18 جمادى الأولى 1433 - 11/04/2012
دوّنت كتابات مختلفة حول مصادر نهج البلاغة في العقود الماضية، لباحثين كثر، وسماحة الشيخ رضا أستادي واحدٌ من هؤلاء، إذ دوّن رسالةً بعنوان مدارك نهج البلاغة، كما وأعدّ السيد عبد الزهراء الحسيني (رحمه الله) كتابه المفصّل: "مصادر نهج البلاغة وأسانيده"، مع الأخذ بعين الأعتبار حجم هذه الأعمال ومقدارها، هل ترون محاولات توثيق مصادر نهج البلاغة قد انتهت، أو أنّه حيث طبعت بعض المصادر الروائية والنصوص التاريخيّة للمرّة الأولى في السنوات الأخيرة، فإن اللازم هو الاستمرار في هذه المحاولات واكتشاف مصادر أخرى؟
الشيخ أستادي: إنّ الحديث عن مصادر نهج البلاغة يطرح شبهةً واهيةً وسؤالين اثنين لابدّ من توضيحهما هنا. وتكمن هذه الشبهة في اعتقاد جماعة من علماء أهل السنة بأنّ مؤلِّف نهج البلاغة ربمّا يكون السيد الرضي أو السيد المرتضى نفسيهما، ومن ثمّ لا توجد علاقة حقيقيّة بين هذا الكتاب والإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام). وكأنّ الدوافع من وراء هذه المقولة تكمن في أنّهم لم يقدروا، أو لم يريدوا الاعتراف، بخطبة الشقشقيّة وبعض الموضوعات التي تؤكّد خلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحقّانية الشيعة في ما ورد في نهج البلاغة.
أمّا السؤال الأول فهو: هل لكل خطبة من خطب نهج البلاغة ورسائله وكلماته القصار _ مثل الأحاديث ككتاب الكافي _ سند أم لا؟
أمّا السؤال الثاني، فعلى فرض ثبوت سندٍ لهذه النّصوص، هل أنّ هذه الأسانيد _ أو قسم منها _ أسانيد صحيحة اصطلاحيّاً بما يعنيه مصطلح الصحيح في كتب علم الحديث وأصول الفقه، بحيث يمكن الاعتماد عليها في المسائل الفقهيّة، تماماً مثلها مثل بقيّة الأحاديث الصحيحة السند أو لا؟
وفي ما يتعلق بتلك الشبهة فبحقٍّ يقال: إنّها ضعيفة، ولا أساس لها من الصحة، إلى حدٍّ أنّها لا تحتاج إلى جواب، ولكن من أجل إثبات أنّ موضوعات نهج البلاغة موجودة في كتب كثيرة، وقسم منها قد أُلّف حتى قبل ولادة السيد الرضي، أُنجزت أبحاث قيّمة، واتّضح _ علاوة على ستة عشر مصدراً في نهج البلاغة نفسه _ وجود أكثر من مئة كتاب من مصادر نهج البلاغة.
إنّ كتباً من قبيل: "مصادر نهج البلاغة" للسيد عبد الزهراء الحسيني، و"استناد نهج البلاغة" لامتياز عليخان الهندي، و"مدارك نهج البلاغة" للشيخ هادي آل كاشف الغطاء، و"ما هو نهج البلاغة" للسيد هبة الدين الشهرستاني، و"مصادر نهج البلاغة" للشيخ عبد الله نعمة، وأبحاث ابن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغةط، والشيخ محمد باقر المحمودي في "مستدرك نهج البلاغة"، والسيد حبيب الله الخوئي في "شرح نهج البلاغة"، والعلاّمة المجلسي في "بحار الأنوار"، والأستاذ حسن زاده آملي في "شرح نهج البلاغة"، بالإضافة إلى كتابنا "مدارك نهج البلاغة" الذي طُبع قبل حوالي العشرين سنة ونيّف... هذه الكتب جميعها تصبّ في الإطار عينه وتثبت هذه الحقيقة.
فعقب نشر كتابنا الذي سبق أن اشرنا إليه، نُشرت كتب أخرى قيّمة ومفيدة، ولا حاجة الآن للقيام بعمل مستقل في هذا الصدد، وفي حال ظهور مصادر أخرى تُكتب عندها في شروحات نهج البلاغة.
أمّا جواب السؤال الأول، فهو: إنّ كون مصادر نهج البلاغة قد أضحت معلومة مثل الخطبة السادسة عشر أو قسم منها، في ما جاء في كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ... لا يعني أنّها قد ذُكرت في الكتاب السالف مع سندها، لأنّه من
الممكن أن تكون قد نُقلت من دون سند، أو عمَّا يسمّى في مصطلح علم الحديث بالمرسل.
نعم، قد جرى التوّصل من خلال الأبحاث التي أُجريت بهدف الإجابة عن الشبهة المشار إليها، إلى نتيجة تفيد أنّ الكثير من منقولات نهج البلاغة كان له سند، مثلاً عندما أتضح أن الخطبة العشرين، أو قسماً منها، موجودة في كتاب الكافي للشيخ الكليني ثقة الإسلام، فمن الطبيعي أن يغدو لها سند بذكر الكليني هناك، كما هي عادته في كتابه هذا.
يبقى السؤال الثاني: لو افترضنا وجود مصدر لكل خطبة من خطب نهج البلاغة ورسائله وكلماته القصار، وافترضنا أيضاً وجود سلسلة من الأسانيد لهذه الخطب والرسائل و..، فهل يمكن الاعتماد عليها والتمسّك بها والاستناد إليها للإفتاء أم لا؟
والجواب عن هذا السؤال يتحدّد في أنّه توجد ثلاث طرق لإثبات صحة الرواية ومدى الاعتماد عليها، وهي:
1 _ متانة النص ونظمه الرفيع: فإذا ما اطلعنا على نصوص نهج البلاغة استخلصنا أنّه من المستحيل في بعضها أن يكون لغير الإمام علي (عليه السلام)، ولهذا وُصف (عليه السلام) بـ "أخي القرآن".
2 _ القرائن المتعدّدة والشواهد الكثيرة الدالة على صحة الرواية، وعلى سبيل المثال اعتماد الروايات التي لا سند لها من قبل العلماء القريبين من زمن الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) وأئمة الهدى (عليه السلام).
3 _ أن يكون للسلسلة سندٌ صحيح اصطلاحاً، وهذا القسم ليس فيه الكثير من الأحاديث، على خلاف القسمين الأول والثاني.
وهنا لابدّ من ذكر هذه المسألة، وهي عندما لا يستند الفقهاء _ أحياناً _ في أبحاثهم الفقهيّة، إلى بعض منقولات نهج البلاغة، وخصوصاً إذا عُدَّت الدليل الوحيد؛ حيث لا يعطون الفتوى على أساسها، فإنّما ذلك بسبب عدم إحراز صحّتها بكونها نوعاً من الأنواع الثلاثة التي ذكرناها، وهذا معناه أنّه لا يجوز لأحدٍ أن يعدّ نهج البلاغة بأجمعه معتبراً مئة بالمئة مثل القرآن الكريم.
ومن المؤسف جداً أن بعض من لا يملك إطلاعاً على مثل هذه القضايا يعتمد على بعض منقولات نهج البلاغة في الأمور الدينيّة المهمّة، مثل عصمة الأئمة الأطهار(عليهم السلام)، ما يؤديّ إلى خلق إشكاليّات لا غير، ومثالاً على هذا الأمر ما نسمعه اليوم _ بكثرة _ عن تناقل قول الإمام علي (عليه السلام)، في نهج البلاغة، أنّه غير منـزّه عن الخطأ وأنّه مستعد لقبول الانتقاد والنصيحة، فعلى فرض أنّ سند هذه المقولة كان مورد اعتبار إلاّ أنّه لابدّ لنا من أن نفسرّها وفاقاً للكثير الذي جاءنا ن عصمة الأئمة الأطهار(عليهم السلام) حتى لا نقع في الالتباس والخطأ.
ونعود لسؤالكم الذي كان عن ضرورة متابعة توثيق مصادر نهج البلاغة أو لا، وكما أسلفنا في بياننا، آنف الذكر، لا ضرورة لتوثيق الأسانيد من الجهة الأولى، أمّا من الجهتين الثانية والثالثة، أي ملاحقة سلسلة السند وإحراز صحتها لكل خطبه ورسائله وكلماته القصار وكذلك محاولة تصحيح النصوص بالطرق الأخرى... ذلك كلّه أمر لازم وضروريّ، ولعلّه بإمكاننا القول: إنّه لم يتم القيام بخطوات أساسيّة ومهمَّة في هذا المضمار، وفيما لو تم القيام بمثل ذلك فسيتضح _ بالتبع _ أن الحالات التي تفتقد التوثيق نادرة.
حضرة الأستاذ، لقد أعدّدتم قبل خمسة عشر عاماً كتاباً بعنوان "كتاب نامه نهج البلاغة "، وقد قمتم من خلاله بتوصيف 370 كتاباً ورسالةً أُلفت في نهج البلاغة، في الطبعة الأولى، و400 في الطبعة الثانية، ومن الواضح أن الفضل يعود إليكم تطبيقاً لـ "الفضل للمبتدئ وإن أحسن المقتدي "، لكنّ هذا الكتاب لم يكن كاملاً، وقد أشرتم إلى هذا الأمر في المقدمة، فهل تنوون إكمال مشروعكم هذا؟
الشيخ أستادي: هناك عدة أغراض لتدوين أي ببليوغرافيا، وهي:
الغرض الأول: إثبات أهمية موضوع أو رسالة أو مسألة أو كتاب أو بحث ما... فمثلاً تأليف مئات الكتب والمقالات والرسائل عن الإمام الحسين (عليه السلام) وانتشارها بأعداد كبيرة ولغات متعددة يؤكّد لنا أنّ هذا الموضوع كان حائزاً على أهمية كبيرة وما زال كذلك بين علماء المسلمين وغير المسلمين رغم مرور الأزمان حتّى الوقت الحاضر، ولهذا عندما نرى آلاف التفاسير والأبحاث والكتب التي تدور حول القرآن الكريم وخصائصه وبنيته وموضوعاته نعي عظمة هذا الكتاب ونفهمها.
هناك الكثير من الببليوغرافيا المخصّصة لهذا الغرض، وقد أُلفت ببلوغرافيات كثيرة تخصّ كُلاً من الإمامين الحسين والصادق (عليهما السلام) وكذلك نهج البلاغة، إضافة إلى المختصر منها. ولحسن الحظ، فإن ببليوغرافيا نهج البلاغة قد أُكمل من جانب السيد محسن دين پرور _ وهو من طلاب الحوزة العلمّية في قم المقدّسة _ بحلّة جديدة جاهزة للنشر.
الغرض الثاني: أن تغدو مصادر أي بحث متوافرةً بين أيدي الباحثين والمحققين، وهنا لابدّ من جمعها، أمّا في ما يتعلّق بنهج البلاغة، فهناك بعض الكتب القليلة التي يمكن أن تكون مصدراً، ومن ثمّ ليست كل الكتابات المتعلقة بنهج البلاغة يمكنها أن تكون مصدراً من مصادر البحث. ومن باب المثال أذكر أنني الآن في صدد كتابة مقالة عن مسألة فدك، ومن أجل هذا طلبت من أصدقائي أن يهّيئوا لي فهرساً بالكتب التي تتعلق بهذا الموضوع، وقد أعدّوا لي حوالى 250 كتاباً ومقالة ذاكرين مصادرها وموضوعاتها، لكنني وجدتّ أنّ نصف هذه المجموعة ربما يمكن أن يكون مصدراً لهذا البحث لا أكثر.
الغرض الثالث: تسجيل نقاط ضعف كلّ كتاب وكذلك نقاط قوّته، حيث يتمكّن القارئ من تجنّب أضرار بعض الكتب، والاحتراز عنها.
الغرض الرابع: تدوين أسماء الكتب المفيدة وعدم ذكر أسماء الكتب المضرّة، إذ يوفّر ذلك للباحثين مراجعة الكتب المفيدة في مجالات بحثهم من دون حاجةٍ إلى إتلاف الوقت بغيرها.
أعتقد بأنَّ تدوين ما كان على نحو القسم الثاني والثالث والرابع يشتمل على فوائد عديدة للمراجعين، بصرف النظر عن مستوياتهم وأغراضهم، وأقترح على معدّي مثل هذه الكتب أن يركّزوا على الأقسام الثلاثة الأخرى أكثر من تركيزهم على القسم الأوّل.
ساد، في السنوات الماضية، تدوين مشروع التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، وكأنّ فكرة التفسير الموضوعي تعود _ على أقصى حد _ إلى العقود الثلاثة الماضية، كما أنّ تدوين التفسير الموضوعي لنهج البلاغة يعود إلى الفترة نفسها الزمنيّة المشار إليها، تماماً كما تفضلتم في ذكركم لمؤلفَّان العلاّمة الشوشتري، فإنّ كتابه "بهج الصباغة " من أوّل الكتب التي شرحت نهج البلاغة شرحاً موضوعيّاً. والسؤال هنا هو: لماذا راجت كتابة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم فيما لم تدم الخطوة نفسها في نهج البلاغة، بل توقّفت عند كتاب العلاّمة الشوشتري؟
الشيخ أستادي : لقد قام بعض الأشخاص بتنظيم موضوعات نهج البلاغة، ومن المؤكّد أنّ شرحه الموضوعي قيّم ومفيد، بيد أنّه لابدّ من الانتباه إلى أنّ نهج البلاغة ليس سوى أحد الكتب الحديثيّة التي لا تستوعب جميع أحاديثنا. فإذا أريد تدوين تقسيمٍ موضوعي للأحاديث، فإنّ كتاب نهج البلاغة وما يحويه من أحاديث للإمام علي (عليه السلام) ليس سوى قسم من مجموعة الأحاديث الموجودة عندنا عن هذه الموضوعات.
وبعبارة أخرى: لا يمكننا الاكتفاء بما هو موجود في نهج البلاغة عن موضوعٍ ما دام يوجد عنه حديث أو أكثر في غير النهج، لأنّ أحاديثنا في كل بحث لا بدّ من أن تكون _ بمجموعها _ محطّ انتباهنا وتركيزنا.
إنّ قياس نهج البلاغة على القرآن الكريم في هذا الموضوع بالذات قياس مع الفارق، ذلك أنّ القرآن الكريم كتاب يشمل تمام الآيات التي نـزلت على رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، أمّا نهج البلاغة فلا يتضمّن الأحاديث كافّة، حتى أنّه لا يشمل أحاديث الإمام علي (عليه السلام) جميعها، لهذا السبب يمكن الاكتفاء بالقرآن الكريم في كل موضوع، أمّا مثل نهج البلاغة فالأمر فيه ليس كذلك.
أمّا لماذا لم يتم القيام بعمل بعد "نهج الصباغة" شبيه به، فذلك لأنّ ما كتب عن شرح نهج البلاغة لم يكن بمستوى شرح العلاّمة الشوشتري حتى نتوقّع إكمال عمله والاستمرار فيه.
ثمّة نسخ كثيرة لنهج البلاغة، منها النسخة المصوّرة في مكتبة آية الله المرعشي النجفي، وعبده، وصبحي الصالح، ونسخة فيض الإسلام التي تستند على شرح ابن أبي الحديد... أيّ نسخة من النسخ ترى أتها الأصح، بحيث يمكن الرجوع إليها باطمئنان؟
أليس من الضروري تصحيح نهج البلاغة تصحيحاً ممتازاً يُراعى فيه اختلاف النسخ مثلما تُراعى في الكتب الأخرى فتصبح ثابتة، وأشير هنا _ من باب المثال _ إلى أنّنا نلاحظ في أغلب طبعات نهج البلاغة المتوافّرة حالياً وجود عبارة: "أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به"، والحال أنّ المفترض في الجملة أن تكون "أعملهم" حسبما يقتضيه سياق النص؟
الشيخ أستادي: لابدّ من الإشارة إلى أنّ نهج البلاغة، في نسخه الكثيرة، _ مع المقارنة بمختلف الكتب الحديثيّة الأخرى _ من أفضل الكتب صحةً واعتباراً، وذلك لوجود نسخ قديمة له، ويمكن القول: إنّه من النادر وجود طبعات لنهج البلاغة مليئة بالأخطاء.
لقد أُنجزت، في السنوات الأخيرة، أعمال مهمّة في مجال تصحيح نهج البلاغة، من بينها ما قامت به مؤسسة نهج البلاغة، والتي وصل المحقّقون فيها إلى أعمالٍ مهمَّة، ولعلّها الآن تحت الطباعة.
أمّا في ما يتعلق بالمثال الذي أشرتم إليه، فإن كلاً من "أعملهم" و "أعلمهم" يمكن تسويغه، لأنّه إذا كان يُقصد بأولى الناس بالأنبياء أوصياؤهم وخلفاؤهم فلا بدّ من أن تكون الكلمة حينئذٍ "أعلمهم"، لأنّهم سيكملون طريق الأنبياء ويهدون الناس، وهذا ما يستلزم كونهم أعلم البشر بالمعارف الدينيّة والعلوم الإلهيّة. أمّا إذا كان المقصود بأولى الناس بالأنبياء عامة الناس فالأنسب أن تكون "أعملهم"، لأنّهم يريدون أن يبلغوا المقامات السامية باقتدائهم بالأنبياء. ولعلّنا لا نستطيع هنا ترجيح واحدة على الأخرى. أمّا مقولتكم فهي صحيحة إذا أخذنا بعين الاعتبار الجمل التي تعقبها والتي تتحدّث عن الاقتداء والاتباع، إلاّ أنّ كثيراً من العلماء الكبار وأهل الحديث لا يأخذون بعين الاعتبار هذه التصحيحات القياسيّة، بل يدوّنون الاثنين معاً، معتبرين أحدهما الأصل والثاني النسخة البديلة.
لمَّا كان الشريف الرضي قد اعتمد، في تدوين نهج البلاغة، على البعد البلاغي، في أحاديث أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد انتقى من هذه الأحاديث الأفصح فالأفصح والأبلغ فالأبلغ، مقطّعاً بعضاً منها، مشيراً إلى ذلك ببعض الإضافات الطفيفة، مثل: "ومنها "، أمّا اليوم فإن البعد البلاغي في تلك الأحاديث لم يعد هو المقصود والمنظور إليه؛ إذ يتركَّز النظر على الجانب السياسي لتلك النصوص وما فيها من إرشاد وهداية. من هنا يقترح بعض الباحثين _ مع الاحتفاظ بنهج البلاغة الموجود _ استحضار الخطب والرسائل بكاملها، ومن هنا تمّ تدوين كتاب "تمام نهج البلاغة ".
من ناحية أخرى، قالوا في تعريف المستدرك: "هو ما استدرك فيه ما فات المؤلّف في كتابه على شرطه "، تماماً كما جاء في مستدرك الحاكم النيسابوري على الصحيح، حيث دوّنه على شرطه أي المعاصرة والسماع، إلاّ أنّه لم يُراع في أيّ واحد من مستدركات نهج البلاغة مثل مستدرك كاشف الغطاء ونهج السعادة للمحمودي ومصباح البلاغة لمير جهاني... لم يُراعى شرط السيد الرضي في انتخاب الأحاديث، ألا وهو "الأفصح فالأفصح... " وإنّما استعيض عن ذلك بجمع أحاديث الإمام علي (عليه السلام)بتمامها، والحال أنّ السيد الرضي لم يكن هذا هدفه، إذ كان كتابه كتاباً انتقائياً.
هل تعدّون هذه الكتب مستدركات لنهج البلاغة بما يحمله هذا العنوان من معنى دقيق ومصطلح في علم الحديث؟ أم أنّه لابدّ _ على الأقل _ من تدوين مستدرك حقيقي لنهج البلاغة؟ مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الكتب المشار إليها إن لم يستوعبها مصطلح "المستدرك " فلا يقلّل ذلك شيئاً من أهميتها؟
الشيخ أستادي: لعلّكم تعلمون أنّ بعض العلماء قد اعترض على السيد الرضي (رحمه الله)، مستفهمين عن تقطيعه الأحاديث والخطب والرسائل، أو تجاهله بعضها أحياناً، وقد أبان هؤلاء هذا الإعتراض _ أحياناً _ بلغة حادة ولسان توبيخي.
ومن الجلي أنّه لا ضرورة للاعتراض والتوبيخ هنا، لأنّ كلّ مؤلّف ينظّم مؤلّفاته حسب الهدف الذي يريده، ولم يكن السيد الرضي في صدد تدوين كتاب حديثي بل كان هدفه تقديم كتاب في البلاغة كي يستفيد منه الأدباء، وقد وُفّق إلى حدٍّ كبير في ذلك إضافة إلى جمع مجموعة من النصوص المشتملة على العلوم والمعارف العلويّة، وجميعنا ممنونون له، ويجب أن نشكره، لأنّه حفظ لنا هذه الذخيرة الإلهيّة العظيمة.
أساساً، لا يمكننا أن نقارن زماننا بالأزمنة القديمة، ولا نستطيع أن نحكم على تلك الأزمنة مثلما نحكم على هذا العصر، ففي هذه الأيام نحن في أمسّ الحاجة إلى جميع الأحاديث وأسانيدها، على عكس الحال في العصور التي سلفت، فألئك الذين ألّفوا كتباً مثل "نهج البلاغة" و"تحف العقول" و"الاحتجاج" و"تلخيص الأمالي" عامدين إلى انتخاب الأحاديث وحذف أسانيدها، لم يتوقعّوا بتاتاً مجيء يوم تضيع فيه هذه النسخ والمصادر ويُحرم منها العلماء، ويغدو المحقّقون في مسيس الحاجة إليها حتّى نعترض عليهم.
أمّا مستدرك نهج البلاغة _ وهو عبارة عن جمع أحاديث الإمام علي (عليه السلام) غير الموجودة في نهج البلاغة _ فعمل مفيد جداً، بل لقد أُنجز منه قسم كبير.
والذي يبدو أنّه لابد من فصل نهج البلاغة عن المستدرك، وأن يُوضعا معاً بين يدي الباحثين، كلٌ منهماعلى حدة، لا أن يتداخل أحدهما بالآخر، ويختلط به؛ وذلك لسببين:
الأول: إنّ عبارات نهج البلاغة هي كلام الإمام علي (عليه السلام) نفسه بما يتضمّنه من بلاغة وفصاحة، بينما الكثير من المستدركات لا يوازيه في ذلك، وإنّما هو نقل بالمعنى.
الثاني: من الناحية المنطقيّة لا يوجد وجه للمقارنة بينهما، وذلك لأسباب نترك توضيحها إلى مكانها المناسب.
وينطبق هذا الكلام نفسه على الصحيفة السجّاديّة، فقد دوّنت مستدركات كثيرة منها: الصحيفة الثانية، والصحيفة الثالثة، والصحيفة الرابعة، والصحيفة الخامسة، والصحيفة السادسة، وعلى رأي بعض الباحثين الصحيفة السابعة والثامنة. وطبع أصل الصحيفة السجّاديّة وهذه المستدركات مع الخلط بينهما، وكان هذا من حيث الشموليّة مفيداً جداً، لكنّني سمعت من بعض الأكابر أنّهم ما كانوا يرون مصلحة في ذلك، معتبرين لزوم نشر كل من الصحيفة السجّاديّة ومستدركاتها بشكل منفصل وعلى حدة، والسبب في هذا واضح، إذ لا وجه لمقارنة الصحيفة السجّاديّة بالكثير من أدعية الصحائف الأخرى من حيث المضمون والبلاغة.