18 جمادى الأولى 1433 - 11/04/2012
إننا في أمسِّ الحاجة إلى أن نعيد استقراء تاريخنا وأن ندرس عوامل نجاح أمتنا في قيادة الإنسانية قرابة ألف عام، وبناء حضارة يشهد لها أعداؤها قبل أبنائها.
أي مدرسة وجامعة فكرية وعلمية واجتماعية تلك التي استمرت في تخريج أساتذة للإنسانية في العلوم النقلية والعقلية على حد سواء قرابة ألف عام، من فقهاء ومحدثين وعلماء في الطب والهندسة والرياضيات والفلسفة والفلك والأدب، وغيرها من علوم الدين والدنيا. قلَّما يجتمع مثل هذا الرقم الهائل منهم في حضارة واحدة، دع عنك أن يكونوا جميعاً نتاج مدرسة واحدة.
أما المدرسة التي أقصدها، فهي المسجد بمفهومه الشامل المتعمق، وهو مفهوم غائب عن كثير من أبناء أمتنا، المسجد الذي يمثل نقطة التقاء الأمة وتوحيدها والمظهر العملي لوحدتها، ولذلك كان أول أعمال أستاذ الإنسانية نبينا محمد(صلى الله عليه وآله) هو بناء مسجد للمسلمين في قباء في أيامه الأولى التي أمضاها في المدينة، وبعد انتقاله من قباء إلى المدينة كان أول أعماله كذلك بناء مسجده (صلى الله عليه وآله)، وحمل أحجاره بيديه الكريمتين فكان المسجد النبوي مدرسة الدعوة الإسلامية الأولى، ودار الدولة الإسلامية الكبرى، وكان المدرسة والجامعة ومقر مجلس الشورى، وعقد الرايات، وتجهيز الجيوش، وإدارة شؤون الأمة صغيرها وكبيرها.
إن المسجد في المفهوم الإسلامي الخالص هو مقر إعلان العبودية الخالصة لخالقنا (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً.
وبما أن العلم في الإسلام شرط أساسي في أداء العبادة الصحيحة بمفهومها الشامل، فلابد إذن من أن يقوم المسجد بدور نشر العلوم بل وأن يصبح منارة ومقصداً علمياً.
استمر المسجد في التطور والنمو جيلاً بعد جيل، ليؤدي مهامه في صناعة الحياة ليصبح جامعات ومنارات علمية وفكرية رائدة، والأمثلة كثيرة نذكر بعضها مثل جوامع الألف -وسميت كذلك لأنه مضى على تأسيسها أكثر من ألف عام- قلب الفسطاط الفكري، ومهد الحركة العلمية في مصر، والذي كان يشهد مئات الزوايا العلمية، والجامع الأموي في دمشق وجامع المنصور ببغداد، وجامع القرويين في فاس بالمغرب الذي امتاز بالنظام التعليمي الجامعي وطرق التدريس فيه، فكان له شروط دقيقة للتعيين ووظائف التدريس وتخصيص كراسي الأستاذية والإجازات الفخرية، وكان له مساكن جامعية خاصة للطلبة والأساتذة، ومكتبات متخصصة للدارسين الجامعيين، فقصدها المسلمون وغير المسلمين من شتى أرجاء العالم، وخاصة من أوروبا أمثال القس غربرت دورياق الذي أصبح بابا روما.
وكان التدريس يبدأ قبل طلوع الفجر وحتى الواحدة بعد منتصف الليل، أما جامع الزيتونة بتونس فقد أبدع في شتى مجالات العلوم النقلية والعقلية، وضمت مكتبته العامرة مايزيد عن مائتي ألف مجلد، وكذلك كان حال الجامع الأزهر الذي بدأ كغيره كمسجد لإقامة الشعائر التعبدية وسرعان ما أصبح جامعة يدرس فيها العلوم المختلفة، وتخرج فيها علماء عمالقة في كل مجالات الحياة. وحظي القرنان الخامس والسادس الهجريان بالتوسع في بناء المدارس المنفصلة عن المساجد، مما أدى تدريجياً إلى فقد شمولية التعليم في حلقات المسجد ليقتصر على العلوم الشرعية، وبدأ الضعف العلمي يدب في الأمة، ومما زاد في تسارع الضعف والانهيار حدوث كوارث ثلاث في تاريخ أمة الإسلام على مدى ثلاثة قرون.
أما الأولى فهي حرق مدينة الفسطاط عام 564هـ، وأما الثانية فهي تخريب وحرق التتار لبغداد مركز الحضارة الاسلامية آنذاك في عام 656هـ، أما الكارثة الثالثة فهي سقوط الأندلس عام 897هـ.
إن ضعف دور المسجد هو انعكاس لضعف الأمة الإسلامية، ولن تكون الصحوة الإسلامية إلا عندما يقوم المسجد بدوره الشامل ويرتقي بأساليبه ووسائله التربوية والتعليمية بما يتناسب مع احتياجات العصر ومقتضياته، ليصبح قلب الحياة الإسلامية من جديد، وهو واجب عصري حيث لا يتم واجب تعليم الجيل إلا به.