19 رمضان المبارك 1437 - 25/06/2016
عنيت كثير من المصادر التاريخية والجغرافية بمدن المثلث الحضاري الثلاث (الحيرة والكوفة والنجف)؛ على أنّها مدن أسهمت عبر تاريخها الطويل، بما تمتلكه من مقوِّمات بشرية وحضارية، في صناعة عقل الأمة وثقافتها على الصعد كافّة، فضلا عمّا كان لها من أثر فاعل في ثقافات الأمم الأخرى وحضاراتها.
ويبدو ذلك جليا، من خلال المصادر والمراجع التاريخية والجغرافية وكتب السير والتراجم التي تحدثت عن العلاقة الوثقى بين هذه المدن، حتّى أنَّ المؤرخين والجغرافيين كانوا يطلقون على منطقة النجف في عصر ما قبل الإسلام منطقة (ظهر الحيرة)، مع أنَّ أهمية الحيرة قد تضاءلت شيئا فشيئا، بعد أن مُصِّرت الكوفة واستقرَّ كثير من العرب والمسلمين فيها، ومن ثمَّ أضحت مدرسةً للعلوم الإسلامية وعلوم اللغة العربية وآدابها؛ لذا بدأ مصطلح (ظهر الكوفة) يحلُّ تدريجياً محلَّ مصطلح (ظهر الحيرة)؛ ليدلَّ على (النجف) التي كان بعضهم يسمّيها بـ(نجف الكوفة) و (نجف الحيرة).(2)
وجاء في (لسان العرب) و (القاموس المحيط): أنَّ الظهر من كلِّ شيء خلاف البطن، والظهر من الأرض: ما غلظ وارتفع(3) . ويلحظ القادم إلى منطقة النجف من مدينة الحيرة أو الكوفة هذا الارتفاع، كلما تقدّم نحوها حتّى يصل إلى مرقد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي يمثّل قمّة المرتفع.
وكان الطبري (ت310هـ) قد حدّد الموقع الجغرافي لمنطقة (ظهر الكوفة) بالمنطقة الواقعة وراء الخندق(4) ، وهو ما أشار إليه الإمام الصادق (عليه السلام) من قبل، بقوله: ((وإذا ابتعد المرء عن الخندق فإنَّه يصل إلى أرض النجف ...))(5) . ويحدّد لنا ياقوت الحموي منطقة ظهر الكوفة، بقوله:((وأما ظاهر الكوفة فإنَّها منازل النعمان بن المنذر والحيرة والنجف والخورنق والسدير والغريين))(6) . وهذا ممّا يؤكد لنا وحدة الموقع الجغرافي لمنطقة (مدن المثلث الحضاري الثلاث)، ومن ثمَّ العلاقة الحضارية بينها.
ويرجع تاريخ هذه المنطقة إلى عصور قديمة، وقد بُنيت فيها قصورٌ وأديرةٌ ومعابدُ وقلاع ...، ويذكر المؤرخون أنّ الملك البابلي (بختنصر 626 ـ 539 ق.م) بنى حَيْرا على النجف وحصّنه ثمَّ ضمَّ القبائل العربية فيه. وكان ملوك المناذرة وبعض أدباء الحيرة وشعرائها، كعدي بن زيد العبادي وغيره، قد اتخذوا من النجف متنزهاً لهم ومسكناً ومعتكفا؛ لطيب هوائها وكثرة أنهارها وأشجارها، حتّى سمّيت بـ(خدِّ العذراء)، وقد سكن السريان في أطرافها، وأنشأ اليعاقبة مركزا دينيا فيها، فكان عددٌ من أدباء الحيرة يجيدون الفارسية والسريانية واليونانية(7) ، وقد عاش في هذه المنطقة الرسامان الصينيان (فان شن) و(ليوتسه) بين عامي (751 ـ 762م)(8) ويُقال إنَّ الخط الكوفي يرجع في أصوله إلى الخط الحيري، وإنَّ السريان كانوا وثيقي الصلة بالثقافة الإغريقية، وإنَّ كثيرا من عرب الحيرة قد نفذوا إلى هذه الثقافة، بعد أن تعلّموا السريانية ومن ثمَّ انتقلت هذه الثقافة إلى الكوفة، بعد أن مُصِّرت في عام (17هـ). ويُحكى أنَّ النعمان بن المنذر قد انتقى مجموعة من الأشعار وكنزها في (القصر الأبيض) الذي يُعدٌّ واحدا من قصورهم الشهيرة(9) . وبغضِّ النظرعن المعايير النقدية التي احتكم إليها النعمان في اختيار هذه الأشعار وجمْعِها، فإنَّ مثل هذا العمل، فضلا عمّا تقدّم من ظواهر ثقافية، يدلُّ على عناية كبيرة بالشعر واللغة والأدب وقضايا الفكر والثقافة العامة. ومن الأسماء التي أطلقت على النجف أيضا: (ظهر الحيرة) و(ظهر الكوفة) و(نجف الحيرة) و(نجف الكوفة)، مع أنَّ الدكتور مصطفى جواد يميل إلى أن تُضاف الحيرة إلى النجف، فيقال (حيرة النجف)(10) ، فضلا عمّا أطلق عليها من أسماء أخر، كالطور والجودي والغري وبانقيا وغيرهما، وهو ممّا استدلَّ به بعض الباحثين على عمق الارتباط الجغرافي والتاريخي والحضاري بين هذه المدن الثلاث(11) .
وبعد، فلا شكَّ في أنَّ الثقافة الإسلامية تختلف عن ثقافات الأديان الأخرى، فهي ثقافة تدور حول محور الدراسات الأدبية؛ على أنَّ مَن أراد أن يفهم الإسلام وتشريعاته وتعاليمه لابدَّ من أن يفهم علوم العربية وآدابها أولاً، وعلى هذا كانت الدراسات الإسلامية في المدينة المنورة في عهد الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، قبل أن تنتقل إلى البصرة وغيرها من أمصار الفتح الإسلامي لتبلغ ذروتها في الكوفة، بعد أن اتخذها الإمام علي (عليه السلام) عاصمة للدولة الإسلامية، وأسّس في مسجدها المعظّم أولَّ مدرسة تُعنى بعلوم الشريعة والفكر واللغة والأدب.
وفي أثناء ذلك ((بقيت الكوفة تصبُّ في بحر النجف))(12) التي بدأت العمارة تتسع فيها، وبدأ السكن ينمو تدريجيا، مع ظهور قبر الإمام علي في القرن الثاني الهجري. ثمَّ ينتقل الشيخ الطوسي عام (448هـ) إليها؛ ليُنيخ برحله فيها ويؤسس مدرستها العلمية، فيتوافد عليها طلاب العلم، حتّى بلغ عدد المجتهدين الذي يحضرون حلقة درسه (300) ثلاثمائة مجتهد. وتتزايد الهجرة العلمية إلى النجف منذ ذلك الوقت، أي منذ أواسط القرن الخامس الهجري، إن لم تكن قبل ذلك، من بلدان شتّى، من لبنان ولاسيّما جبل عامل والبقاع، ومن حلب وشمال سوريا، ومن البحرين والقطيف، ومن قفقاسيا وإيران وتركستان وأفغانستان والهند وأندنوسيا والصين ...، إلى غير ذلك من البلدان، وكلُّ هؤلاء جاءوا لينهلوا من معين النجف، من علومها وآدابها، وليتفقهوا في الدين، ومن ثمَّ ليعودوا إلى بلدانهم أعلاماً في الفقه والأصول والفكر والأدب. ومع أنَّ هؤلاء قد تأثّروا بالنجف وأثّروا فيها، من خلال امتزاج ثقافاتهم المختلفة وانصهارها في بوتقة هذه المدينة المقدسة، بيدَ أنَّ النجف بقيت محتفظة بطابعها العربي الأصيل ولم تنفصل عن جذورها .
من هنا عُدّت النجف ـ وما زالت تُعدُّ ـ إحدى الحواضر العربية والإسلامية التي أسهمت، عبر تاريخها الطويل، في إحياء التراث العربي والإسلامي ورفد حركة الفكر والثقافة، بما تمتلكه هذه المدينة المقدسة من مقوّمات علمية وثقافية واجتماعية واقتصادية ...
وثمّة روايات كثيرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تذكر هذه المنطقة وتتحدث عنها، ولاسيّما ما يتصل منها بتحديد قبر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، بعد أن أخفي زمناً ليس بالقصير، إذ تثبت هذه الروايات أنَّ أمير المؤمنين لمّا مات حمله ليلا الحسن والحسين وابن الحنفية وعبد الله بن جعفر وعدّة من أهل بيتهم، ودفن بظاهر الكوفة، بين الغريين والذكوات البيض، يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر رمضان من سنة أربعين من الهجرة النبوية الشريفة(13) .
إذن، فقد ورثت جامعة الكوفة حضارتين، قبل الإسلام وبعده، وهما حضارة دولة المناذرة في الحيرة والنجف والحضارة الإسلامية في الكوفة.
----------------------------------الهوامش-----------------------------------
(1) د . عقيل الخاقاني - عميد كلية الآداب ـ جامعة الكوفة .
(2) أنظر: (الأحلام)، موسوعة علي الشرقي: 4/146 .
(3) أنظر: لسان العرب، ابن منظور، والقاموس المحيط، للفيروز آبادي، مادة (ظهر).
(4) أنظر: تاريخ الرسل والملوك والأمم، الطبري: 9/268 .
(5) فرحة الغري، ابن طاووس: 125 .
(6) معجم البلدان، ياقوت الحموي: 4/493 .
(7) أنظر: تاريخ الرسل والملوك والأمم، لمحمد بن جرير الطبري:2/28، والكامل في التاريخ، عز الدين بن الأثير: 1/340، ومعجم البلدان، ياقوت الحموي، والأحلام، على الشرقي:51،52، والموسوعة النثرية، علي الشرقي:1/170، والمفصّل في تاريخ النجف الأشرف، د. حسن عيسى الحكيم:1/10.
(8) أنظر: خطط الكوفة، ماسينيون:105
(9) أنظر: الشعر والشعراء، ابن قتيبة:10، والخصائص، ابن جني:1/387
(10) أنظر: موسوعة العتبات المقدسة (قسم النجف)، د. مصطفى جواد:1/26
(11) أنظر: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، القلقشندي:333، و معجم البلدان:5/272، ونهاية الأرب في فنون الأدب، شهاب الدين النويري:429، وماضي النجف وحاضرها، الشيخ جعفر محبوبة:1/8، والمفصّل في تاريخ النجف الأشرف: 1/10
(12) أنظر: الأحلام:42
(13) أنظر: ترجمة الإمام علي (عليه السلام) في تاريخ دمشق لابن عساكر، محمد باقر المحمودي:33، و فرحة الغري، ابن طاووس:50، والمناقب، الموفق بن أحمد البكري:284.