17 ذو القعدة 1431 - 25/10/2010
بقلم: د. سامر مؤيد
زخرت أرض الرافدين منذ فجر السلالات بالكثير من الأساطير، وكان لإبداعات العقل العراقي حضور متميز في تحريك عجلة الحضارة الإنسانية. ولم يكن المسرح السياسي وعالمه الواسع ببعيد عن هذه الإبداعات التي لم تتقيد بالتوصيفات النظرية، والجدليات السفسطائية، كما فعل فلاسفة اليونان، بل إنها طالست الواقع وامتزجت به لتعبر بصدق عما يصيبه من إرهاصات، وتستنبط المعالجات لمشاكله. ومن اخترع العجلة والكتابة بالأمس، نجده اليوم يبهر العالم المعاصر بأحدث ابتكاراته وأفردها على وجه البسيطة، عبر ما يمكن تسميته بـ(تسييس الطاقة الكهربائية).
إن هذه النقلة النوعية في التفاعل الحي بين العلوم التقنية والفيزيائية والعلوم الإنسانية، قد أنجبت ظاهرة محوّرة جينياً، مؤداها دمج الطاقة الكهربائية في متاهات السياسة وألعابها القذرة؛ صحيح أن السياسة قد طرقت – عبر تاريخها الطويل – كل الأبواب، وسلكت كل المسالك وبخاصة القذرة منها، بما فيها تسخير الطاقة في لعبة الأمم، لكنها اليوم تعود إلى أرض العراق بإيهاب جديد، ومزايا تظهر على عدة مستويات:
- لقد انفرد المسرح السياسي العراقي بتسخير الطاقة الكهربائية، خلافاً لكل من سبقه من الأمم في التوظيف السياسي لكل مجالات الطاقة.
- كان التوظيف السياسي لهذا الملف الساخن يسير ضمن المنحى السلبي وليس الإيجابي، كما فعلت سائر الأمم.
- جسد هذا الملف، السمة المشتركة الرئيسة، والامتداد الحي بين العراق القديم والعراق الجديد.
وإذا كانت أدبيات الأسطورة تفترض بعض الخصال من الخيال والحبكة والحكمة، فان هذه الخصال قد توافرت في بلورة ملامح الأسطورة الجديدة، فلن يخطر على بال مخلوق، ولن تترامى حدود خياله لتصل حد التوقع: (إن إصلاح المنظومة الكهربائية في العراق – القديم والجديد - قد تمتد أكثر من عشرين سنة، دون أن تصل إلى الضوء في نهاية النفق) ما لم تخف مقاصد سياسية.
وأما عن الحبكة فمداها التواصل والتكامل في الصورة الدرامية التراجيدية بين النظامين الجديد والقديم، لأن قصة هذا الابتكار العراقي قد بدأت أولى فصولها مع نهاية حرب الخليج الثانية (عاصفة الصحراء)، عندما حققت الإدارة الأمريكية وعودها بإرجاع العراق إلى القرون الوسطى. وكان للطاقة الكهربائية حصة الأسد منها، وبذلك أجادت الإدارة الأمريكية توظيف ملف أزمة الطاقة في جلد العراق وحكومته، مثلما أجادت الأخيرة باستخدام أزمة الطاقة لعزف لحن المعاناة التي طالت العراقيين خلف قضبان الحصار، أي بتسويق محنتهم عالمياً لرفع العقوبات الدولية عنها.
وثمة من يمعن في تتبع خيوط المؤامرة عبر الادعاء بأن شرط تجميد ملف الطاقة تمهيدا لخصخصته وإحالته للاستثمارات الأجنبية بعد القضاء على الجهد الحكومي فيه، أدرج ضمن الإطار السري لاتفاقية الخيمة بين الحكومة العراقية والأمريكية عام 1991.
وبكل الأحوال فقد عانى قطاع الكهرباء – شأنه شان القطاعات الأخر – من جفوة الحصار وانقطاع سبل الحياة عنه، وكان ذلك - بصورة أو أخرى - من عائدات السياسة الحمقاء للانظام السابق المقبور أيضا. ومع سقوطه وإطلالة عهدٍ جديد من الديمقراطية، مصحوبٍ بانفتاح على العالم الخارجي، استبشر العراقيون خيراً بالتغيير والانعتاق من ضائقة التدهور في ملف الخدمات، وبخاصة ملف الطاقة الكهربائية؛ غير أن رياح التغيير السياسي الشامل لم تأت بما يشتهي المواطن العراقي؛ وبقي ملف الكهرباء معقوداً بحبائل المرامي السياسية ودهاليزها – وبهذه المرامي تحققت آخر مفاصل الأسطورة الجديدة أي (الحكمة) والتي يمكن إيجازها بالسعي لإعادة هيكلة الاقتصاد العراقي، عبر نقله من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد السوق، مع فتح قنوات لتدفق الاستثمار الأجنبي والأمريكي تحديدا لإدارة مفاصله الحيوية، سبيلا لإخضاعه مستقبلا لتقلبات واملاءات السوق العالمية... وحتى مع انتقال ملف السيادة إلى الحكومات الوطنية العراقية المتعاقبة، لم يشهدْ ملف الخدمات والطاقة الكهربائية تحديدا تطورا ملحوظا أو حتى حراكاً، لوجود متغيرين جديدين ضمن المدى السلبي، أولهما: الفساد المالي والسياسي الذي تفاقم خطره، واستجمع قوته من الانفلات الأمني، والانخراط غير المتوازن في مسيرة إعادة بناء العراق الجديد. وقد زاد في الطين بلة تحصن المفسدين بنفوذ السلطة الفتية.
أما ثانيهما: فمجاله سعي قوى الإرهاب والمعارضة السياسية للضغط على الحكومة، واستغلال إخفاقها في معالجة هذا الملف سبيلا لتحصيل بعض المكاسب السياسية، ولعل هذا ما يفسر ضمناً التصاعد المفاجئ في العمليات الإرهابية ضد خطوط الطاقة، والمظاهرات الشعبية المطالبة بتحسين حال الطاقة، كلما دخلت العملية السياسية بضائقة أو منعطفٍ مهم.
وهكذا كان قدر المواطن العراقي البسيط أن يجني ما يزرعه القادةُ السياسيون على مرّ الحقبِ والدهور؛ ولتضاف إلى مكتبة الأساطير العراقية، أسطورة جديدة نسجتها أناملُ السياسيين في مستهل القرن الحادي والعشرين... والله المستعان على ما يصفون.