9 رجب 1437 - 17/04/2016
ارض كربلاء بعدما أصبحت مسرحاً لواقعة تاريخية دموية، أفجعت قلوب المسلمين وبثت الحزن والأسى واللوعة في نفوسهم، وبعدما حوت لقبر اعز شهيد، وأكرم ثائر، وأشجع حُر أبي، هو سبط رسول الله محمد صلى الله عليه واله الإمام الحسين بن علي عليه السلام شهدت النماء والعمران والازدهار في وقت مبكر جداً، لما اكتسبت من قدسية متزايدة وروحانية متسامية، حتى أصبحت في فترة قياسية موئلاً وملاذاً، لكل صاحب عقيدة وكل داعية حق وحقيقة.
لقد أضحت كربلاء تجسيداً لكل معاني السماء وقيم الدين ومفاهيم الدفاع المستميت عن شرعة النبي الأعظم صلى الله عليه واله، فكان طبيعياً ان تصبح بالتدرج محط رحيل علماء الدين والفضيلة، وان تتحول إلى مسرح يحوي كل ذي علم وأدب وإبداع فكري، وكل صاحب إيمان حقيقي.
في الحقيقة ان البيئة التي يدرس فيها العالم، والمحقق، والباحث، أو الشاعر والأديب، لها تأثيرها المباشر على سير تحصيله وجهده الفكري، فالأجواء والظروف السائدة في هذه البيئة، تخلق له الحوافز والدوافع ما تساعده وتسهل له الدراسة والبحث والتفكير.
وعلى سبيل المثال نجد ان المهندس المتخصص في شؤون الزراعة يواصل دراساته وأبحاثه في بيئةٍ زراعية، أي في بيئة تنسجم مع نوع العلم الذي يدرسُه، وكذا الطبيب يدرس ويتلقى تدريباته ودروسه الأولية قبل ان يصبح طبيباً مهنياً في داخل المستشفيات والمستوصفات والعيادات الطبية، أو في مختبرات التحاليل الكيمياوية، وعلى شاكلته يواصل طالب الهندسة دروسه وأبحاثه داخل المباني والطرقات، والجسور والمطارات والشوارع، التي هي في طور البناء والإنشاء.
ذلك ان أجواء البيئة التي يدرس فيها المرء بما ينسجم مع العلم الذي يتلقاه، توحي له بكل ما يرتبط بهذا العلم، وتشجعه على دراسته مثلما تسهل له أمر التدريس والتحقيق، فالبيئة لها تأثيراتها التلقائية أو عندما يرى مشهداً محزناً ومؤلماً يتألم ويحزن، أو حينما يرى نفسه في مكان روحاني مقدس ومبارك تمتلئ نفسه بمعاني الروحانية والصفاء والنقاء القدسي، تمامً مثل الشخص الذي يؤدي مناسك الحج، يؤثر عليه دون ان يدري هو، فتجده في هالةٍ من الصفاء النفسي والنقاء الروحي ممتلئاً بمعاني الصدق والخلوص، على غير عادته في الأوقات العادية.
وانطلاقاً من ذلك طالب العلوم الدينية أو العالم الديني يختار لدراسته وأبحاثه بيئة تناسب العلم الذي يطلبه، أي بيئة مقدسة ومباركة مفعمة بمُؤشرات الدين وقيمه وتعاليمه، بدليل ان العلم الذي يدرسه هو علم الهي وسماوي فلا جرم ان تكون البيئة التي يتواجد فيها بيئة تشع منها معاني السماء والقيم الروحية، ولهذا تجده منجذب لمكان مقدس ومُتبركٍ، ان لم يكن لكل فترة حياته، فخلال سنوات دراسته وتحصيله العلوم الدينية في أماكن عادية غير ممكن،كلا انه ممكن في كل الأمكنة وكل الأحوال، لكن تحصيل هذه العلوم في البيئات المقدسة والدينية ينطوي على حوافز مشجعة، وممهدات وظروف تجذب الفرد نحو الدرس والبحث، والتقصي العلمي مما لا تتوفر أو قد تنعدم في البيئات العادية وغير المقدسة.
بدايات التأسيس:
ومن هنا نجد ظاهرة انتشار الحوزات العلمية الدينية في المدن المقدسة مثل النجف، وكربلاء، والكاظمية، وسامراء، وقم، ومشهد، ان حوزات هذه المدن بقيت محتفظة باستمراريتها وديمومتها، وذلك بالرغم من إنها مرت بفترات فتور، لكنها ظلت متمسكة بهويتها وخصوصيتها على مرَ التاريخ.
وقد باشرت حوزة كربلاء أعمالها، كما ذكرنا ابتداءاً باجتماع زائري الأضرحة المباركة بدءاً من مشهد الإمام الحسين عليه السلام وانتهاء بسائر الشهداء، تحت خيمة عند السور، آنذاك، وقد استمرت هذه الحالة بحضور الإمام السجاد عليه السلام والإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام، وخاصة الأيام التي كانوا فيها في حزن فصارت تقليداً يقيمون به في كل عام حزناً على فاجعة الإمام الحسين عليه السلام، خاصة أثناء زيارة الإمام الصادق عليه السلام، حينما كان يسافر إلى كربلاء، فاكتسب ذلك الاجتماع بوجوده عليه السلام رونقاً، لما يلتقيه من محدثين وفقهاء شيعة، ولم يمض وقت طويل حتى تبدلت صحراء كربلاء الجافة إلى ارض عامرة، وصارت مركزاً من المراكز العلمية والثقافية الشيعية.
لقد ابتدأت الحوزة العلمية في كربلاء، اجتماع الشعراء والفقهاء، والمحدثين الشيعة، ومن ينقل الأحاديث، حتى أضحت يومياً كسوق عكاظ، مركزاً لقراءة الأشعار البليغة، من قبل شعراء الشيعة، وذلك في أواخر القرن الأول، والقرن الثاني، بالتدريج، وبحضور الأئمة الموجودين، أصبح المكان محلاً لتفسير القران، ونقل الحديث، ثم تحول بواسطة الشيخ أبي القاسم حميد بن زياد بن حماد(م310هـ) من علماء الحديث ومن أعظم علماء الشيعة
إلى قاعة اجتماع لتدريس أحكام الدين، والمسائل الفقهية، والعلوم الدينية، مما دفع المشتاقيين للتحقيق والتعليم وطلاب العلوم لان يتسابقوا صوب كربلاء، بعدما كانت مدرسته محلاً لتربية الطلبة البارزين والمقتدرين ومن جملتهم:
أبي جعفر محمد الكليني بن يعقوب(م 329هـ)، وهو صاحب كتاب الكافي احد كتب الأصول الأربعة، التي يستند عليه الإمامية، والشيخ أبي حسن، علي بن إبراهيم القمي (توفي 307هـ)، صاحب كتب التفسير المعروف بتفسير القمي.
«مدرسة الصادق عليه السلام العلمية في كربلاء المقدسة»
انتقل الإمام جعفر الصادق عليه السلام إلى مدينة كربلاء المقدسة في مطلع القرن الثاني الهجري أيام الحاكم العباسي أبي العباس السفاح(جلس 132هـ ـ توفي 136هـ)، ثم عاد إلى المدينة المنورة أيام المنصور(جلس 136هـ ـ توفي 158هـ).
لقد أكدت المصادر القديمة سفر الإمام الصادق عليه السلام إلى العراق، ولكن أيام إقامته في العراق لم تؤرخ من قبل الباحثين بصورة واضحة، ذكر ابن قولويه عن محمد بن عبد الله بسنده عن صفوان بن مهران عن الصادق عليه السلام قال: «...سرنا معه من القادسية حتى اشرف على النجف فقال هو الجبل الذي اعتصم به ابن جدي نوح عليه السلام.. ثم قال اعدل بنا فعدلت فلم يزل سائراً حتى أتى الغري فوقف على القبر فساق السلام من ادم على نبي ونبي عليهم السلام وأنا أسوق معه حتى وصل السلام إلى النبي صلى الله عليه واله ثم خَر على القبر فسلم عليه... ثم قام وصلى أربع ركعات وصليت معه وقلت: يابن رسول الله ما هذا القبر فقال: هذا قبر جدي علي ابن أبي طالب عليه السلام...»، وقد نقل الشيخ محمد حسين الاعلمي الحائري نقلاً عن البحار عام نزوح الإمام الصادق عليه السلام إلى كربلاء المقدسة سنة 144هجرية، وقال: «وفي سنة 144هجرية قدم الصادق جعفر بن محمد عليه السلام لزيارة جده أمير المؤمنين عليه السلام فلما أدى مراسم الزيارة خرج وسكن شمال كربلاء»،وتسمى تلك الأراضي التي حل بها الإمام الصادق عليه السلام بالجعفريات.
وقد حل مع الإمام الصادق عليه السلام في كربلاء المقدسة جماعة من أصحابه وأهل الحجاز، فازدلفت إليه الشيعة ورواد العلم من كل حدب وصوب وارتشفوا من نمير علمه العذب، وتروى عنه الأحاديث في مختلف العلوم،فقد ازدهرت جامعة كربلاء المقدسة في عهد الإمام الصادق عليه السلام، بطابع خاص انفردت به عن بقية المدارس والمؤسسات العلمية الإسلامية في العراق حيث مدرسته العملاقة كانت امتداداً لمدرسة أبيه وجده صلوات الله عليهما، وأصبحت كربلاء المقدسة من اكبر العواصم الإسلامية بتأثير من الحركة العلمية القوية التي أوجدها الإمام الصادق عليه السلام في هذا الوسط الفكري واستمرت هذه المدرسة التي أنشاها عليه السلام مركز الصدارة بين الحوزات والمدارس الشيعية الأمامية في العراق، وظلت البعثات العلمية ورواد العلم تقصد كربلاء المقدسة بالذات، ويتعاقب فيها مدرسة أهل البيت عليهم السلام في التدريس والفتيا وقيادة المرجعية العامة.
واجهت مدرسة الإمام الصادق عليه السلام في كربلاء المقدسة إقبالاً من الفقهاء والمحدثين والعلماء وفتن بها الناس بجميع طبقاتهم، وعلى الرغم من ان مدرسته لم تكن في كربلاء بسعة مدرسته في المدينة، وذلك لقرب كربلاء المقدسة من مركز الخلافة العباسية (بغداد)، بل كان في حيطة حتى لاياخذ الجهاز العباسي حذره، وقد خاف المنصور الدوانيقي العباسي ان يفتن به الناس من إقبال العلماء واحتفائهم وإكرامهم به، فبعث إلى أبي حنيفة يطلب منه مساعدته، يقول الذهبي: «... لما أقدمه المنصور الحيرة، بعث إلي فقال: ياابا حنيفة، ان الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيئ له من مسائلك الصعاب، فهيأت له أربعين مسالة، ثم أتيت أبا جعفر(المنصور) وجعفر عليه السلام جالس عن يمينه، فلما بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لا يدخلني لأبي جعفر، فسلمت وأذن لي فجلست ثم التفت إلي جعفر عليه السلام فقال: ياابا عبد الله، تعرف هذا قال: نعم هذا أبو حنيفة، ثم اتبعها: قد أتانا ثم قال ياابا حنيفة، هات من مسائلك تسال ابا عبد الله فابتدأت أسأله فكان يقول في المسألة: انتم تقولون كذا وكذا وأهل المدينة يقول كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا فربما تابعنا وربما تابعنا أهل المدينة، وربما خالفنا جميعه حتى أتيت على أربعين مسالة ما اخرمُ منها مسالة، ثم قال ابو حنيفة أليس روينا ان اعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس»،وان أحكام فقه الشيعة الأمامية المعروف بالفقه الجعفري أو المذهب الجعفري منسوب إلى الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
دار الصادق عليه السلام في كربلاء المقدسة:
حين نزل الإمام أبو جعفر الصادق عليه السلام كربلاء المقدسة، سكن جنوب نهر العلقمي، وكان يلقي دروسه ومحاضراته العلمية على أصحابه وتلامذته في داره على ضفاف نهر العلقمي، وكذلك في أروقة الروضة الحسينية، ثم اتخذ شيعته داره المذكور مقراً للدراسة والتدريس ومقاماً مقدساً من بعده يقصده الزائرون وذوو الحاجات لكشف الملمات وقضاء الحوائج والتوسل والتضرع إلى الله بوليه الصادق عليه السلام وحسب القول المشهور عند أهالي كربلاء المقدسة ان الإمام الصادق عليه السلام قد اشترى جميع أراضي ضفتي نهر العلقمي ثم كتب وقفية لشيعته والزائرين والوافدين لزيارة قبر جده الإمام الحسين عليه السلام، والأراضي التي يقع فيها هذا المقام تعرف بشريعة الإمام الصادق عليه السلام أو بالجعفريات، وهي ضمن الأراضي التي تعود له في الحائر الحسيني حتى العصر الحاضر وكانت قديماً إحدى المعاهد العلمية في ضواحي كربلاء ومركزاً لتجمع الزائرين والوافدين لزيارة قبر الحسين عليه السلام في عصر الضغوطات العباسية، وعندما قدم الحاكم البويهي عضد الدولة فناخسرو البويهي إلى العراق كان يزور في كل سنة قبر الإمام الحسين عليه السلام بموكبه المهيب، وقد زار كربلاء المقدسة سنة 371هجرية وأمر ببناء قبة كربلاء المقدسة وأمر بتجديد عمارة عضد الدولة، وقد شيد قبة كبيرة وعالية ورواقاً ضخماً مزيناً بالقاشاني، وفي سنة 950هجرية تم بناء خانقاه بجنب المقام، من قبل الزعيم الصوفي الشيعي البكتاشي جهان دده كلامي، الذي كان قيماً في كربلاء المقدسة حدود سنة950هـ.
وفي مطلع القرن الرابع عشر الهجري اهتم الأخوان الفقيهان مدرس الطف الشيخ ميرزا علي نقي الحائري(1253ـ1320هـ) والشيخ ميرزا علامة الحائري(1249ـ1310هـ) أبناء الشيخ حسن آل الصالحي بأحياء الأراضي الجعفريات ضمن مشروعهم لإسكان الشيعة الأمامية في ضواحي كربلاء المقدسة، وكتب وقفيته لتصرف وارداتها على إنارة الروضة الحسينية، ولا يوجد اليوم اثر من ذلك الخانقاه، وأما المقام فهو عامر تحيط به بساتين وعليه قبة كبيرة من القاشاني.
«جامعة كربلاء المقدسة في عصر الإمام الكاظم عليه السلام»
بعد استشهاد الإمام الصادق عليه السلام انتهت الإمامة إلى الإمام موسى بن جعفر الكاظم وهو ابن عشرين عاماً، حيث تصدى للتدريس في مجلس جده محمد صلى الله عليه واله، وهو لا يزال شاباً، وروى عنه العلماء في فنون العلم، وكان يعرف بين الرواة بالعالم، وكان ابو حنيفة يرجع إليه ويسأله في كثير من المسائل.
خاف الحاكم العباسي المهدي(جلس158ـ توفي169هـ) من الإمام موسى بن جعفر عليه السلام حين رأى الناس قد فتنوا به، فطلبه إلى بغداد وأمر بسجنه إلا انه لم ير منه سوءاً، فقد فتن هو بشخصية الإمام عليه السلام لأخلاقه الحميدة وسجاياه الحسنة ثم أمر بإطلاق سراحه واعتذر منه لرؤيا رآها كما يذكر البغدادي في تاريخه.
في هذا الوقت انتقل الإمام الكاظم عليه السلام إلى كربلاء المقدسة أيام المهدي في حدود سنة162هـ إلى سنة 165هـ، لزيارة قبر جده الحسين عليه السلام، واستمر بقاء الإمام الكاظم عليه السلام في كربلاء المقدسة أكثر من سنتين، ولم يكن في دار أبيه على نهر العلقمي، وإنما بنى داره ومدرسته فيما بين حرم الإمام الحسين عليه السلام وأخيه العباس عليه السلام في الشمال الشرقي من الروضة الحسينية وغرب روضة سيدنا العباس عليه السلام وتصدى الإمام عليه السلام للتدريس ونشر الفقه الإسلامي والحديث، إذ كانت مدرسة الإمام الكاظم عليه السلام امتداداً لمدرسة أبيه وجده فازدلفت إليه الشيعة من كل فج زرافات ووحداناً، والتفت حوله جموع العلماء والمحدثين والرواة تستقي منه العلم وتنهل من معينه العذب، وتروي عنه الأحاديث.
وفي أيام المهدي العباسي والهادي العباسي(جلس169هـ ـ 170هـ) ساد الهدوء وخفت الوطأة على مدينة كربلاء المقدسة، واتجهت قوافل الزائرين والمجاورين إلى الحائر الحسيني من كافة الطبقات وعلى رأسهم العلماء والمحدثون يبنون حول المرقد المطهر منازلهم ليسكنوا إلى جواره على رغم وحشة المكان وخشونة الحياة، فقد ازدهرت جامعة كربلاء الكبرى على يد الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، إذ تقدمت جامعة كربلاء الكبرى شوطاً كبيراً في هذه الفترة، وتوسعت أركانها وتركت نشاطها فقهياً واسعاً وزخرت بفقهاء كبار.
لم يمكث الإمام عليه السلام في كربلاء المقدسة كثيراً لأسباب يطول شرحها، منها موقع كربلاء القريب من عاصمة الخلافة العباسية، وضغط الجهاز الحاكم على الشيعة الامامية، وعيون الرقابة على جامعة كربلاء العلمية، وكذلك كانت السلطة تجهد على حضر رجوع الناس إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد أدرك الإمام الكاظم عليه السلام خطورة الموقف، فأعلن السفر إلى المدينة المنورة، ليكون بعيداً عن مركز الخلافة.
واتخذ الشيعة الامامية من دار ومدرسة الإمام الكاظم عليه السلام مقراً للتدريس ومقاماً مقدساً يقصده للناس للزيارة والتبرك وقضاء الحاجات بفضل الله، ويقع هذا المقام اليوم في محلة باب بغداد زقاق السادة المعروف بـ (عكَد السادة) وأكثر هذا الزقاق هم سادة موسويون من أحفاد الإمام موسى الكاظم عليه السلام، وقد نقشت على واجهة المقام هذه الأبيات:
موسى بن جعفر كلما جاءنا إلى هـنا برغبـة يسكـن
من حولـه أحفاده قد أتوا صاروا له من حوله مسكن
حوزة كربلاء على عهد الشيخ ابن حمزة:
استمرت الحوزة في كربلاء، في تطروها الفكري والعلمي، لتتحفنا بميراث ثقافي مهم وغني، ليبقى مرتبط بعلمائنا، متجهاً إلى عصرنا الحاضر.
ان جملة من العلماء مثل: الشيخ المفيد والشيخ احمد جلَود، والأخوين الكريمين الشريف الرضي والشريف المرتضى والشيخ أبي إسحاق الثعالبي وأبي صلاح تقي الدين الحلي، كل هؤلاء مرتبطون بصورة مباشرة وغير مباشرة بهذه الحوزة.
وفي الأوقات التي تضطر فيها الحوزة إلى الركود، والضعف والجمود، يتصاعد نشاط بعض العلماء الفاعلين، ليعيد إلى الحوزة ازدهارها المعهود، ومنهم الشيخ عماد الدين محمد الطوسي المعروف بابن حمزة(598هـ) أو أبو جعفر الثاني، الذي استطاع جمع الطلبة، وعشاق العلم والفضيلة، إلى الحوزة، بتحقيقاته العميقة، ومهارته الرشيقة في كل العلوم، ناهيك عن تدريسه المتين.
ومن آثار هذا الشيخ هو كتاب الوسيلة، وهو احد الكتب الفقهية المشهورة، وبابتكار من هذا الشيخ زيد في أبواب العبادات، فجعلها عشر أبواب، بدلاً من خمسة والخمسة الأولى هي:
لصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، الجهاد.
إما الخمسة أبواب الثانية المضافة فهي:
الخمس، والاعتكاف، الغسل، العمرة، الرباط.
حوزة كربلاء في القرن السابع الهجري:
في القرن السابع الهجري، وسعت الحوزة العلمية في كربلاء فعاليتها، من خلال زعامة آل معد الحائري، ومن جملة أولئك الذين بلغوا مقام المرجعية العظمى هو السيد فخار معد الحائري(630هـ)، صاحب كتاب الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب، وقد قام هذا المرجع بتربية الكثير من الطلبة، منهم السيد عبد الكريم بن طاووس(م693هـ) وابنه السيد جلال الدين عبد الحميد بن فخار الموسوي الحائري(وفي 482هـ) وغيرهم.
وبهذا الترتيب وجدت الحوزة في كربلاء نفسها بعد قرون تتألق بعلماء آخرين مثل: ابن فهد الحلي(م842هـ) والسيد محمد بن فلاح الموسوي المعشعشي مؤسس الدولة الشيعية المعشعشية في جنوب إيران، والسيد محمد نور بخش من أقطاب الصوفية، والشيخ هلال الجزائي، والأستاذ المحقق الكركي والشيخ تقي الدين إبراهيم الكفعمي(م905هـ) والسيد ولي الرضوي الحائري(م981هـ) صاحب(كنز المطالب)، ومدرس(الطف) السيد نصر الله الموسوي الحائري(م1160هـ) وهو المرجع العظيم لعالم التشيع في حوزة كربلاء، وفي زمان(نادر شاه افشار) انتخب لرئاسة وإمامة صلاة الجماعة، في مؤتمر النجف، واجتماع علماء الكعبة المشرفة.
حوزة كربلاء على عهد الوحيد البهباني:
لقد كانت النهضة الفكرية لمحمد باقر الوحيد البهباني(م1205هـ)، هي الفترة الذهبية لهذه الحوزة، وقد تزامنت هذه الفترة مع وفاة الشيخ يوسف البحراني(1186هـ).
حيث اختفى وجود الإخبارية والى الأبد، من حوزة كربلاء، وسائر الحوزات العلمية الأخرى، وكُفت أيديهم عنها، فاخذ(البهباني) يطرح نموذج مدرسة عصرية لمعالم(أهل البيت عليهم السلام) وقد اهتم بتربية الآلاف من طلبة العلوم الدينية فأوصلهم إلى درجة الأساتذة والمجتهدين، فاتجهوا صوب الحوزات الأخرى في العراق وإيران.
ومنهم: السيد بحر العلوم والشيخ جعفر كاشف الغطاء، إلى النجف.
والسيد محمد إبراهيم الكرباسي والسيد محمد باقر الاصفهاني، إلى حوزة أصفهان إلى كاشان، والميرزا مهدي الخراساني إلى مشهد، والشيخ أسد الله الكاظمي، صاحب المقابس، إلى الكاظمين.
وقد أتم طريقه اثنان من تلامذته هما السيد مهدي الشهرستاني والسيد علي الطباطبائي، صاحب الرياض، وبعد هؤلاء تابع المسيرة. السيد محمد المجاهد(م1242هـ)، ابن الطباطبائي، صاحب الرياض، ثم شريف العلماء الحائري، وتبعه السيد إبراهيم الموسوي القزويني(م1262هـ) صاحب الضوابط، والشيخ محمد صالح البرغاني الحائري(م1271هـ)، وقد هاجر من قزوين إلى كربلاء، ليمسك بزعامة الحوزة، ويبدأ الآلاف من طلبة العلوم الدينية، بعد فترة وجيزة، وأثناء زعامة الشيخ محمد تقي الشيرازي(م1338هـ) المعروف(بالميرزا الثاني الشيرازي)، وفي هذه الأثناء تابعت حوزة كربلاء انطلاقتها، ولفتت الأنظار إليها بفتوى(الميرزا الثاني) التاريخية ضد الإنكليز، بمطالبته باستقلال العراق وبالحقوق السياسية، ودحر الاستعمار الخارجي.
حوزة كربلاء على عهد الإمام الشيرازي المجدد الثاني(قدس سره):
وبعد وفاة السيد مهدي الشيرازي(1380هـ) تزعم إدارة الحوزة ابنه السيد محمد الشيرازي بمؤازرة عدد من أعلام هذه المدينة المقدسة إلى جانب حلقات درس الخارج الذي كانت قائمة من قبل كل من الشيخ محمد رضا الاصفهاني والشيخ يوسف الخراساني والشيخ محمد الكرباسي والشيخ محمد الشاهرودي وغيرهم من أعلام كربلاء إلى ان عطل حزب البعث العراقي هذه الحوزة المتألقة، مثلما عطل الحوزات الشيعية في العراق، ومنذ نصف قرن كانت عمادة الحوزة العلمية هناك بيد الشيخ محمد الكرباسي.
ومن المدرسين في حوزة كربلاء قبيل هذا التاريخ، المراجع العظام والأساتذة البارزون المتأخرون، وممن يمكن ان ندرج هده الأسماء كما يلي:
(الشيخ مولى حسين الاردكاني)، و(السيد محمد صالح داماد)، و(الشيخ زين العابدين المازندراني)، و(حسن برغاني الصالحي)، و(السيد حسين المرعشي الشهرستاني)، و(الشيخ العلامة برغاني الصالحي)، ومدرس حوزة الطف(الشيخ علي تقي برغاني الصالحي)، و(السيد إسماعيل الصدر)، و(السيد ميرزا هادي الخراساني)، و(ميرزا مهدي الشيرازي)، وآخرون من عظماء الاجتهاد والفتوى.