12 شوال 1437 - 18/07/2016
تعد مدينة الوركاء واحدة من المدن السومرية المهمة في تاريخ العراق القديم فقد اشتهرت بعصر تاريخي خاص عرف باسمها عصر الوركاء لما تميزت به من آثار تاريخية موغلة في القدم يرجع المؤرخون ظهور سلالة الوركاء إلى حقبة متقدمة من تاريخ العراق القديم من عصر فجر السلالات بحدود 2800 ق.م، ومن الباحثين من يذكر أن بداياتها الأولى أبعد من ذلك إذ تصل إلى حدود 3800 ق.م، أي عصور ما قبل التاريخ نظرا لإنجازها الحضاري المتميز.
وقد حكم في هذه السلالة 12 ملكاً أولهم "مسكيكاشر" وأبرزهم الملك المشهور "كلكامش" الملك الخامس في هذه السلالة وهو صاحب الملحمة المشهورة التي ترجع في أصولها إلى عدة نصوص سومرية، ثم ألف منها باللغة الأكدية في العصر البابلي القديم في حدود القرن الثامن عشر قبل الميلاد، تلك الملحمة تعد من أروع ما أنتجه أدب حضارة العراق القديم بصورة عامة وما أنتجه الأدب السومري بصورة خاصة. ومنذ 4000ق.م، تقدمت المدينة في مضمار الحضارة، وتجلت منذ منتصف الألف الرابع ق.م، أي في عصر أوروك نسبة إلى أسم المدينة، فتقدم فن العمارة وشيدت المعابد، وكان أكثرها مزداناً بالفسيفساء المؤلفة من مسامير الفخار المصبوغة بالألوان الزاهية -والتي ما تزال موجودة ولم تتغير إلى اليوم- كما تحسنت الصناعات والتعدين والصياغة، فنقشت الألواح الحجرية، والمسلات، والأواني المنقوشة نقشاً بارزاً، والمطعمة بالصدف والأختام.
وتكمن أهمية مدينة الوركاء في تميزها التاريخي فإلى جانب أنها أول بقعة في الأرض اكتشفت فيها الكتابة قبل 3500 عام ق. م وبزغ منها نور المعرفة والكتابة الصورية ومن ثم المقطعية وبعد ذلك المسمارية، فهي تعد موطنا لعبادة الآلهة أنوا -آلهة السماء- ولهذا فهي موقع ديني مهم في العراق القديم، فضلا عن أنها تمثل مصدر انطلاق ملحمة غملغاش الشهيرة التي كان الملك الخامس فيها.
وتضم الوركاء أثارا متنوعة منها المعبد السومري والمعبد البابلي والمعبد الأكدي ومنطقة لمعبد روماني ومعبد الفسيفساء وهو ما يعكس أن أرض العراق هي صاحبة أقدم أثر فسيفسائي، وتزامنت حضارة الوركاء مع حضارة مدينة أور في الناصرية، ومن ضمن الموجودات الآن في مدينة الوركاء موقع أثري يسمى بيت أكيتوا وهو ما يعني رأس السنة ويمثل بيت احتفالات رأس السنة وهو عبارة عن قاعات كبيرة تضم مسارح للتمثيل، حيث كان التمثيل المسرحي ينطلق في بداية شهر نيسان مع رأس بداية السنة السومرية والبابلية، وهذا أول مسرح في العالم.
وتقع مدينة الوركاء على مسافة 30 كيلومتر شرقي مدينة السماوة وعلى بعد 12 كيلومتر شمال شرقي قرية خضر الدراجي، وتقع بقايا المدينة على الضفة الغربية من مجرى الفرات القديم، وقد أخليت المدينة بعد أن ابتعد عنها مجرى نهر الفرات، وهذه من المسائل البديهية في التاريخ القديم إذ أن معظم المواقع الحضارية في تاريخ العراق القديم وتاريخ العالم القديم كانت ترتبط بمصدر للمياه.
وقد بنا أسوار المدينة الملك جلجامش وأنشأ كذلك سياجا دفاعيا ومعابد المدينة كما جاء في ملحمته الشهيرة، وتعرف الوركاء بشكلها الدائري تقريبا مع بعض التعرجات مثلما لازمت صفة البناء الدائري عدد من مدن العراق القديم، إذ له فوائد استراتيجية عسكرية واقتصادية.
كما اشتهرت مدينة الوركاء بالفخار الخاص بها، إذ أن لكل منطقة أنواع متميزة من الفخاريات تختلف عن المنطقة الأخرى، ويوصف فخار الوركاء بأنه فخار مدلوك أحمر اللون أو رمادي، وتطورت صناعة الفخار مع تطور فنون النحت ومع استخدام الدولاب الدوار الذي ساعد كثيرا في صنع الأواني الفخارية المختلفة الإحجام والأشكال، ووصل النحت إلى مرحلة راقية تظهر فيه اللمسة الفنية، وهذا تأكيد على إنجازات الوركاء وحضارتها في هذا المجال.
لقد أبدع الإنسان العراقي في مدينة الوركاء أيما إبداع في انجازاته الحضارية المتعاقبة من الأختام إلى التدوين وإلى دولاب الفخار والعجلة والنحت والفخاريات والعديد من الإنجازات الحضارية التي حققها في تلك الحقبة الموغلة في القدم بإمكانياته المتواضعة.
وعاش في مدينة الوركاء في ذلك الوقت نحو 50 ألف شخص وفقا لنظام اقتصادي وإداري متطور، وتم اكتشاف المدينة قبل مئة عام خلال عمليات تنقيب ألمانية في العراق، وتسمى مدينة كلكامش إذ اقترن اسمها بملحمته الخالدة وهي المدينة التي ولد فيها أول حروف الكتابة في التاريخ، وقد تم ذكرها في الأخبار العربية القديمة، فذكرها الطبري في تأريخه والحموي في معجمه.
أما التسمية العربية الحالية "الوركاء" فهي تحريف للاسم السومري القديم "أوروك"، وسكنت الوركاء على مر العصور والحضارات، وكان من ساكنيها السومريون فالأكديون فالبابليون فالكيشيون الذين شيدوا فيها المعابد والقصور، وتركو فيها لمحة عن حضاراتهم الزاهية.. وقد حكمت الوركاء من الأشوريين، فالكلدانيين، فالفرس الأخمينيين، كما أنشأ فيها الإغريق، والسلوقيون، والفرثيون ، بنايات ضخمة ما زالت بقاياها جاثمة فوق تلالها.