24 رمضان المبارك 1437 - 30/06/2016
في مناقشة وجوه الحديث نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة
- حديث نحن معاشر الأنبياء - الشيخ المفيد ص 19:
بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ المفيد رضي الله عنه: إذا سلم للخصوم ما ادعوه على النبي صلى الله عليه وآله من قوله: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)، كان محمولا على
على ان الذي تركه الانبياء عليهم السلام صدقة، فإنه لا يورث، ولم يكن محمولا على ان ما خلفوه من أملاكهم فهو صدقة لغير هم لا يورث.
والحجة على ذلك أن التأويل الأول موافق لعموم القرآن وتأويل الناصبة مانع من العموم، وما يوافق ظاهر القرآن أولى بالحق مما خالفه. فإن قالوا: هذا لا يصح، وذلك لان كل شيء تركه الخلق بأجمعهم صدقة وكان من صدقاتهم لم يورث ولم يصح ميراثه فلا يكون حينئذ لتخصيص الأنبياء عليهم السلام بذكره فائدة معقولة. قيل لهم: ليس الأمر كما ذكرتم، وذلك أن الشيء قد يعم بتخصيص البعض للتحقيق به أنهم أولى الناس بالعمل بمعناه وألزم الخلق له، وإن كان دينا لمن سواهم من المكلفين، قال الله عزوجل: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} وان كان منذرا لجميع العقلاء. وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ} وان كان قد يعمرها الكفار ومن هو بخلاف هذه الصفة. وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وان كان في الكفار من إذا ذكر الله وجل قلبه وخاف، وفي المؤمنين من يسمع ذكر الله وهو مسرور بنعم الله أو مشغول بضرب من المباح، فلا يلحقه في الحال وجل ولا يعتريه خوف. وهذا محسوس معروف بالعادات وهو كقول القائل: نحن معاشر المسلمين لا نقر على منكر، وإن كان أهل الملل من غيرهم لا يقرون على ما يرونه من المنكرات، وفي المسلمين من يقر على منكر يعتقد صوابه بالشبهات. وكقول فقيه من الفقهاء: نحن معاشر الفقهاء لا نرى قبول شهادة الفاسقين، وقد ترى ذلك جماعة ممن ليس من الفقهاء. وكقول القائل: نحن معاشر القراء لا نستجيز خيانة الظالمين، وقد يدخل معهم من يحرم ذلك من غير القراء من العدول والفاسقين، وأمثال هذا في القول المعتاد كثير. وإنما المعنى في التخصيص به التحقيق بمعناه، والتقدم فيه، وأنهم قدوة لمن سواهم، وأئمتهم في العمل نحو ما ذكرناه. ووجه آخر وهو أنه يحتمل أن يكون قوله عليه وآله السلام -إن صح عنه- انه قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه. صدقة لا يورث) أي لا يستحقه أحد من أولادنا وأقربائنا وإن صاروا إلى حال الفقراء التي من صار إليها من غيرهم حلت لهم صدقات أهليهم، لان الله تعالى حرم الصدقة على أولاد الأنبياء وأقاربهم تعظيما لهم ورفعا لأقدارهم عن الإدناس، وليس ذلك في من سواهم من الناس لان غير الأنبياء عليهم السلام إذا تركوا صدقات ووقوفا ووصايا للفقراء من سائر الناس فصار أولادهم وأقاربهم من بعدهم إلى حال الفقر كان لهم فيها حقوق أوكد من حقوق غيرهم من الأباعد. فمنع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ذريته وأهل بيته من نيل ما تركه من صدقاته وإن افتقروا وخرجوا من حال الغنى، وكان المعنى في قوله (لا نورث) أي لا يصير من بعدنا إلى ورثتنا على حال، وهذا معروف في انتقال الأشياء من الأموات إلى الأحياء، والوصف له بأنه ميراث وان لم يوجد من جهة الإرث. قال الله عز وجل: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ}.
فصل: وقد تعلق بعضهم بلفظ آخر في هذا الخبر فقال: إن النبي صلى الله عليه وآله قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه هو صدقة) وهذا أيضا لا يصح. فالوجه فيه: أن الذي تركناه من حقوقتا وديوننا فلم نطالب في حياتنا ونستنجزه قبل مماتنا فهو صدقة على من هو في يده من بعد موتنا وليس يجوز لورثتنا أن يتعرضوا لتمليكه فانا قد عفونا لمن هو في يده عنه بتركنا قبضه منه في حياتنا، وليس معناه ما تأوله الخصوم.
والدليل على ذلك: أن الذي ذكرناه فيه موافق لعموم القرآن وظاهره. وما ادعاه المخالف دافع لعموم القرآن ومخالف لظاهره، وحمل السنة على وفاق العموم أولى من حمله على خلاف ذلك والله ولي التوفيق والحمد لله رب العالمين وصلواته على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.
تكميل:
وبعد تمام هذه الرسالة الثمينة ننقل بعض كلمات الأعلام حول هذا الحديث تتميما للفائدة وتبيينا للحق. اللهم أرنا الحق حقا حتى نتبعه وارنا الباطل باطلا حتى نجتنبه.
قال القرطبي في تفسيره: ويحتمل قوله عليه السلام: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث) أن يريد أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم وان كان فيهم من ورث ماله كزكريا على أشهر الأقوال فيه. وهذا كما تقول: إنا معاشر المسلمين إنما شغلتنا العبادة، والمراد أن ذلك فعل الأكثر، ومنه ما حكى سيبويه: إنا معاشر العرب أقرى الناس للضيف.
قال الفخر الرازي في تفسير الآية 11 من سورة النساء: الموضع الرابع من تخصيصات هذه الآية ما هو مذهب أكثر المجتهدين أن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون، والشيعة خالفوا فيه. روي أن فاطمة عليها السلام لما طلبت الميراث ومنعوها منه، احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) فعند هذا احتجت فاطمة عليها السلام بعموم قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} وكأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيص بخبر واحد.
ثم إن الشيعة قالوا: بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر واحد إلا أنه غير جائز ههنا، وبيانه من ثلاثة أوجه: احدها: انه على خلاف قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} وقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} قالوا ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والذين لان ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة، بل يكون كسبا جديدا مبتدأ، إنما التوريث لا يتحقق إلا في المال على سبيل الحقيقة.
وثانيها: أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلا فاطمة وعلي والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الذين، وأما أبو بكر فانه ما كان محتاجا إلى معرفة هذه المسألة البتة، لأنه ما كان ممن يخطر بباله انه يرث من الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يليق بالرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا جاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة؟.
وثالثها: يحتمل أن قوله (ما تركناه صدقة صلة) (لا نورث) والتقدير: أن الشيء الذي تركناه صدقة، فذلك الشيء لا يورث فان قيل: فعلى هذا التقدير لا يبقى للرسول خاصية في ذلك. قلنا: بل تبقى الخاصية لا حتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدق بشيء فبمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم، وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم.
قال العلامة الحلي رحمه الله: إن أبا بكر منع فاطمة إرثها فقالت: يا ابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي!! واحتج عليها برواية تفرد هو بها عن جميع المسلمين، مع قلة رواياته وقلة علمه، وكونه الغريم لان الصدقة تحل عليه. فقال لها: إن النبي قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)، والقرآن مخالف لذلك فإن صريحه يقتضي دخول النبي صلى الله عليه وآله فيه بقوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}. وقد نص على أن الأنبياء يورثون، فقال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}. وقال عن زكريا: {إِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}، وناقض فعله أيضا هذه الرواية، لان أمير المؤمنين والعباس، اختلفا في بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسيفه وعمامته وحكم بها ميراثا لأمير المؤمنين، ولو كانت صدقة لما حلت على علي عليه السلام، وكان يجب على أبي بكر انتزاعها منه، ولكان أهل البيت الذين حكى الله تعالى عنهم بأنه طهرهم تطهيرا مرتكبين ما لا يجوز، نعوذ بالله من هذه المقالات الردية والاعتقادات الفاسدة. وأخذ فدكا من فاطمة وقد وهبها إياها رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يصدقها، مع أن الله قد طهرها وزكاها واستعان بها النبي صلى الله عليه وآله في الدعاء على الكفار على ما حكى الله تعالى وأمره بذلك فقال تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} فكيف يأمره الله تعالى بالاستعانة -وهو سيد المرسلين- بابنته وهي كاذبة في دعواها غاصبة لمال غيرها نعوذ بالله من ذلك فجاءت بأمير المؤمنين عليه السلام فشهد لها فلم يقبل شهادته، قال: إنه يجر إلى نفسه، وهذا من قلة معرفته بالأحكام، ومع أن الله تعالى قد نص في آية المباهلة أنه نفس رسول الله صلى الله عليه وآله فكيف يليق بمن هو بهذه المنزلة واستعان به رسول الله صلى الله عليه وآله بأمر الله في الدعاء يوم المباهلة أن يشهد بالباطل ويكذب ويغصب المسلمين أموالهم نعوذ بالله من هذه المقالة.
وشهد لها الحسنان عليهما السلام فرد شهادتهما وقال: هذان ابناك لا أقبل شهادتهما لأنهما يجران نفعا بشهادتهما، وهذا من قلة معرفته بالأحكام أيضا، مع أن الله قد أمر النبي صلى الله عليه وآله بالاستعانة بدعائهما يوم المباهلة فقال: {أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ}. وحكم رسول الله صلى الله عليه وآله بأنهما سيدا شباب أهل الجنة، فكيف يجامع هذا شهادتهما بالزور والكذب وغصب المسلمين حقهم نعوذ بالله من ذلك. ثم جاءت بأم أيمن فقال: إمرأة لا يقبل قولها مع أن النبي صلى الله عليه وآله قال: >أم أيمن من أهل الجنة<، فعند ذلك غضبت عليه وعلى صاحبه وحلفت أن لا تكلمه ولا صاحبه، حتى تلقى أباها وتشكو إليه فلما حضرتها الوفاة أوصت أن تدفن ليلا ولا يدع أحدا منهم يصلي عليها. وقد رووا جميعا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: "إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك".
قال العلامة الأميني في الغدير: لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله قال ذلك (أي حديث نحن معاشر...) لوجب أن يفشيه إلى آله وذويه الذين يدعون الوراثة منه ليقطع معاذيرهم في ذلك بالتمسك بعمومات الإرث من آي القرآن الكريم والسنة الشريفة، فلا يكون هناك صخب وحوار تتعقبهما محن، ولا تموت بضعته الطاهرة وهي واجدة على أصحاب أبيها ويكون ذلك كله مثارا للبغضاء والعداء في الأجيال المتعاقبة بين أشياع كل من الفريقين، وقد بعث هو صلى الله عليه وآله لكسح تلكم المعرات وعقد الإخاء بين الأمم والأفراد. ألم يكن صلى الله عليه وآله وسلم على بصيرة مما يحدث بعده من الفتن الناشئة من عدم إيقاف أهله وذويه على هذا الحكم المختص به صلى الله عليه وآله وسلم المخصص لشرعة الإرث؟ حاشاه. وعنده علم المنايا والبلايا والقضايا والفتن والملاحم. وهل ترى أن دعوى الصديق الأكبر أمير المؤمنين وحليلته الصديقة الكبرى صلوات الله عليهما وآلهما على أبي بكر ما استولت عليه يده مما تركه النبي صلى الله عليه وآله من ماله كانت بعد علم وتصديق منهما بتلك السنة المزعومة صفحا منهما عنها لاقتناء حطام الدنيا؟ أو كانت عن جهل منهما بما جاء به أبو بكر؟ نحن نقدس ساحتهما [أخذا بالكتاب والسنة] عن علم بسنة ثابتة والصفح عنها، وعن جهل يربكهما في الميزان.
ولماذا يصدق أبو بكر في دعواه الشاذة عن الكتاب والسنة، فيما لا يعلم إلا من قبل ورثته صلى الله عليه وآله وسلم ووصيه الذي هتف صلى الله عليه وآله وسلم به وبوصايته من بدء دعوته في الأندية والمجتمعات؟!. ولم تكن أذن واعية لدعوى الصديقة وزوجها؟
قال ابن أبي الحديد في شرحه على النهج: وسألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟. قال: نعم. قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدكا وهي عنده صادقة؟. فتبسم ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته. قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء لأنه قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود. وهذا كلام صحيح وان كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل.
قال السيد شرف الدين في كتاب ( النص والاجتهاد). وإليك كلمة في هذا الموضوع لعيلم المنصورة الأستاذ محمود أبو رية المصري المعاصر، قال: بقي أمر لابد أن نقول فيه كلمة صريحة: ذلك هو موقف أبي بكر من فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، وما فعل معها في ميراث أبيها، لانا إذا سلمنا بأن خبر الآحاد الظني يخصص الكتاب القطعي، وانه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله قد قال (انه لا يورث) وانه لا تخصيص في عموم هذا الخبر، فإن أبا بكر كان يسعه أن يعطي فاطمة رضي الله عنها بعض تركة أبيها صلى الله عليه وآله كأن يخصها بفدك وهذا من حقه الذي لا يعارضه فيه أحد، إذ يجوز للخليفة أن يخص من يشاء بما شاء. قال: وقد خص هو نفسه الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة وغيرهما ببعض متروكات النبي. على أن فدكا هذه التي منعها أبو بكر لم تلبث أن اقطعها الخليفة عثمان لمروان -هذا كلامه بنصه-.