27 رجب 1432 - 29/06/2011
لقد اختار الله تعالى أنبياءه وأوصياءهم من أهل البيوتات والشرف، ومن ذوي الأصالة والعراقة، ومن أُولي الكفاءات والمروءة، فاختار خاتم أنبيائه من صميم العرب، ومن لبابة قريش، ومن سلالة هاشم: سادة البطحاء، وقادة الحجاز، وكبراء مكّة وأعيانها.
كما اختار أوصياء نبيّه الخاتم من أقرب قربى الرسول، ومن ذروة ذويه، ومن خاصّة أهل بيته: علي وفاطمة وأبنائهما الأئمّة الأحد عشر، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وكذلك فعل حين اختار أولياءه وأوتاده في الأرض، وانتخب فقهاء دينه ومراجع حلاله وحرامه من بين الناس.
ففي الحديث الشريف المروي عن الإمام أبي محمّد العسكري سلام الله عليه عن الإمام الصادق سلام الله عليه إمام الفقه والأُصول، ورائد النهضة العلمية والفقهية، وقائد الثورة الفكرية والثقافية، ابن رسول الله ووصيّه السادس، جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين سلام الله عليهم: «من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه (على هواه)، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه»(1).
وفي التوقيع المنيف، الصادر من الناحية المقدّسة، على ساكنها آلاف التحية والثناء، والممضى بيمين من بيُمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء، إمام الخلق، ومهدي الأُمم، ومحيي الأرض بالعدل والقسط بعد موتها بالظلم والجور، ابن رسول الله ووصيّه الثاني عشر، الحجّة بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين سلام الله عليهم: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله»(2).
ومن هؤلاء الفقهاء المراجع، صاحب السماحة، آية الله العظمى، الحاج السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظلّه الوارف، فإنّ سماحته بعد أن أكمل دروسه الحوزوية عند فطاحل العلماء والمجتهدين ونال ملكة الاجتهاد، وحصل على قدرة الاستنباط، واصل مسيرته العلمية، واستمرّ في طريق الاستفادة والإفادة، وبدأ بتدريس بحوث الخارج، وذلك منذ ما يقارب من ثلاثين سنة.
وألقى على تلاميذه دروساً استدلالية قيّمة،منها: دورة كاملة في الأُصول، تميّزت بنظراته الأُصولية ، وبابتكاراته العلمية المتقنة، بانطباع مبانيه بعرفية صريحة وواضحة، واتّسمت مباحثه حولها بوسام المحاورات العرفية الرائجة بين المتحاورين من أهل اللسان واللغة، ممّا جعلت أُصوله أُصولاً يمتاز بكونه قابلاً للتطبيق في الفقه، جاهزاً لأن يكون بمنزلة كبرى يضمّ صغريات المسائل الشرعية المستنبطة من أدلّتها، وماثلاً لإعداد القواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلّتها التفصيلية: من الكتاب الحكيم والسنّة الشريفة، التي جاءت تكلّم الناس بلسانهم، وتحاورهم بما تعارف لديهم، وبذلك لم يكن من قبيل الأُصول التي قيل عنها: (بنوا في الأُصول ما لم يلتزموا به في الفقه) ، فجاءت حصيلة تلك الدورة ما انتشر من كتابه في الأُصول، المعروف باسم: (بيان الأُصول).
ومن دروسه الاستدلالية : دورة كاملة في بحث الاجتهاد والتقليد من كتاب العروة الوثقى، وذلك بعد أن كتب سماحته شرحاً استدلالياً مسهباً وعلمياً وافياً، حول الاجتهاد والتقليد من الكتاب نفسه، وقد طبع بمطبعة دار الصادق ببيروت في أكثر من سبعمائة صفحة وقبل أكثر من خمس و عشرين عاماً.
فجاءت هذه الدورة من دروس سماحته في بحث الخارج - بعد تأليفه فيها وتجديد النظر لها - والتي ألقاها على تلاميذه في قم المقدّسة، متميّزة بميّزات منها: إنّها كانت دورة فقهية أُصولية معاً وفي وقت واحد، حيث جمع سماحته في البحث فيها بين العِلمين، ومزج عند الحديث حولها بين مباني الأُصول والفقه، وتكلّم في مسائلها على ضوء كلا المبنيين، ولذلك جاءت هذه الدورة الفقهية الأُصولية في الاجتهاد والتقليد كأُختها في دورة الأُصول، كاملة و متقنة ووافية.
نعم، تشتمل هذه الدورة الفقهية الأُصولية مباحث فقهية دقيقة، فقد تعرّض سماحته لذكر مسائل الاجتهاد والتقليد المذكورة في العروة مسألة مسألة، وذلك بذكر مفرداتها وتبيين غوامضها أوّلاً، فيما إذا كان فيها غموض يتطلّب التبيين والتوضيح لغة أو اصطلاحاً، ثمّ بذكر محتملات المسألة والأقوال فيها، ثمّ الاستدلال لها وعليها، ثمّ نقد تلك الأقوال والأدلّة وتقييمها، ثمّ الخروج عن المسألة بمختاره فيها.
كما تجمع هذه الدورة إلى جانب المباحث الفقهية مطالب أُصولية أيضاً، متوّجة بالعرفية والسلاسة التي اتّسمت بها محاورات أهل العرف واللسان، وفي طليعتها آيات الكتاب الحكيم، وروايات السنّة الشريفة، قال الله تعالى: «وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبيّن لهم»(3).
فقد يطرح سماحته مطلباً أُصولياً مناسباً للمسألة ممّا يتطلّبه البحث ويستلزمه، فيحوم حوله وحول حجّيته نقضاً وإبراماً، وإشكالاً وجواباً، ويخرج منه برأي ونظر سديد، ويدعمه بالأمثلة العرفية، والنظائر التحاورية الرائجة والمتداولة بين أهل العرف واللسان، فيكون ما خرج به قريباً من العرف، قريباً من المحاورات العرفية لأهل اللسان واللغة، قابلاً للانطباق على الأحكام الفرعية في الفقه.
وكذلك تكتنف هذه الدورة بين طيّاتها مضافاً إلى المباحث الأُصولية والمطالب الفقهية مسائل درائية تتمخّض تلك المسائل عن تصحيح إسناد كثير من روايات الأحكام، وأحاديث الحلال والحرام، وتنتهي الى تعديل جمهرة عظيمة من الرواة ونقلة الحديث، من أمثال عمر بن حنظلة، وأبي خديجة وغيرهما.
نعم أصبحت هذه دورة فقهية أُصولية درائية بدأ سماحته تدريسها وإلقاءها على مسامع تلاميذه في قم المقدّسة بعد إكماله الدورة الأُصولية الأُولى التي أصبحت تعرف باسم: (بيان الأُصول) وأنهى الدورة الفقهية بنهاية العام الدراسي الماضي للحوزة العلمية في قم المقدّسة، أعني: سنة الف وأربعمائة وأربع وعشرين من الهجرة النبوية الشريفة، على هاجرها آلاف التحية والسلام، وكانت حصيلة هذه الدورة المذكورة أربعة مجلّدات باسم: (بيان الفقه) شرح العروة الوثقى: الاجتهاد والتقليد.
وفي السنة الدراسية الجديدة للحوزة العلمية في قم المقدّسة، وهي سنة ألف وأربعمائة وخمس وعشرين هجرية، بدأ سماحته درسه الخارج بكتاب آخر من كتب العروة الوثقى، وهو: كتاب الخمس، نترك الكلام حوله، والتفصيل عنه إلى بحث قادم وعدد جديد إن شاء الله تعالى.