ والحضارة البشرية وعلم اللغات، اعتاده أيضاً البلدانيون القُدامى كما ترى في معجم البلدان لياقوت الحموي، وإنّما الذي يؤخذ عليهم أنّهم كانوا يحاولون رجع معظم الأسماء الأعلام وعامّتها إلى اللغة العربيّة وهو الذي أنكره محقاً الكاتب الفاضل، مع أن البلاد التي أنشئت فيها تلك المدن والبلدان والقرى والنواحي المعمورة لم تكن قديماً من البلاد العربيّة، أما مواضع جزيرة العرب فكان لهم كلّ الحقّ في البحث عن معاني أسمائها لأن واضعيها كانوا عرباً.

وكان من الغلط المبين قول أبي محمد الحريري: ويقولون: للبلدة التي استحدثها المعتصم بالله ( سامرا ) فيوهَمُون فيه كما وَهِم البحتري فيها إذ قال في صَلب بابَك:

أخليتَ منه البذّ وهو قرارُه ونصبتَهُ علَماً بـسامـرّاءِ

والصواب أن يقال فيها ( سُرِّ من رأى ) على ما نُطق بها في الأصل؛ لأن المسمّى بالجملة يُحكى على صيغته الأصليّة كما يقال: جاءَ تأبّط شراً.. وحكاية المسمّى بالجملة من مقاييس أصولهم وأوضاعهم، فلهذا وجب أن يُنطق باسم البلدة المشار عليها على صيغتها الأصلية من غير تحريف فيها ولا تغيير لها، وذاك أن المعتصم بالله حين شرع في إنشائها ثقُل ذلك على عسكره فلما انتقل بهم إليها سُرَّ كل منهم برؤيتها فقيل فيها سُرَّ من رأى، ولزمها هذا الاسم وعليه قول دِعبِل في ذمّها:

بـغداد دار الملوك كـانت حتّى دهاها الذي دهـاهـا

ما سُرَّ من را بسُرَّ من را بل هي بُؤسى لمن رآهـا

وعليه أيضاً قول عبيدالله بن عبدالله بن طاهر في صفة الشعري:

أقـول لـمـا هـاج قلبي ذكرى واعتَرَضَت وسطَ السماء الشِّعرى

كـأنّـها يـاقـوتـةٌ في مِـدرى مـا أطـولَ الليـل بسُرَّ مَن را!

فنطق الشاعران باسمها على وضعه وسابق صيغته وإن كان قد حذفا همزة « رأى » لإقامة الوزن وتصحيح النظم.

وليس ما قاله الحريري بالمروي الصحيح وإنّما الصحيح أنّ المعتصم بالله سأل عن ذلك الموضع فقيل له: اسمه سامرّا، فأراد التفاؤل على عادة العرب، فقال: نسمّيها سُرَّ من رأى.

قال أبو الثناء محمود الآلوسي معقّباً: وما أنكر الحريري غير منكر، قال ابن برّي عن ثعلب وابن الأعرابي: وأهل الأثر يقولون، كما قال أيضاً: اسمها القديم ساميرا، سُمّيت بساميرا ابن نوح عليه السّلام لأنّه أقطعه إياها، فكره المعتصم ذلك فغيّرها، والأقرب أن يكون التغيير إلى سامرا. وحكى بعض أهل اللغة أنّها سميت (ساء من رأى) فحذفت همزة ساء وهمزة رأى لطول الكلمة. وقيل سامرا حكى بعضٌ فيها ست لغات: سُر من رأى، ببناء الفعل للمفعول، و(سرَّ من رأى) ببنائه للفاعل أو (ساء من رأى) و(سامرا) بالقصر و(سامراء) بالمدّ، و(ساميرا). وفي القاموس (سر من رأى) بضم السين والراء وبفتحهما وبفتح الأول وضم الثاني وسامراء، ومدّه البحتري بالشعر وكلاهما لحن، وساء من رأى، وسُرّاء ممدودة مشدودة مضمومة، والنسبة سُرَّمري وسامرّي وسرّي.

ونقل بعد ذلك من معجم البلدان لياقوت الحموي.

وأنا لم أنقل التعقيب على الحريري على أنّه خبر تاريخي صحيح بكماله، بل نقلته لإثبات أن من القدماء من قال بقدم الاسم « سامرا »، وإن كان في رأيهم أنّه «ساميرا» ففي اللغة يُبدل أحياناً أحد الضعفين ياءاً كما قالُوا « إيبالة » في الإبّالة وهي الحزمة من الحطب والحشيش، وقالوا أصل الدينار « دنّار » بدلالة جمعه على دنانير، وقالُوا باطراد في مصدر « فَعَّل يفعَّلُ » تفعيلاً، وكان القياس يوجب أن يقولُوا « تفعِعْلا » لأن في الفعل عيناً مضعفة، ينبغي ظهورها في المصدر كما تظهر في «تفعَّل تفعُّلا».

ويُعلم مما قدمتُ أنَّ جميع لغات « سامرا » التي نقلناها، تلك التي يقول فيها ياقوت «سُرَّ من رأى وسُرَّ من رَى وسُرَّ من راء وساءَ من رأى وسام راه الفارسيّ وسُرور مَن رأى وسُرَّاء» صح ما هي إلا تلعبات باللفظ وتخريجات منه للتفاؤل تارة وللتشاؤم مرة أخرى، إلا أنَّ تسمية المدينة بُسرَّ من رأى غلبت على جميع التسميات لأن المعتصم شاء ذلك، ثم ضعفت بمرور الزمان، فكان من الناس من يسميها « سامرّا » وكان منهم من يسمّيها « سُرّ مَن رأى » على اعتبار أنّه الاسم الصحيح وليس بذاك، كما بيناه هناك.

وسامرّا كثرت فيها الأساطير ككل مدينة عريقة في القدم، فقال حمزة الأصفهاني: كانت سامراء مدينة عتيقة من مدن الفرس تُحمَل إليها الأتاوة التي كانت موظفة لملك الفرس على ملك الروم، ودليل ذلك قائم في اسم المدينة لأن (سا) اسم الأتاوة، و(مرّة) اسم العدد، والمعنى أنّه مكان قبض عدد جزية الرؤوس.

فحمزة استنتج تاريخها من تحليل اسمها على الطريقة الفارسية؛ لأن اللغة الفارسية آرية أي تركيبية لا اشتقاقية كاللغات الساميّة، وهذا التحليل واهٍ، فإنّه يقال: ما الباعث على حمل الأتاوة إلى أهل هذه المدينة ولم تكن من مُدن الحدود بين المملكة الفارسيّة على اختلاف أطوارها والدولة الرومية على اختلاف فتوحاتها، لأنّ الدولة الرومية كانت في غرب المملكة الفارسية، فالأَولى أن يكون مكان القبض على الفرات لا على دجلة.

قال ياقوت: وقال الشعبي: وكان سام بن نوح له جمال ورُواء ومنظر، وكان يصيف بالقرية التي ابتناها نوح عند خروجه من السفينة ببازَبْدَى (6) وسمّاها ثمانين (7)، ويشتو بأرض جُوخا، وكان ممرّه من أرض جوخا إلى بازبدا على شاطئ دجلة من الجانب الشرقيّ، ويسمّى ذلك المكان الآن ( سام راه ) يعني طريق سام.

وقال إبراهيم الجنيدي: سمعتهم يقولون إن سامراء بناها سام بن نوح عليه السّلام ودعا أن لا يصيب أهلها سُوء.

فهذه أمثلة لما ابتُدع من الأهوال في تاريخ سامرا، وقد نسب بعضها إلى رجال ثقاة رغبة في ترويجها بين الناس، وهي طريقة مبتدعي الأساطير المألوفة عندهم المعروفة عند ذوي الأفكار الناقدة.

ومن الطريف ما ذكره ابن بشارٍ المقدسي قال: سامرا كانت مصراً عظيماً ومستقر الخلفاء في القديم، اختطها المعتصم وزاد فيها بعده المتوكل وصارت مرحلة، وكانت عجيبة حسنة حتّى سُميت سرور من رأى ثمّ اختُصرت فقيل سُرْمَرى... فلما خربت وصارت إلى ما ذكرنا. سُميت ساء من رأى ثمّ اختصرت فقيل سامرا.

وقال مؤرخ آخر: حُكي في بعض الكتب أن سُرّ من رأى كانت مدينة عظيمة عامرة كثيرة الأهل فأخربها الزمان حتّى بقيت خربة وبها دير عتيق، وكان سبب خرابها فيما حكي في الكتاب المذكور أن أعراب ربيعة وغيرهم كانوا يغيرون على أهلها فرحلوا عنها.

الطَّيرهان

وكانت منطقة سامرا تعرف في أيام الساسانيين باسم « الطَّيرهان »، قال أحمد بن أبي يعقوب: كانت سُرّ مَن رأى في متقدم الأيام صحراء من أرض الطَّيرهان لا عمارة بها، وكان بها دَير للنصارى بالموضع الذي صارت فيه دار للسلطان المعروفة بدار العامة (8)، وصار الدير بيت المال.

وقال أبو الحسن المسعودي في ذكر موضع سامرا: وهو في بلاد كورة الطَّيرهان. وقال أيضاً: فانتهى المعتصم إلى موضع سامرا وكان هناك للنصارى دير عاديّ، فسأل بعض أهل الدير عن اسم الموضع، فقال: يعرف بسامرا. قال له المعتصم: وما معنى سامرا ؟ قال: نجدها في الكتب السالفة والأمم الماضية أنّها مدينة سام بن نوح. فقال له المعتصم: ومن أي البلاد هي وإلامَ تُضاف ؟ قال: من بلاد طيرهان إليها تضاف. ويستفاد من وصف ابن سراخيون للنهر الإسحاقي أن الطَّيرهان كانت تشمل الجانب الغربي من هذه البقعة، فقد ذكر أن الإسحاقي كان يمر بطيرهان حتّى يجيء إلى قصر المعتصم « ص 18 ، 19 ».

وذكرها ابن خُرداذبه قال: تكريت... والطَّيرهان والسنّ والحديثة... قال ذلك في كتَّه كور الموصل.

وقال قدامة: وإذ قد أتينا على أعمال المشرق فلنرجع إلى أعمال المغرب، فأولها حدّ الفرات تكريت والطَّيرهان والسنّ والبوازيج (9) وارتفاعها على أوسط العبَر (10) سبع مائة ألف ألف درهم. وكرّر ذلك في كتابه.

وهذه المنطقة كانت مشهورة منذ أواخر القرن الأول للهجرة على عهد الوليد بن عبدالملك، ومن بعده فقد جاء في أخبار الجاثليق النسطوري ( صليبا زخا ) أنه كان من أهل الطَّيرهان وتعلّم بالمدائن وأنه نصب فشيون الباجرمي أسقفاً على الطَّيرهان. وبقي هذا الاسم مستعملاً بعد ذلك بدلالة أن الجاثليق النسطوري سرجيس رتب قيّوماً تلميذه أسقفاً بالطَّيرهان وفي أيامه قُتل المتوكل على الله العباسي، وكان إيشوعَزْخا أسقفاً على الطَّيرهان في خلافة المعتمد على الله العباسي، وفي الربع الأول من القرن الخامس للهجرة كان إيليا الأول أسقفاً على الطَّيرهان، وفي أيام القائم بأمر الله العباسي كان مكيخا بن سليمان القنكاني أسقفاً على الطَّيرهان، وكان نرسي أسقف هذه المنطقة في بعض عهد الناصر لدين الله العباسي ( 575 ـ 622 هـ ). وقرَضَ المغولُ الدولة العباسية سنة 656هـ، وكان عمانوئيل أسقفاً على الطَّيرهان بعد هذا التاريخ. وفي بعض عهد الملك أباقاخان ابن هولاكو ( 663 ـ 680 هـ ) كان بريخيشوع مطرانها.

وذكر ماري بن سليمان مؤرخ كرسي الفطاركة ما يفيد أن « الطَّيرهان » كانت معروفة بهذا الاسم قبل 393 من تاريخ اسكندر المقدوني وهي السنة التي توفي فيها مار ماري السليح. فالتسمية قديمة قد ترتقي إلى العصر الآرامي والعصر اليوناني بالعراق، واستمرت إلى أواخر القرن السابع للهجرة ولعلها بقيت إلى أكثر منه، إلاَّ أنَّ اسمها مذكور في الكتب النصرانية أكثر مما في الكتب الإسلاميّة، كما قدّمنا ونقلنا. وطيرهان في صورته اللفظية أقرب إلى اللغة الفارسية منه إلى اللغات الساميّة، بالضد من سامرا.

قِدَم السكن في سامراء

كانت مدينة « أربيل » الحالية المعروفة في التاريخ الإسلامي بإربل وفي التاريخ الآشوري بأربيلا تُعدّ أقدم بلدة مسكونة في عصرنا هذا، لاستمرار السكن فيها من العصر الآشوري إلى اليوم وبعده، ثمّ ظهر في أن سامرا هي القُدمى فقد أثبتت التنقيبات الآثرية في أطلالها أن موضعها كان آهلاً منذ أدوار ما قبل التاريخ. وقد كشف الأستاذ الآثاري الألماني هرزفيلد فيها عن مقبرة من تلك الأدوار بين السنّ الصخر وآثار العصر العباسي على نحو من ميل واحد من جنوب دار الخليفة أي دار العامة القائمة الأواوين الثلاثة، وعثر على نوع من الفخار المصبوغ أطلق عليها اسم ( فخار سامرا ) وهو يمثل دوراً من أدوار ما قبل التاريخ المشار إليه آنفاً وقد سمي (دور ثقافة سامرا) إضافة له إلى الموضع الأثري الذي كشف فيه عن هذا الفخار أول مرة، ثمّ عثرت مديرية الآثار العراقية على موضعين آخرين في سامراء يرتقي عصورهما إلى ذلك الزمن، أحدهما في شمالي المقبرة المقدم ذكرها والآخر في جنوبي سامرا على ضفة دجلة فوق صدر القائم ويسمّى تل صوان، وقد جاء اسم هذا الموضع في الكتابات الآشورية بصورة (سُرمارتا Su - Ur - Mar - Ta) وكان لهذا الموضع في أيّام الفرس شأن كبير في محارباتهم الرومان خاصّة ولقربهِ من النهر المعروف بالقاطول الكسروي أي القناة الكسروية.

أسماء سامراء في الشعر العربي

لسامراء عند الشعراء العرب أسماء عديدة منها: سامراء، قال البحتري:

وأرى المطايا لا قصورَ بـهـا عـن ليـلِ سـامـراء تَذرعُهُ

وقال ابن حماد أبو الحسن علي بن عبيد الله البصري:

وأرض طوس وسامراء قد ضَمِنَت بغدادُ بدرَين حَلاّ وسـطَ قَـبـرينِ

وما ذكره السيّد صالح البغدادي في قصيدته الميمية في مدح الإمام علي الهادي عليه السّلام بقوله:

وعاش بـسامراء عشرينَ حِجةً يُجَرَّعُ مِن أعـداهُ سـمَّ الأراقمِ

سقى أرضَ سامراءَ مُنهمِرُ الحَيا وحَـيـّا مَـانيها هُبوبُ النسائمِ

وقول السيّد محسن الأمين:

يـا راكـب الشَّـدنيّة الوَجناءِ عَرِّج على قبرٍ بـسـامـراءِ

أبكي، وهل يشفي الغليلَ بكائي بَدرَينِ قد غَـرَبـا بـسامراءِ

وقول السيّد محمد القطيفي:

ثمّ عَـرِّج يا مُرشد النفس إلى أرضِ سامراءَ تَنَشقْ مِن ثَراها

وسامرا مقصوراً، ومنه قول ابن حمّاد:

وفـي غربيِّ بـغـدادٍ وطوسٍ وسامـرا نجـومٌ ظـاهـراتُ

وقول الشيخ مُفلح:

بـطوس وسامرا لهم وبطَيبةٍ وبغدادَ أيضاً والغَريِّ منازلُ

وسر من رأى ذكره الحموي في المعجم قال: ومنه قول المنتصر:

إلـى الله أشـكـو عـبـرةً تَتحدّرُ ولـو قد حدا الحـادي لَظلَّت تَحدَّرُ

فيا حسرةً إن كنتُ في سُرّ مَن رأى مـقيـماً وبـالشـامِ الخليفةُ جعفرُ

ومنه قول الشاعر:

بنفسيَ مَن نالت به سُرَّ مَن رأى فَخـاراً له تعنو النجومُ الكوانِسُ

ومنه شعر عضد الدولة البويهي:

وفـي أرض بغدادٍ قبورٌ زكيّةٌ وفي سر مَن را معدِنُ البركاتِ

وسُرّ من را غير مهموز، كما في قول الحسين بن الضحاك:

سُـرّ مـن را أسَرُّ مِن بغدادِ فالْهُ عن بعضِ ذِكرِها المعتادِ

تبدل سامراء

قال الدكتور أحمد سوسة: تقع مدينة سامراء الحالية على الضفة اليسرى من نهر دجلة على مسافة 130 كيلومتراً شمالي بغداد، وهي تبعد زهاء (175) كيلو متراً عن بغداد بطريق النهر، وقد بنيت على أطلال مدينة سر من رأى العباسية وتمتد على طول نهر دجلة إلى أبعاد شاسعة، فتمتد مسافة تسعة كيلو مترات تقريباً جنوبي المدينة الحالية وحوالي الخمسة والعشرين كيلومتراً شماليها أي أن مجموع طولها يبلغ زهاء (34) كيلومتر أما عرضها فيتراوح بين الكيلومترين والأربعة كيلومترات أي بمعدل ثلاثة كيلومترات وعلى هذا الأساس تقدير مساحة مدينة سامراء العباسية مئة وعشرة كيلومترات مربعة وإذا ما أضفنا إلى هذه المساحة حديقة حيوانات المتوكل ( حير المتوكل ) التي تقع في أقصى الحدود الجنوبية وهي نحو خمسين كيلومتراً مربعاً وكذلك مساحة منطقة القادسية الواقعة بجوار الحديقة المذكورة وهي حوالي سبعة كيلومترات مربعة بجوار الحديقة المذكورة وهي حوالي سبعة كيلومترات مربعة جازلنا أن نقدر مساحة سامراء العباسية بحوالي (167) كيلومتراً مربعاً. ولو أضفنا إلى ذلك مساحة معسكر اصطبلات والقائم على ضفة نهر دجلة اليمنى وهي حوالي (58) كيلومتراً مربعا أمكننا اعتبار مجموع مساحة سامراء العباسية (225) كيلومتراً مربعاً. هذا عدا مشتملات المدينة من بساتين وحدائق وقصور على الجانب الأيمن من نهر دجلة وهي المشتملات التي تقع بين نهر دجلة ونهر الإسحاقي والتي تمتد على طول ضفة دجلة الغربية مقابل سر من رأى. ولا شك أن هذه المساحة الهائلة تجعل مدينة ( سر من رأى ) في عداد أكبر مدن العالمين القديم والحديث ـ إلى أن قال ـ: غير أن هذا الازدهار العجيب لم يستمر مدّة طويلة لأنّ المدينة تفقد صفة العاصمة التي كانت علّة وجودها وعامل كيانها قبل أن يمضي نصف قرن على نشأتها فأخذت في الإقفرار والإندراس بسرعة هائلة لا تضاهيها سرعة. وبعد أن كان الناس يسمّونها باسم سر من رأى أضحوا يسمونها ساء من رأى. وبعد أن كان الشعراء يتسابقون في مدح قصورها أخذوا يسترسلون في رثاء أطلالها. وفي الواقع ماتت سامراء ميتة فجائية بعد عمر قصير لم يبلغ نصف القرن وأمست رسوماً وأطلالاً.

سامراء الجديدة وهيئتها الحاضرة

تبعد سامراء عن بغداد نحو مائة وعشرين كيلومتر يستطيع المسافر أن يقطعها بالقطار في مدّة أربع ساعات أو بالسيارة في نحو ساعتين ونصف أو ثلاث ساعات. وتقع محطّة قطار سامراء في الجهة الغربية من نهر دجلة على بعد أربعة كيلومترات من ضفتها ومع هذا هناك خط فرعي يوصل القطار إلى الشاطئ فلم يترك على المسافر إلاّ العبور إلى الضفة الشرقية بالزورق. أما طريق السيارات فيمرّ من مخافر ومحطّات التاجي والمشاهدة والناذريات وسميكة وبلد والاصطبلات إلى أن يصل الجسر الذي يربط ضفتي النهر فيدخل المدينة الحالية. وتقع مدينة سامراء الحالية في الجهة الشرقية من نهر دجلة على بعد نصف كيلومتر من ضفتها. والمدينة الحالية مسوّرة بسور مضلع على شكل يميل إلى الاستدارة يبلغ طول محيط السور المذكور كيلومترين ولا يتجاوز قطره الأعظم ستمائة وثمانين متراً والمساكن والحوانيت متكاثفة داخل السور في دروب ضيقة مجتمعة حول الجامع الذي يحتوي على ضريح الإمامين علي الهادي والحسن العسكري عليهما السّلام. ولسور المدينة أربعة أبواب: باب القاطول في الغرب، وباب النصارية في الشمال، وباب بغداد في الشرق، وباب الملطوش في الجنوب. ولقد هدم باب القاطول قبل بضع سنوات وبنيت دائرة الحكومة والمدرسة الابتدائية ودائرة البلدية، والمستشفى، خارج السور على طرفي الطريق الممتد من باب القاطول إلى الشريعة والمعبر والجسر كما بنيت على ضفتي النهر بناية تحتوي على مضخات الماء ومكائن الكهرباء وأسست خلف ذلك حديقة للبلدية، وقد أخذ الناس يبنون بعض الدور في العرصات الواقعة بين السور وبين شاطئ النهر. وكذلك هدم باب الملطوش وبني خارجه مسلخ ومذبحة، وأما باب بغداد فقد حول إلى متحف محلي تعرض فيه نماذج من الآثار المستخرجة من الحفريات التي تقوم بها مديرية الآثار القديمة في أطلال سامراء.

إنّ مدينة سامراء الحالية مبنية على أطلال المدينة القديمة ومحاطة بها من كل الجهات وتمتدّ أطلال المدينة القديمة على طول نهر دجلة إلى أبعاد شاسعة وتصل من جهة الجنوب إلى محل قريب من فهم نهر « القائم » ومن جهة الشمال إلى صدر نهر «الرصاص»، ولذلك يبلغ طول الأطلال نحو أربعة وثلاثين كيلومتراً، تقع ثمانية منها جنوب المدينة الحالية والبقية في شمالها.

كلام الحَمَوي في انحلال سامراء

قال في معجم البلدان عند ذكره سر من رأى: ولم تزل كل يوم سر من رأى في صلاح وزيادة منذ أيّام المعتصم والواثق والمتوكل إلى آخر أيّام المنتصر بن المتوكل. فلّما ولي المستعين وقويت شوكة الأتراك واستبدوا بالملك والعزل وانفسدت دولة بني العباس لم تزل سر من رأى في تناقص للاختلال الواقع في الدولة بسبب العصبية التي كانت بين أمراء الأتراك إلى أن كان آخر من انتقل إلى بغداد من الخلفاء وأقام بها وترك سر من رأى بالكلية المعتضد بالله فخربت حتّى لم يبق منها إلا موضع المشهد. ومحلة أخرى بعيدة منها يقال لها كرخ سامراء، وسائر ذلك خراب يستوحش الناظر إليها بعد أن لم يكن في الأرض كلّها أحسن منها ولا أجمل ولا أعظم ولا آنس ولا أوسع ملكاً منها. فسبحان من لا يزول ولا يحول.

قال: وذكر الحسن بن أحمد المهلبي في كتابه المسمّى بالعزيزي قال: وأنا اجتزت بسر من رأى منذ صلاة الصبح في شارع واحد عليه من جانبيه دور كأن اليد رفعت عنها للوقت لم تعدم إلاّ الأبواب والسقوف، فأمّا حيطانها فكالجدد، فما زلنا نسير إلى بعد الظهر حتّى انتهينا إلى العمارة منها وهي مقدار قرية يسيرة في وسطها. ثمّ سرنا من الغد على مثل تلك الحال فما خرجنا من آثار البناء إلاّ نحو الظهر، ولا شك أنّ طول البناء كان أكثر من ثمانية فراسخ.

كلام ابن المعتز في انحلال سامراء

قال في المعجم عند ذكره سامراء: كتب عبدالله بن المعتز إلى بعض إخوانه يصف سر من رأى ويذكر خرابها:

كتبت إليك من بلدة قد أنهض الدهر سكانها، وأقعد جدرانها. فشاهد اليأس فيها ينطق، وحبل الرجاء فيها يقصر. فكان عمرانها يطوى. وكان خرابها ينشر وكلفت إلى الهجر نواحيها واستحث باقيها إلى فانيها. وقد تمزقت بأهلها الديار. فما يجب فيها حق الجوار. فالظاعن منها ممحو الأثر. والمقيم بها على طرف السفر. نهاره إرجاف وسروره أحلام ليس له زاد فيرحل. ولا مرعى فيرتع، فحالها تصف للعيون الشكوى، وتشير إلى ذم الدنيا بعدما كانت بالمرأى القريب جنة الأرض. وقرار الملك. تفيض بالجنود أقطارها. عليهم أردية السيوف وغلائل الحديد، كأن رماحهم قرون الوعول، ودروعهم زبد السيول. على خيل تأكل الأرض بحوافرها. وتمد بالنقع سائرها، قد نشرت في وجوهها غرار كأنها صحائف البرق، وأمسكها تحجيل كأسورة اللجين، ونيطت عذاراً كالشنوف في جيش يتلقف لأعدائه أوائله. ولم ينهض أواخره. وقد صب عليه وقار الصبر. وهبت له روائح النصر. يصرفه ملك يملأ العين جمالاً. والقلوب جلالاً. والناس في دهر غافل. قد اطمأنت بهم سيره. والدهر يسير بالمقيم يمزج البؤس بالنعيم، وبعد اللجاجة انتهاء والهم إلى فرج. ولكل سائلة قرار. وبالله أستعين ومحمود على كل حال.

قال: وكان ابن المعتز مجتازاً بسامرا متأسفاً عليها، وله فيها كلام منثور ومنظوم في وصفها، ولما استدبر أمرها جعلت تنتقض وتحمل أنقاضها إلى بغداد ويعمرها بها، فقال ابن المعتز:

قد أقفرت سُـرّ مَن رأى ومـا لــشـيءٍ دوامُ

فـالنـقض يـحمل منها كــأنــهــا آجـامُ

مـاتــت كما مات فيلٌ تـُسـلُّ مـنـه العظامُ

* * *

تقع سامراء شمال مدينة بغداد على بعد نحو (130) كيلومتراً على الضفة اليسرى من نهر دجلة. وهي قضاء تابع لمحافظة بغداد من الناحية الإدارية.

أُسست مدينة سامراء بعهد الحاكم العباسي المعتصم بن هارون الرشيد سنة ( 221 هـ / 836 م ) وهو ثامن خلفاء بني العباس ليجعلها عاصمة جديدة، ثمّ وسعها ابنه الواثق. وأوصلها إلى أقصى اتساعها المتوكل إلاّ أنّ المدينة تركت بعد ذلك وأعاد المعتمد مقر الخلافة إلى بغداد، ولم يكن قد مرّ عليها إلاّ أربع وخمسون سنة مَلَك خلالها ثمانية من خلفاء بني العباس وهم: المعتصم، والواثق، والمتوكّل، والمنتصر، والمستعين، والمعتزّ، والمهتدي، والمعتمد.

ولا تُعرف مدينة اتسع عمرانها في بضع سنوات كما اتسع عمران مدينة سامراء حتّى امتد إلى مسافة (35) كيلومتراً على ضفتي نهر دجلة.

ومدينة سامراء الحالية مبنيّة على أطلال مدينة سر من رأى القديمة.

والناظر إلى مدينة سامراء يرى هناك قُبتَين؛ إحداهما مُغَشّاة بزلاج الذهب والثانية مغشاة بالكاشي الأزرق الملون.

أمّا القبّة الزرقاء فيقع تحتها الجامع الكبير، وما يسمّى سرداب الغَيبة، وهي مستديرة الشكل.

أمّا القبّة الذهبية فيقع تحتها ضريحا الإمامين؛ علي الهادي وولده حسن العسكري عليهما السّلام، كما يوجد معهما في الضريح جعفر بن علي الهادي وأخوه حسين والشريفة حكيمة بنت محمد الجواد والشريفة نرجس زوجة الإمام الحسن العسكري، وغيرهم من آل البيت الأطهار، والقبّة الذهبية تقع في وسط الصحن الشريف.

إنّ قبّة الإمامين مطلية بالذهب الذي تبرّع به السلطان ناصر الدين شاه القاجاري وذلك سنة 1285 هـ كما هو مكتوب على القبّة نفسها. وهذه القبّة من أكبر قباب الأئمّة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، حيث يبلغ محيطها (68) متراً وقطرها (22) متراً و (43) سنتيمتراً، كما يبلغ عدد طابوق الذهب الملصوق بها (72000) طابوقة. وبالجهة الجنوبية من الحضرة تقع منارتان مُغَشّاتان بالكاشي الأزرق يبلغ ارتفاع كل واحدة منها من الأرض إلى فوق (36) متراً. وأمّا من سطح الحضرة فيبلغ (25) متراً، وفي داخل الصحن يوجد (45) إيواناً؛ 16 من الغرب و 9 من الجنوب و 20 من الشرق.

ويوجد في سامراء سرداب اسمه سرداب الغيبة، وهو سرداب الدار التي كان يسكن فيها الأئمّة عليهم السّلام وليس له ميزة غير هذه الميزة. وقد حاك أعداء الشيعة الأساطير عن هذا السرداب ونسبوا إلى الشيعة أنّهم يقولون إنّ المهدي غاب فيه وأنّه سيخرج منه. وكل هذا زور وبهتان، فلا يعتقد الشيعة إلاّ أنّه سرداب دار الأئمّة.

وللسرداب باب خشبي جميل باقٍ من عهد الحاكم العباسي الناصر لدين الله، أي أنّه مضى على صنعه أكثر من سبعة قرون.

وكان لسامراء نهضة علمية لمّا سكنها الميرزا السيّد محمّد حسن الشيرازي وصارت إليه الرحلة العلمية من الآفاق، وكانت في عصره مدرسة عظمى للشيعة في العلوم الدينية، وبعد وفاته سنة 1312هـ عادت إلى شبه حالتها الأولى. واليوم فيها جماعة من العلماء والطلاب.

ساعة سامراء الشمسية الأقدم من نوعها في العالم

عرف العرب قبل الإسلام الكثير عن تقسيم الزمن وعن الساعات، ففي متحف « طوب قابي سراي » في استنبول توجد مزولة شمسية من الحجر على شكل ربع كرة ذات تجويف مقسم إلى اثني عشر قسماً، وهي محمولة على قاعدة حجرية وتعود إلى القرن الأول قبل الميلاد عثر عليها في « مدائن صالح » بالجزيرة العربية.

إن تقسيمات الزمن في العصر الإسلاميّ كانت مماثلة لما كان موجوداً في العصور السابقة. فقد استُعملت طريقتان في هذا المضمار نظراً إلى اختلاف آلات قياس الزمن نهاراً وليلاً. فالساعة الشمسية مثلاً هي أقدم أجهزة قياس الزمن، ولما كان النهار غير متساوٍ في طوله في جميع أيّام السنة، وجب أن يراعى ذلك الاختلاف في أي نظام لتقسيم الوقت. على أن استخدام الساعة المائية للقياس أوجد نظاماً جديداً في تقسيم النهار أو الليل إلى اثني عشر قسماً منتظماً، فأصبحت هناك ساعات شمسية مستوية، وساعات مائية زمانية.

عرف المشرقيون في العصر الإسلاميّ أنواعاً شتى من الساعات المائية، لكن أشهرها ساعة المدرسة المستنصرية التي أسهبت المراجع في وصفها والإعجاب بها وشرح كيفية عملها ليلاً ونهاراً. ففي سنة 1235 م اكتمل بناء الإيوان الذي أُنشئ مقابل باب المدرسة المستنصرية، وكان في صدره صندوق الساعات يعرف منه أوقات الصلاة.

والصندوق قوامه دائرة فيها صورة الفلك تظهر عليها طاقات لها أبواب، وفي الدائرة بازان من ذهب في طاستين من ذهب وراءهما بندقتان من نحاس لا يراهما الناظر. وعند مضي كل ساعة ينفتح فما البازَين وتقع منهما البندقتان. وكلما سقطت بندقة انفتح باب من أبواب الطاقات، وحينئذ تمضي ساعة زمانية. والبندقتان الواقعتان في الطاستين تذهبان من مواضعهما، ثمّ تطلع شموس من ذهب في ذلك الفلك مع طلوع الشمس الحقيقية وتدور مع دورانها وتغيب مع غيابها، فإذا جاء الليل فهناك أقمار طالعة من ضوء خلفها كلما تكاملت ساعة تكامل ذلك الضوء في دائرة القمر، ثمّ يبتدئ في هذه الدائرة الأُخرى إلى انقضاء الليل وطلوع الشمس فيعلم بذلك أوقات الصلاة.

وكانت هناك ساعات مائية أخرى أقدم عهداً من ساعة المستنصرية وذلك في بلاد الشام والمغرب والأندلس لكنها فُقدت جميعها، وما بقي منها متأخر في تاريخه. ففي جامع القرويين في المغرب ساعة غير متكاملة ترجع في تاريخها إلى منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وفي مدينة تلمسان في الجزائر برج لساعة ترجع إلى التاريخ نفسه تقريباً، على أنه تبين أخيراً أن أقدم ساعة مائية موجودة في العالم هي تلك التي بمدينة فاس في المغرب وكُتب عليها تاريخ صنعها في سنة ( 763 هـ / 1362 م ).

وهكذا كانت الساعات العربية ذائعة الصيت عجيبة الصنع، تَفاخَرَ في إهدائها الخلفاء والحكام والأثرياء. أما بالنسبة إلى الساعات الشمسية فقد كان للعرب فضل كبير في هذا الميدان إذ امتازوا بمهارة فائقة في اختراع ساعات الشمس وأعطوها شكلاً دائرياً يتوسط محوراً دائرياً وتمكنوا بواسطتها من تحديد موضع الشمس في كل حين ومن تحديد الوقت ووضع التقاويم الزمنية. وكانت ساعة الشمس أكثر اختراعاتهم أصالةً وفنّاً في هذا الحقل. ومن أهم أنواع الساعات الشمسية تلك التي كانت تُسمى « الرخامة ».

الساعة الشمسية المكتشفة في سامراء

في سنة 1972 كان عمّال الهاتف في مدينة سامراء يقومون بأعمال الحفر لمدّ الأسلاك، وفجأة ظهرت لهم لوحة مربعة من الرخام المعروف في العراق، وأُصيبت ببعض التهشم عند استخراجها ثمّ جُلبت إلى المتحف الوطني في بغداد، فتمت معالجتها مختبرياً وترميمها فكانت المفاجأة حينما ظهرت معالمها وما تحمله من خطوط وكتابات عربية.. إذ أنها تمثل ساعة شمسية.

اللوحة مربعة الشكل تقريباً، طولها 80 سنتم وعرضها 76 سنتم، وفي أعلى اللوحة سطر من كتابة عربية محفورة على اللوحة بشكل حزٍّ عميق، قوامها عبارتان، تلك التي على الجهة اليمنى نصّها: « ساعات زمانية لغرض أد » ( ؟ )، وعلى الجهة اليسرى عبارة: « صنعة علي بن عيسى »، وبأسفل ذلك خطوط يلاحظ منها خطان رئيسيان متقاطعان ومتعامدان، يوضح أحدهما اتجاه الشمال حيث كُتب في أعلاه كلمة «الشمال» وكتب في أسفله كلمة « الجنوب »، وتوجد على هذا الخط عبارة نصها « خط نصف النهار » مما يدل على كونه ينصف الساعة إلى نصفين متساويين. أما الخط الثاني الذي يتقاطع معه فيوضح الجهتين الأُخريين حيث كتبت على اليمين كلمة « المشرق » وعلى اليسار كلمة «المغرب». وهكذا يوضح لنا الخطان المذكوران الجهات الأربع، حيث يجب ضبط اللوحة ( الساعة ) حسب تلك الاتجاهات. وتوجد خطوط تمتد من الشرق إلى الغرب تتقاطع مع خط الشمال بشكل زوايا منفرجة مكوِّنة ستة حقول أفقية غير منتظمة في عرضها، إذ أنها تتسع كلما ابتعدت عن خط الشمال نحو الشرق والغرب. وعن يمين خط الشمال ويساره توجد خطوط عمودية موازية له تقريباً تقسّم اللوحة إلى (24) قسماً كل (12) قسماً على جانب من جانبَي خط الشمال، حيث كتبت عليها الساعات ابتداء من جهة اليسار أي جهة المغرب على اللوحة، وبقيت منها كلمات تشير إلى « ساعتان » و « ثلاث » و « أربع ». وفقدت المعالم التي تشير إلى الساعات على الجانب الأيمن من اللوحة ( الساعة ) وهناك كتابات تشير إلى موعد وقت العصر حيث وردت عبارة في الجانب الأيمن نصها « ساعة وقت صلاة العصر ». ومن المعلوم أن استخراج الوقت يتم بواسطة الظل الذي يتركه الوتد المثبت أسفل خط الشمال السالف الذكر، حيث لا يزال الثقب الصغير الذي يثبت فيه الوتد موجوداً على اللوحة. ويلاحظ أيضاً خط آخر يخرج من نفس موضع تثبيت الوتد باتجاه الجنوب الغربي يوضح بلا شك خط اتجاه القبلة ( مكة المكرمة ) بالنسبة إلى العراق.

استناداً إلى ذلك فإن ما ورد في ساعة سامراء من تقسيمات يُختَصر باثنتي عشرة ساعة من ساعات النهار. ففي أقصى جهة اليسار تبدأ الساعة الواحدة صباحاً وتنتهي في وسط النهار الذي هو وقت الظهر في الساعة السادسة، ثمّ ابتداء الشمس بالزوال ويزداد الظل تدريجاً حتّى يأتي وقت العصر، وعندما تغيب الشمس ينتهي النهار، وتكون الساعة حينئذ هي الثانية عشرة عندما يحل وقت المغرب. وما يزال هذا الأسلوب متَّبعاً حتّى الوقت الحاضر في تحديد أوقات الصلوات اليوميّة.

أما تاريخ صناعة ساعة سامراء فيُستَدلّ عليه من صانع الساعة علي بن عيسى الذي عاش في سامراء أواسط القرن التاسع الميلادي. وعلى هذا فهي أقدم ساعة من نوعها تعود إلى العصر الإسلامي اكتُشِفت في عاصمة العباسيين سامراء وعليها اسم صانعها، ولذلك تعد مفخرة من مفاخر الحضارة المشرقية في العصر الإسلامي.