25 شوال 1431 - 05/10/2010
إستطلاع : كاظم فنجان الحمامي
يُعد نهر (گرمة علي) اليوم من أكبر أنهار البصرة بعد شط العرب, بل انه صار أعمق منه بكثير, وربما صارت مياهه أعمق من مياه ميناء البصرة النفطي الواقع في خور الخفقة, وأغلب الظن أن معظم سكان شمال البصرة لا يعلمون أن هذا النهر العظيم كان قبل أقل من قرنين من الزمان مجرد ساقية صغيرة متعرجة ضيّقة, يتقافز الأطفال بين جنباتها, ويعبرها الناسُ مشياً على الأقدام من دون عناء, ومن دون حاجة إلى أي قنطرة من تلك القناطر الريفية المصنوعة من جذوع النخيل, لكنها أبت إلا أن تتمددَ وتتسعَ لتصبح نهراً عظيماً متميّزاً بأعماقه السحيقة, وتياراته الجارفة, ومتباهياً بكثرة جسوره وتنوعها, حتى ازدانت ضفافه مع الأيام بجسوره الخشبية القديمة المصنوعة من خشب الساج, وأخرى عائمة, وثالثة ورابعة خرسانية عملاقة, وصارت ضفافه مركزاً للعلوم والفنون والآداب بعد أن اختارته رئاسة جامعة البصرة مستقرا لها، ولأقسامها التخصصية ورياضها الإبداعية, وصار حوضه محطة لأكبر الأكاديميات البحرية في عموم الخليج, وملاذاً لأكبر توربينات توليد الطاقة الكهربائية.
كانت أكتافه مأوى لمدرج أول المطارات الدولية في البصرة, ثم صارت مقترباته ملاذاً لأحدث مدارج مطاراتها المعاصرة, وأصبحت منعطفاته حاضنة وارفة الظلال، لأقدم وأروع فنادقها ومسابحها ومنتجعاتها ونواديها وجزرها.
من كان يصدّق أن الساقية التي أمر بحفرها الشيخ علي السعدون عام 1830, وحملت اسمه, ستصبح نهراً عظيماً يستحوذ على حصة الأسد من مياه الفرات, ومن كان يتخيّل أن هذا النهر سيتمرد في خصاله النهرية والهيدروليكية والتصريفية، ليتآمر على نقطة اقتران دجلة بالفرات في القرنة, فيستبدلها بملتقيات جديدة عند أقدام جزيرة المحمودية (السندباد), ويربط مصيره بمجرى شط البصرة ليختزل المسافة إلى البحر عن طريق خور الزبير, ويتمرّد مرة أخرى ليحاذي مجرى المصب العام, ويجاور نهر (العِزْ), ويلتف حول قرية (حرير), القرية التي ينتسب إليها الأديب البصري الكبير (ذو البلاغتين أبو محمد القاسم بن علي بن محمد الحريري), صاحب المقامات, التي بلغ بها أعلى المقامات, وكان إمامَ عصره في الأدب والنظم والشعر.
(الكرمة) في لهجة جنوب العراق هي الساقية, أو الترعة, أو الجدول الصغير... وشاءت الصدف أن أتلقى رسالة الكترونية من أخي الكبير الكابتن والشيخ فهمي بن حمود السعدون يحدثني فيها عن تاريخ هذه الساقية (الكرمة), التي حفرها جده السادس (علي بن ثامر بن سعدون الكبير), اثناء حصار الزبير عام 1830, ومؤازرته لأمير قبائل المنتفك حينذاك (الشيخ عيسى بن محمد السعدون), وهو ابن شقيق الشيخ علي بن ثامر, فبادر الشيخ علي السعدون بشق ترعة من جنوب غرب هور الحمار إلى شط العرب, لترتوي منها خيول جحافل المنتفك المشاركة في حصار مدينة الزبير, الذي دام لأكثر من ستة أشهر, وشاءت الأقدار أن يُقتل الشيخ علي وأبن أخيه (هزاع بن فارس) في ذلك الحصار, وما أن استسلمت المدينة المحاصرة لحشود المنتفك, حتى اقتحموا قصور المدينة, وقتلوا صبراً ستة من شيوخ عائلة الزهير.