24 ذو الحجة 1434 - 30/10/2013
قال ياقوت الحَمَويّ: بُراثا محلّة كانت في طرف بغداد في قبلة الكرخ وجنوبيّ باب محوّل، وكان لها جامع مفرد تصلّي فيه الشّيعة وقد خُرِّب عن آخره. وقال ياقوت:
وفي سنة 329 هجريّة فُرغ من جامع بُراثا وأُقيمت فيه الخطبة، وكان قبلُ مسجداً يجتمع فيه قومٌ من الشّيعة ( وذكر تهمةً ) فكبسه الراضي بالله وأخذ مَن وجده فيه وحبَسَهم، وهدم الجامع حتّى سوّى به الأرض. وأنهى الشّيعةُ خبره إلى ( بَجْكم الماكاني ) أمير أمراء بغداد، فأمر بإعادة بنائه وتوسيعه وإحكامه، ولم تزل الصلاةُ تُقام فيه إلى بعد الخمسين وأربعمائة هجريّة، ثمّ تعطّلت.
وكانت براثا قبل بناء بغداد قريةً يزعمون أنّ عليّاً مَرّ بها لمّا خرج لقتال الحَروريّة بالنَّهروان، وصلّى في موضعٍ من الجامع المذكور.
ويُنسَب إلى براثا ـ والحديث ما زال للحَمَوي ـ أبو شُعَيب البُراثي العابد، كان أوّلَ مَن سكن براثا في كوخٍ يتعبّد فيه، فمرّت بكوخه جاريةٌ من أبناء الكُتّاب الكبار، وأبناء الدنيا كانت رُبِّيَت في القصور، فنظرت إلى أبي شعيب فاستحسنت حالَه وما كان عليه، فصارت كالأسير له، فجاءت إليه وقالت: أريد أن أكون لك خادمة، فقال لها: إن أردتِ ذلك فتجرّدي عمّا أنتِ فيه حتّى تَصلُحي لما أردتِ. فتجرّدت عن كلّ ما تملكه، ولبست لبسة النسّاك وحَضَرَته، فتزوّجها، فلمّا دخلت الكوخَ رأت قطعةَ خِصافٍ كانت في مجلس أبي شعيب تَقيه من النَّدى، فقالت: ما أنا مُقيمةٌ عندك حتّى تُخرِج ما تحتك؛ لأنّي سمعتُك تقول: إنّ الأرض تقول: يا ابنَ آدم، تجعلُ بيني وبينك حجاباً وأنت غداً في بطني! فرماها أبو شعيب، ومكثت عنده سنينَ يتعبّدان أحسنَ عبادة، وتُوفّيا على ذلك (1).
والمسجد اليوم معروف، يقع في طريق بغداد ـ الكاظمية، مقابل المنطقة المعروفة بـ « العُطَيفيّة »، وهو من المساجد القديمة. كتب الخطيب البغدادي بعد ذكر خبر هدم المسجد: ومكث خراباً إلى سنة 328 هجريّة، فأمر الأمير ( بجكم الماكاني ) بإعادة بنائه وتوسعته وإحكامه، فبُنيَ بالجصّ والآجر وسُقّف بالساج المنقوش، ووسّع فيه ببعض ما يليه ممّا ابتيع له من أملاك الناس. وكان الناس يأتونه للصلاة فيه والتبرك به، ثمّ أمر المتّقي بالله أن يُنصَب منبر فيه. ولم يزل على هذا إلى أن خُرِّبت بغداد سنة 451 هجريّة (2).
وكتب الشيخ المجلسيّ: هذا المسجد الآن موجود، وهو قريب من وسط الطريق مِن بغداد إلى مشهد الكاظمين عليهما السّلام. ويُستحبّ الصلاة وطلب الحوائج فيه.. قال الشهيد رحمه الله في الذكرى: ومِن المساجد الشريفة مسجد بُراثا في غربيّ بغداد، وهو باقٍ إلى الآن، رأيتُه وصلّيت فيه (3).
كما كتب الشيخ عبّاس القمّي: وهذا المسجد الشريف في زماننا باقٍ، وقد صلّيتُ فيه مراراً (4).
أجل.. وهو اليوم أكثر عمراناً وروّاداً، تُقام فيه صلوات الجماعة والجمعة، وتُحفَظ فيه آثارٌ تاريخيّة مهمّة ومباركة.
الأصول
حدّث أنس بن مالك قال: لمّا رجع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب من قتال أهل النهروان نزل براثا، وكان بها راهب اسمه « الحبّاب »، فلمّا سمع الراهبُ الصيحة والعسكر أشرف من قلايته إلى الأرض، فنظر إلى عسكر أمير المومنين عليه السّلام، فاستفظع ذلك فنزل مبادراً فقال: مَن هذا ؟! ومَن رئيسُ هذا العسكر ؟! فقيل له: هذا أمير المؤمنين وقد رجع من قتال أهل النهروان.
فجاء الحبّاب مبادراً يتخطّى الناسَ حتّى وقف على أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: السّلام عليك يا أمير المؤمنين حقّاً حقّاً. فقال: وما علمُك بأنّي أمير المؤمنين حقّاً حقّاً ؟! قال: بذلك أخَبَرنا علماؤُنا وأحبارنا، فقال له: يا حبّاب! فقال الراهب: وما علمُك باسمي ؟! فقال: أعلَمَني بذلك حبيبي رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال له الحبّاب: مُدَّ يَدَك؛ فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وأنّك عليُّ بن أبي طالب وصيّه.
فقال أمير المؤمنين: وأين تأوي ؟ فقال: أكون في قلايةٍ لي ها هنا، فقال له: بعد يومك هذا لا تَسكُنْ فيها، ولكن ابنِ ها هنا مسجداً وسَمِّهِ باسم بانيه. ( فبناه رجلٌ اسمه بُراثا، فسُمّي المسجد براثا باسم الباني له ).
ثمّ قال: ومِن أين تشرب يا حبّاب ؟ فقال: يا أمير المؤمنين مِن دجلة ها هنا، قال: فلِمَ لا تحفر ها هنا عيناً أو بئراً ؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، كلّما حَفَرنا بئراً وجدناها مالحةً غير عذبة، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: احفُرْ ها هنا بئراً.
فحفر.. فخرجت عليهم صخرة لم يستطيعوا قَلْعَها، فقَلَعَها أمير المؤمنين عليه السّلام فانقَلَعَت عن عينٍ أحلى من الشَّهْد وألذّ من الزُّبد، فقال له: يا حبّاب، يكون شربك مِن هذه العين، أمَا إنّه ـ يا حبّابُ ـ ستُبنى إلى جَنب مسجدك هذا مدينةٌ ( أي مدينة بغداد ) وتكثر الجبابرة فيها ويَعْظُم البلاء! (5)
وفي رواية الشيخ الطوسيّ: أنّ الراهب قال لأمير المؤمنين عليه السّلام: لا تَنزِلْ هذه الأرض بجيشك، قال: ولِمَ ؟! قال: لأنه لا ينزلها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ بجيشه يقاتل في سبيل الله عزّوجلّ، هكذا نجد في كتبنا. فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: أنا ذلك.
فنزل الراهب إليه فقال: خُذْ علَيّ شرايع الإسلام، إنّي وجدتُ في الإنجيل نَعتَك وأنّك تنزل أرض براثا بيت مريم وأرضَ عيسى عليهما السّلام. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: قِفْ ولا تُخبِرْنا بشيء.
ثمّ أتى موضعاً فقال: الكُزوا هذا. فلكَزَه برِجْله عليه السّلام فانبجَسَتْ عينٌ خَرّارة، فقال: هذه عينُ مريم التي أُنبِعَت لها. ثمّ قال: اكشفوا ها هنا على سبعة عشر ذراعاً. فكُشِف، فإذا بصخرةٍ بيضاء، فقال عليه السّلام: على هذه وَضَعَت مريمُ عيسى من عاتقها وصَلَّت ها هنا.
فنصب أميرُ المؤمنين عليه السّلام الصخرةَ وصلّى إليها، وأقام هناك أربعة أيّام يُتمّ الصلاة،.. ثمّ قال: أرض براثا، هذا بيت مريم عليها السّلام، هذا الموضع المقدّس صلّى فيه الأنبياء.
قال أبو جعفر محمّد بن عليّ ( الباقر ) عليه السّلام: ولقد وجدنا أنّه صلّى فيه إبراهيم قبل عيسى عليهما السّلام (6).
وفي رواية.. أنّ الراهب قال: قرأتُ أنّه يُصلّي في هذا الموضع ( إيليا ) ـ أي عليّ سلام الله عليه ـ وصيّ البارْقليطا ( محمّد ) نبيّ الأميّين الخاتِم لِما سبقه من أنبياء الله ورسله، في كلام كثير، فمَن أدركه فليتّبعِ النورَ الذي جاء به، ألا وإنّه يُغرَس في آخر الأيّام بهذه البقعة شجرةٌ لا يَفسُد ثمرتها (7).
وعن جابر بن عبدالله الأنصاري، أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام سأل الدَّيراني الذي كان في مسجد براثا وأسلم على يديه: مَن صلّى ها هنا ؟!
قال: صلّى عيسى بن مريم عليه السّلام وأمُّه، فقال له عليّ: أفأُخبِرُك مَن صلّى ها هنا ؟ قال نعم، قال: الخليل عليه السّلام (8).