30 شعبان المعظم 1437 - 07/06/2016
كان هناك خطأ شائع في الاوساط العلمية والعامة، يقول بأن السهل الرس الرسوبي في جنوبي ووسط العراق كان بحرا في العصر الحجري القديم، اي قبل نصف مليون سنة، وبدأ هذا البحر بالتراجع نحو الجنوب بفعل ترسبات الطمى التي يأتي بها نهرا دجلة والفرات وروافدهما. وهكذا ظهر السهل الرسوبي بوضعه الحالي، وكان اصحاب هذا الرأي يقولون بأن الاهوار في جنوبي العراق هي من بقايا البحر المزعوم. لقد بني هذا الرأي الخاطئ على نظرية وضع اسسها في اواخر القرن التاسع عشر الاثاري المعروف "دي مورغن" الذي اشتهر بتحرياته الاثرية في مدينة "سوسة" عاصمة العيلاميين في جنوب غربي ايران. والذي اكد نظريته ان معظم القسم الجنوبي والاوسط من العراق كان مغمورا بمياه البحر وحدد خط الساحل إبان العصر الحجري القديم، اي قبل نصف مليون سنة كما اسلفنا، بالخط المار بين هيت وسامراء نزولا الى بلد. وقال ان المرتفعات الموجودة في هذه المناطق كانت جرفا لساحل الخليج. وتبع مورغن برأيه ذلك معظم المؤرخين والاثاريين، ووضع خطا اخر ارتآه القائلون بهذه النظرية عندما تراجع الخليج بمرور الازمان في الخط المار بين مدينة اور والعمارة، وكان جل ما استند اليه في نظريته يدور حول تحديد بعض المدن القديمة، بافتراض بأنها كانت تقع على الساحل القديم او انها كانت تبعد عن الساحل بمسافات قليلة، وقد استنتجوا ذلك بشكل افتراضي من النصوص القديمة وخاصة اسماء الاماكن القديمة التي وردت في حملة الملك الاشوري سنحاريب على بلاد عيلام عام 696 ق. م واخبار البعثة البحرية التي قام بها نيرخس قائد اسطول الاسكندر الكبير عام 325 ق. م التي ورد فيها اسم بعض المدن مثل"كراكس" الكرخا الحالية في جنوبي ايران والتي تبعد الان عن خط الساحل مسافة 47 كيلو مترا. حيث اشير في النص الى انها كانت تقع على الساحل ويصعب التأكد من صحة هذا النص. وحسب اصحاب هذه النظرية فان معدل تكوين اليابسة جراء تراجع الخليج صوب الجنوب بفعل ترسبات الطمى والغرين التي يحملها الرافدان ونهر الكارون بمعدل 115 قدما في العام الواحد اي زهاء الميل ونصف الميل في القرن الواحد. واستندوا ايضا الى النصوص المسمارية التي تؤكد بأن مدينتي اور واريدو كان لهما ميناء على البحر الموهوم، واكدوا بعد ذلك أن الاهوار هي بقايا ذلك البحر الذي كان يغمر جنوبي العراق. الا ان هذه النظرية فندت عندما قام فريق من الجيولوجيين على رأسهم "ليزو فالكون ورايت" عام 1950 بتحريات جيولوجية واسعة في المنطقة ونشروا نتيجة تحرياتهم الحقلية في مؤلف كبير، ودللوا على ان ابحاثهم العلمية اكدت بأن حدود الساحل لم تكن في الماضي ابعد الى الشمال من وضعها الحاضر، وان حدود الساحل الموهوم الذي افترضه الآثاريون لم يكن له وجود على الاطلاق.
الاهوار بعد تجفيفها من قبل صدام
واظهرت نتائج تحريات ذلك الفريق ان هذه المنطقة من العراق معرضة لعملية البناء الجيولوجي التكتوني التي تسبب الانخساف والانخفاض في مستوى الساحل، وان درجة الانخفاض او الانخساف تعادل عملية الملء والردم الناتجة من ترسبات الطمى والغرين التي يجلبها الرافدان في مواسم الامطار والفيضان. ولهذا السبب ظلت الاهوار في منطقة العراق الجنوبية منذ تكوينها في القرنين السادس والسابع الميلاديين، ولو تركت عملية الترسبات وحدها لكانت كافية لردم الاهوار وتحويلها الى سهول غرينية في هذا الزمن الطويل. ولكن هذه الترسبات تصب في حوض دائم الانخساف. اما مسألة وجود موانئ في بعض المدن القديمة مثل اور واريدو، فقد اثبتت التقنيات وجودها وان هاتين المدينتين لم تكونا يوما ما على الساحل بل كانت الموانئ على نهر الفرات مثلما اثبتت الحفريات ذلك. وكان الفرات يمر بمحاذاة مدينة اور وعلى مسافة قصيرة شرقي مدينة اريدو ولكن بمرور الزمن بدل مجراه حيث يمر الان بمدينة الناصرية شرقي اور بحدود عشرين كيلو مترا.
الاهوار
ويبقى السؤال كيف نشأت هذه الاهوار. . . ؟ لدينا شواهد علمية اكيدة حصلنا عليها من تحرياتنا الاثرية عندما كان الهور موجودا بعافيته وبعد تجفيفه من قبل النظام البائد، بأن اجزاءً كبيرة من اهوار محافظتي الناصرية وميسان كانت ارضا يابسة تستغل بالزراعة وكان هناك بعض المستنقعات الدائمية المحصورة وخاصة في محافظة ميسان. والدليل على ذلك هو انتشار المواقع الاثرية فيها، ففي هور الحمار الذي تقدر مساحته بمليون وثمانية واربعين الف دونم تمكنا من تثبيت 122 موقعا اثريا بين صغير وكبير وتاريخ بعض المواقع يعود الى عصر فجر السلالات السومرية اي بحدود 2800-2350 ق. م. وتتوزع هذه المواقع على المناطق التالية، الجبايش، الاصلاح، العكيكة، السديناوية، كرمة بني سعيد وهذه المواقع اما كانت مغمورة بالهور واما يحيط بها الماء وذلك حسب ارتفاعها.
اما في محافظة ميسان فهناك 48 موقعا اثريا مكشوفا يعود تاريخ اغلبها الى العصور الفرثية والساسانية وبعضها اقدم تعود الى الالف الاول ق. م وتنتشر هذه المواقع في هور الحويزة، والوادية، والصحين، وبريدة. . الخ وهي كأخواتها في اهوار الناصرية اما كانت مغمورة في الهور واما محاطة بمائه. وهناك تجمعات سكانية حديثة أقيمت في الهور على التلال الاثرية، حيث ترى قطع الفخار وكسر الاجر القديمة منتشرة عليها كما لاحظت ذلك شخصيا في منطقة الجبايش في عام 1970. ويذكر العاملون في حقل النفط في الاهوار ان مكائنهم كانت اثناء عملها تستخرج كسر الفخار من اعماق مختلفة، ومن الطريف ان نذكر ورود معلومات في نص سومري يؤكد قيام السومريين بشق الجداول وكذلك استصلاح بعض الاراضي من الملوحة التي ظهرت بوادرها بحدود عام 2400 ق، م واستمرت زمنا طويلا بعد ذلك كما هو معروف في وسط العراق وجنوبيه. كل ذلك يؤكد ان مناطق الاهوار كانت ارضا يابسة عاش عليها العراقيون وزاولوا نشاطاتهم الاقتصادية والاجتماعية وبنوا حضارتهم العتيدة كما في باقي اجزاء العراق وفي نحو 629م طغى الرافدان وروافدهما طغيانا هائلا لم يسبق له مثيل وخربت مشاريع السدود ومشاريع الري الرئيسية التي اهملت لضعف الدولة الساسانية في اواخر ايام حكمها في النهروان وسد العظيم القديم وكذلك سد ديالى القديم ومناطق اخرى. وغير الرافدان مجريهما في مناطق عديدة في الوسط والجنوب فانقلبت مناطق اقصى الجنوب الى اهوار واسعة تمتد كالبحر وصارت تعرف هذه الاهوار حينها بالبطائح وقد وصفها المؤرخون والبلدانيون العرب وصفا مسهبا وادخلوها على خرائطهم.