24 رمضان المبارك 1437 - 30/06/2016
بحث في موقف فاطمة الزهراء من دعوى أبي بكر أنه سمع رسول الله يقول نحن معاشر الأنبياء لا نورث
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد ص 331، 336:
فصل: ومن حكايات الشيخ وكلامه قال الشيخ أيده الله: حضرت مجلسا لبعض الرؤساء وكان فيه جمع كثير من المتكلمين والفقهاء فألفيت أبا الحسن علي بن عيسى الرماني يكلم رجلا من الشيعة يعرف بأبي الصقر الموصلي في شيء يتعلق بالحكم في فدك ووجدته قد انتهى في كلامه إلى أن قال له: قد علمنا باضطرار أن أبا بكر قال لفاطمة عليها السلام عند مطالبتها له بالميراث: "سمعت رسول الله يقول نحن معاشر الأنبياء لا نورث" فسلمت عليها السلام لقوله ولم ترده عليه، وليس يجوز على فاطمة عليها السلام أن تصبر على المنكر وتترك المعروف وتسلم للباطل لاسيما وأنتم تقولون إن عليا عليه السلام كان حاضرا للمجلس، ولا شك أن جماعة من المسلمين حضروه واتصل خبره بالباقين فلم ينكره أحد من الأمة ولا علمنا أن أحدا رد على أبي بكر وأكذبه في الخبر، فلولا أنه كان محقا فيما رواه من ذلك لما سلمت الجماعة له ذلك.
فاعترضه الرجل الإمامي بما روي عن فاطمة عليها السلام من ردها عليه وإنكارها لروايته وخطبتها في ذلك واستشهادها على بطلان خبره بظاهر القرآن وأورد كلاما في هذا المعنى على حسب ما يقتضيه واتسعت له الحال.
فقال علي بن عيسى: هذا الذي ذكرته شيء تختص أنت وأصحابك به، والذي ذكرته من الحكم عليها شيء عليه الإجماع وبه حاصل علم الاضطرار فلو كان ما تدعونه من خلافه حقا، لارتفع معه الخلاف وحصل عليه الإجماع كما حصل على ما ذكرت لك من رواية أبي بكر وحكمه، فلما لم يكن الأمر كذلك دل على بطلانه. فكلمه الإمامي بكلام لم أرتضه، وتكرر منهما جميعا، فأشار صاحب المجلس إلي لآخذ الكلام فأحس بذلك علي بن عيسى فقال لي: إنني قد جعلت على نفسي أن لا أتكلم في مسالة واحدة مع نفسين في مجلس واحد فأمسكت عنه وتركته حتى انقطع الكلام بينه وبين الرجل. ثم قلت له: خبرني عن المختلف فيه هل يدل الاختلاف على بطلانه؟ فظن أنني أريد شيئا غير المسالة الماضية وأنني لا أكسر شرطه فقال: لست أدري أي شيء تريد بهذا الكلام فأبن لي عن غرضك لأتكلم عليه، فقلت له: لم آتك بكلام مشكل ولا خاطبتك بغير العربية، وغرضي في نفس هذا السؤال مفهوم لكل ذي سمع من العرب إذا أصغى إليه ولم يله عنه، اللهم إلا أن تريد أن أبين لك عن غرضي فيما أجري بهذه المسألة إليه فلست أفعل ذلك بأول وهلة إلا أن تلزمني في حكم النظر، والذي استخبرتك عنه معروف صحته وأنا أكرره: أتقول إن الشيء إذا اختلف العقلاء في وجوده أو صحته وفساده كان اختلافهم دليلا على بطلانه، أو قد يكون حقا وإن اختلفت العقلاء فيه؟ فقال: ليس يكون الشيء باطلا من حيث اختلف الناس فيه ولا يذهب إلى ذلك عاقل.
فقلت له: فما أنكرت الآن أن تكون فاطمة عليها السلام قد أنكرت على أبي بكر حكمه، وردت عليه في خبره، واحتجت عليه في بطلان قضائه، واستشهدت بالقرآن على ما جاء الأثر به ولا يجب أن يقع الاتفاق على ذلك وإن كان حقا ولا يكون الخلاف فيه علامة على كذب مدعيه بل قد يكون صدقا وإن اختلف فيه على ما أعطيت في الفتيا التي قررناك عليها.
فقال: أنا لا أعتمد على ما سمعت مني من الكلام مع الرجل على الاختلاف فيما ادعاه إلا بعد أن قدمت معه مقدمات لم تحصرها، والذي أعتمد عليه الآن معك أن الذي يدل على صدق أبي بكر فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله من أنه لا يورث وصوابه فيما حكم به، ما جاء به الخبر عن علي عليه السلام أنه قال: "ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته ولقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر" فلو لم يكن عنده صادقا أمينا عادلا، لما عدل عن استحلافه ولا صدقه في روايته ولا ميز بينه وبين الكافة في خبره، وهذا يدل على أن ما يدعونه على أبي بكر من تخرص الخبر فاسد محال.
فقلت له: أول ما في هذا الباب أنك قد تركت الاعتلال الذي اعتمدته بدئا ورغبت عنه بعد أن كنت راغبا فيه وأحلتنا على شيء لا نعرفه ولا سمعناه وإنما بينا الكلام على الاعتلال الذي حضرناه ولسنا نشاحك في هذا الباب لكنا نكلمك على ما استأنفته من الكلام.
أنت تعلم وكل عاقل عرف المذاهب وسمع الأخبار، أن الشيعة لا تروي هذا الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام ولا تصححه بل تشهد بفساده وكذب رواته، وإنما يرويه آحاد من العامة ويسلمه من دان بإمامة أبي بكر خاصة، فإن لزم الشيعة أمر بحديث تفرد به خصومهم لزم المخالفين ما تفردت الشيعة بروايته، وهذا على شرط الإنصاف وحقيقة النظر والعدل فيه فيجب أن تصير إلى اعتقاد ضلالة كل من روت الشيعة عن النبي صلى الله عليه وآله وعن علي والأئمة من ذريته عليهم السلام ما يوجب ضلالتهم، فإن لم تقبل ذلك ولم تلتزمه لتفرد القوم بنقله دونك فكيف استجزت إلزامهم الإقرار برواية ما تفردت به دونهم لولا التحكم دون الإنصاف.
على أن أقرب الأمور في هذا الكلام أن تتكافأ الروايات ولا يلزم أحد الفريقين منهما إلا ما حصل عليه الإجماع أو يضم إليه دليل يقوم مقام الإجماع في الحجة والبيان، وفي هذا إسقاط الاحتجاج بالخبر من أصله. مع أني أسلمه لك تسليم جدل وأبين لك أنك لم توف الدليل حقه ولا اعتمدت على برهان، وذلك أنه ليس من شرط الكاذب في خبر أن يكون كاذبا في جميع الأخبار، ولا من شرط من صدق في شيء أن يصدق في كل الأخبار وقد وجدنا اليهود والنصارى والملحدين يكذبون في أشياء ويصدقون في غيرها، فلا يجب لصدقهم فيما صدقوا فيه أن نصدقهم فيما كذبوا فيه، ولا نكذبهم فيما صدقوا لأجل كذبهم في الأمور الأخر ولا نعلم أن أحدا من العقلاء جعل التصديق لزيد في مقالة واحدة دليلا على صدقه في كل أخباره.
وإذا كان ذلك كذلك فما أنكرت أن يكون الرجل مخطئا فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله في الميراث وأن أمير المؤمنين عليه السلام قد صدقه فيما رواه من الحديث الذي لم يستحلفه فيه، فيكون وجه تصديقه له وعلة ذلك أنه عليه السلام شاركه في سماعه من النبي صلى الله عليه وآله فكان حفظه له عنه يغنيه عن استحلافه، ويدله على صدقه فيما أخبر به ولا يكون ذلك من حيث التعديل له والحكم على ظاهره. على أن الذي رواه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وآله يدل على صحته العقل ويشهد بصوابه القرآن فكان تصديق أمير المؤمنين عليه السلام له من حيث العقل والقرآن لا من جهة روايته هو عن النبي صلى الله عليه وآله ولا لحسن ظاهر له على ما قدمناه. وذلك أن الخبر الذي رواه أبو بكر هو أن قال: سمعت رسول الله يقول: "ما من عبد يذنب ذنبا فيندم عليه ويخرج إلى صحراء فلاة فيصلي ركعتين ثم يعترف به ويستغفر الله عز وجل فيه إلا غفر الله له" وهذا شيء قد نطق به القران، قال الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} والعقل يدل على قبول التوبة. وإذا كان الأمر على ما وصفناه بطل ما تعلقت به وكان ذكره لأبي بكر خاصة لانه لم يحدثه بحديث غير هذا، فصدقه لما ذكرناه وأخبر عن تصديقه بما وصفناه، ولم يكن ذلك لتعديله على ما ظننت، ولا لتصويبه في الأحكام كلها على ما قدمت بما شرحناه.
فقال عند سماع هذا الكلام: أنا لم أعتمد في عدالة أبي بكر وصحة حكمه على الخبر وإنما جعلته توطئة للاعتماد فطولت الكلام فيه وأطنبت في معناه، والذي أعتمده في هذا الباب أني وجدت أمير المؤمنين عليه السلام قد بايع أبا بكر وأخذ عطاءه وصلى خلفه ولم ينكر عليه بيد ولا لسان، فلو كان أبو بكر ظالما لفاطمة عليها السلام، لما جاز أن يرضى به أمير المؤمنين عليه السلام إماما ينتهي في طاعته إلى ما وصفت.
فقلت له: هذا انتقال ثان بعد انتقال أول وتدارك فائت وتلافي فارط وتذكر ما كان منسيا، وإن عملنا على هذه المجازفة انقطع المجلس بنشر المسائل والتنقل فيها والتحيز وخرج الأمر عن حده وصار مجلس مذاكرة دون تحقيق جدل ومناظرة، وأنت لا تزال تعتذر في كل دفعة عندما يظهر من وهن متعمداتك بأنك لم تردها ولكنك وطأت بها، فخبرني الآن هل هذا الذي ذكرته أخيرا هو توطئة أو عماد؟ فإن كان توطئة عدلنا عن الكلام فيه وسألناك عن المعتمد، وإن كان أصلا لألممناك عليه.
مع أني لست أفهم منك معنى التوطئة لأن كل كلام اعتل به معتل ففسد فقد انهدم ما بناه عليه ووضح فساد ما بينه إن بناه عليه، فاعتذارك في فساد ما تقدم ما بناه توطئة لا معنى له. ولكننا نتجاوز هذا الباب ونقول لك: ما أنكرت على من قال لك إن ما ادعيته من أن أمير المؤمنين عليه السلام بايع الرجل دعوى عرية عن برهان ولا فرق بينها وبين قولك إنه كان مصيبا فيما حكم به على فاطمة عليها السلام فدل على أن أمير المؤمنين عليه السلام قد بايع على ما ادعيت ثم ابن عليه، فإما أن تعتمد على الدعوى المحضة فإنها تضر ولا تنفع، وقولك إنه عليه السلام صلى خلف الرجل، فإن كنت تريد أنه صلى متأخرا عن مقامه فلسنا ننكر ذلك وليس فيه دلالة على رضاه به، وإن أردت أنه صلى مقتديا به ومؤتما فما الدليل على ذلك فإنا نخالفك فيه وعنه ندفعك، وهذه دعوى كالأولى تضر من اعتمد عليها أيضا ولا تنفع.
وأما قولك إنه أخذ العطاء فالأمر كما وصفت، ولكن لم زعمت أن في ذلك دلالة على رضاه بإمامته والتسليم له في حكمه، أو ليس تعلم أن خصومك يقولون في ذلك إنه أخذ بعض حقه ولم يكن يحل له الامتناع من أخذه لان في ذلك تضييعا لماله وقد نهى الله تعالى عن التضييع وأكل الأموال بالباطل.
وبعد فما الفصل بينك وبين من جعل هذا الذي اعتمدت عليه بعينه حجة في إمامة معاوية، فقال: وجدت الحسن والحسن و عبد الله بن عباس و عبد الله بن جعفر وغيرهم من المهاجرين والأنصار قد بايعوا معاوية بن أبي سفيان بعد صلح الحسن عليه السلام وأخذوا منه العطاء وصلوا خلفه الفرائض ولم ينكروا عليه بيد ولا لسان فكل ما جعلته إسقاطا لهذا الاعتماد فهو بعينه دليل على فساد ما اعتمدته حذو النعل بالنعل، فلم يأت بشيء تجب حكايته.