10 محرم الحرام 1438 - 13/10/2016
بعد وفاة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحينما تعرضت القيادة الرسالية الحقّة لمحنة الإقصاء العملي لفترة تقرب من ربع قرن عن مركزها الطليعي والطبيعي الذي رتّبها الله فيه.. ومُنعت ـ من ثَمّ ـ عن مواصلة القيام بمسؤولياتها القيادية للأمّة، على مستوى الدولة والمجتمع.
بعد كل ذلك.. كان من الطبيعي أن تتمخض تلك الفترة ـ بما رافقها من ظروف وإجراءات ذات طابع معيّن على صعيد السياسة في الدولة الإسلاميّة ـ عن الكثير من السلبيات التي دفعت بالأمة الإسلاميّة إلى متاهات خطيرة الأبعاد، ثمّ لم تَزَل آثارها ظاهرة في التكوين النفسي والفكري ذي الطابع المعيّن في الأمة الإسلاميّة على مدى التاريخ، ولسوف تبقى كذلك في المستقبل المنظور على الأقل.
ونخص بالذكر هنا: السياسة المعينة التي مَنَحت طلحة والزبير، وحتّى معاوية بن أبي سفيان، أملاً بالحصول على امتيازات مهمّة، من نوع خاصّ، على حساب الإسلام والأمة، هذه الامتيازات التي لم يكونوا ليحلموا بها لولا بعض المواقف والظروف التي رافقت تلك الفترة التي تلت وفاة النبي صلّى الله عليه وآله.. والتي هيأت لهؤلاء وأمّ المؤمنين معهم ومن لفّ لفهم ودار في فلكهم: أن يقفوا في موقع المعارضة والعصيان، والتمرد على الشرعية، والمناهضة للقائد الحقّ.
وفي هذه الظروف بالذات تأتي خلافة الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام لتواجه ذلك الركام الهائل من المشاكل العاتية، التي لم يكن لهذه السلطة الشرعية أي دور في صنعها أو استمرارها، بل كانت فقط من صنع الآخرين، وعليّ عليه السّلام وحده هو الذي فُرض عليه أن يتحمل آثارها، ويواجه أخطارها.
* * *
في هذه الظروف بالذات، وفي حين كانت المدينة المنوّرة هي مركز القيادة السياسية للأمة الإسلاميّة، إذ كان فيها جلّة المهاجرين والأنصار، ومن الصحابة الصفوة الأخيار.. في هذه الظروف الدقيقة جداً نلاحظ: أن عليّاً عليه السّلام يترك المدينة ويختار الكوفة عاصمةً لخلافته، ومنطلقاً لتحركاته..
وهنا يرد السؤال: إنه إذا كانت المدينة تتمتع بقدسية خاصة في نفوس المسلمين، وتُعتبر مركز الريادة والقيادة، وإذا كانت قد استطاعت أن تثبت عملياً صلاحيتها لذلك طيلة ما يقرب من خمسة وثلاثين عاماً.. فلماذا تركها الإمام عليّ عليه السّلام ورغب عنها إلى الكوفة، التي لم يكن لها تلك المميزات ؟
هل كان ذلك أمراً عَفوياً غير متعمَّد ؟ أم أنه أمر مدروس، في نطاق خطة ذات أبعاد استراتيجية، واعتبارات عسكرية وقيادية ؟
في مقام الإجابة عن هذا السؤال نبادر إلى رفض الخيار الأول ـ أي العفوية ـ، لأنّه عليه السّلام لم يعوّدنا أن يعتمد المواقف المرتَجلة، والتصرفات العفوية طيلة فترة حياته المليئة بالأحداث والظروف الدقيقة، التي تتطلب الكثير من العمق والأصالة والوعي..
ولا نريد أن نتوسع في تلمّس سرّ ذلك، فإن من الواضح: أنّ الذي يختاره الله قائداً ورائداً، لابد وأن تكون كل حركاته وسكناته وتصرفاته في خط الرسالة، وعلى وفق الضوابط الدينية، والحكيمة، بحكم كونه القائدَ المعصوم الذي يُفترَض فيه أن يمتاز على الناس جميعاً في الملكات والقدرات النفسية العالية، وأيضاً في مختلف الكفاءات والفضائل المكتسبة وغيرها. وبكلمة أوضح: أن يكون في مستوى القمة على جميع المستويات، وفي جميع المجالات، ينحدر عنها السيل، ولا يرقى إليها الطير، حسب تعبير عليّ أمير المؤمنين نفسه إمام الفصحاء، وسيد البلغاء والحكماء، بعد نبيّنا الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ومن هنا نلاحظ: أنه عليه السّلام لم يكن يُقدِم على أي موقف إلا من منطلقات دينية أصيلة، وضوابط رسالية ثابتة، لا يتأثر في أيٍّ من مواقفه بعاطفة أو مصلحة شخصية أو غير ذلك على الإطلاق. وكذلك يجب أن يكون القائد المعصوم في الذروة من الوعي والدقة والأصالة، وأبعد ما يكون عن الخطأ والخطل، وإلاّ فإن صدور أي خطأ منه لا تنعكس نتائجه فقط على خصوص شخصه ومصالحه الخاصّة، بل هو يرتبط بشكل مباشر أحياناً ـ أو غير مباشر ـ بمصالح الأمة نفسها، ويمسّ بالتالي شخصيتها، وتكوينها الفكري والنفسي والسياسي وغير ذلك، ويؤثر على حاضرها ومستقبلها، وما أكثر الشواهد التاريخية على ذلك!
وعلى هذا.. فلا محيص عن الالتزام بالخيار الثاني، وهو أنّ تخلّيه عن المدينة إلى الكوفة كان ضمن خطة واعتبارات معينة.
* * *
وإذا ما أردنا أن نتلمس الخيوط الحقيقية لتلك الخطة، ونتعرف على الاعتبارات التي اقتضت اختيار الكوفة، وترك المدينة، فلابد من ملاحظة الظروف ومعرفة طبيعة التحديات التي كان عليه السّلام يواجهها.
وهنا نجد: أنّه عليه السّلام كان يواجه تحدّياً سافراً من تلك الفئات التي كانت تحلم بالحصول على امتيازات أكبر على حساب الدين والأمة وعلى حساب الشرعية، ولذا فإنّ من الضروري أن يكون الإمام عليّ عليه السّلام ـ الذي سوف لا يهادن هؤلاء، ولن يداري ولن يماري في الحقّ والدين ـ في مركز القوة عسكرياً وسياسياً، وأن يكون الذين معه على بصيرة من أمرهم، مهيّئين نفسياً للتضحية في سبيل الدين والأمة إن اقتضى الأمر ذلك. فعليه إذن.. أن يعدّ العُدة لمواجهة الأخطار التي لم يكن من الصعب عليه التكهّن بها، وبعواقبها.
وواضح: أنّ المدينة لا تتوفر فيها عوامل النجاح العسكري والسياسي إذا ما اُخذ حجم التحدي بنظر الاعتبار، وبالتالي فهي لا تصلح عاصمة للدولة في ظروف كتلك التي كان يواجهها الإمام عليه الصلاة والسّلام. والكوفة وإن لم تكن في المستوى المطلوب، إلاّ أنها كانت أغنى منها في نواحٍ عديدة. وواضح: أنّه لولا أن علياً عليه السّلام كان هو المعنيّ بالأمر لكانت مجريات الأمور على خلاف ما رأيناه تماماً. ومهما يكن من أمر فإننا نستطيع أن نجمل وضع المدينة في مجال تقييم قدرتها على تحمل المواجهة في الأمور التالية:
أولاً: إنّ المدينة لم تكن تتوفر فيها كثافة سكانية، تستطيع أن تتحمل أعباء المواجهة للتحديات التي تنتظر هذا الحكم الجديد، إذا أُخذ حجم هذا التحدي بعين الاعتبار، فلقد كانت تلوح في الأفق رايات العصيان والتمرد على الشرعية، بشكل واسع النطاق، فلقد استغل أهل الأطماع فئات كبيرة من الناس وظللوها بالشبهات، واستغلوا فيها بساطتها، وعدم نضجها الرسالي، والنقصانَ الكبير في وعيها الديني الصحيح، لأنها منذ البداية لم تتعرف على الإسلام الصحيح المتمثل بالإسلام «المحمديّ العلَويّ»، وإنّما عرفت الإسلام الأُموي وتربّت ونشأت عليه، وكلّنا يعرف أنّ الإسلام الأُموي ما هو إلاّ إسلام أطماعٍ ومآرب، ولا يمكن أن يقاس بأصالة الإسلام العلَوي، وعمقه ووعيه الرسالي.
وإذا كانت هذه الفئات لم تتفاعل مع الدين تفاعلاً يسمح لها بالرؤية الصحيحة، والتثبت من مواقع القوة والضعف في مواقفها، لأنّها لم تعرف غير الإسلام الأُموي الرقيق في ماهيّته ومحتواه ـ ولا سيما بلاد الشام التي افتتحها الأُمويون في أول عهد عمر ـ وظلت تعيش في ظل حكمهم باستمرار.. فمن الطبيعي أن لا تتورع عن مناهضة الشرعية والتمرد عليها. وبالفعل، فقد جنّد طلحة والزبير بقيادة عائشة عشرات الأُلوف أولاً، ثمّ جاء بعدهم معاوية ليجنّد أضعاف ذلك في محاولة لإقصاء وصيّ الرسول صلّى الله عليه وآله عن صعيد السياسة والحكم، حينما وضح لديهم بما لا يقبل الشك والترديد:
أنّه لن يعاملهم إلاّ كما يعامل أيّ فرد آخر من المسلمين.. في أي من الظروف والأحوال.
ومن أين للمدينة أن تؤمّن للإمام عليّ عليه السّلام الجيش الذي يقدر به على المواجهة والاحتفاظ بالموقع، فضلاً عن إنزال الضربة القاصمة والنصر ؟
وبديهيّ: أنّ الاستعانة بالأعراب حول المدينة، إن لم تكن مضرّة فلا أقلّ من أنها سوف لا تكون كافية لتحقيق كامل الأهداف، بشكل مُرضٍ ودقيق.
أما الاعتماد على النجدات من سائر الأقطار الأخرى كالعراق وفارس مثلاً.. فلربما يكون من السهل جداً على أعداء الإمام عليّ صلوات الله وسلامه عليه عرقلة وتشويش ـ إن لم يكن منع ـ وصول من يريد الوصول إليه منهم، بشكل طبيعي وسليم.
ثانياً: لا تتوفر في المدينة الموارد الاقتصادية الضخمة التي تستطيع أن تؤمّن احتياجات جيش يُعَدّ بعشرات الأُلوف، لأنّها أرض صحراوية، ليس بها زرع، ولا ضرع، ولا تجارة واسعة.
وكشاهد على ذلك نذكر: أن هذا كان أحد العوامل التي أوجبت فشل ثورة محمّد بن عبدالله بن الحسن على المنصور، رغم أنه كان قد بويع له في أغلب الأقطار والأمصار الإسلاميّة.
قال المسعودي: لما ظهر محمّد بن عبدالله بالمدينة دعا المنصور إسحاقَ بن مسلم العقيلي، وكان شيخاً ذا رأي وتجربة، فقال له: أشِرْ علَيّ في خارجي خرج علَيّ، قال: صِف لي الرجل. قال: رجل من ولد فاطمة بنت رسول الله، ذو علم وزهد وورع. قال فمَن تبعه ؟ قال: وُلْد عليّ، وولد جعفر وعقيل، وولد عمر بن الخطاب، وولد الزبير بن العوام، وسائر قريش، وأولاد الأنصار. قال له: صف لي البلد الذي قام به، قال: ليس به زرع، ولا ضرع، ولا تجارة واسعة. ففكر ساعة، ثمّ قال: اشحَنْ يا أمير المؤمنين البصرة بالرجال. فقال المنصور في نفسه: قد خَرف الرجل، أسألهُ عن خارجي خرج بالمدينة، يقول لي: اشحن البصرة بالرجال. فقال: انصرف يا شيخ!
ثمّ لم يكن إلاّ يسيراً حتّى ورد الخبر: أنّ إبراهيم قد ظهر بالبصرة. فقال المنصور: علَيّ بالعقيلي. فلمّا دخل عليه أدناه، ثمّ قال: إنّي قد شاورتك في أمرِ خارجي خرج بالمدينة، فأشرت علَيّ أن أشحن البصرة بالرجال، أوَ كان عندك من البصرة علم ؟! قال: لا، ولكن ذكرت لي خروج رجل إذا خرج مثله لم يتخلّف عنه أحد، ثمّ ذكرت لي البلد الذي هو فيه، فإذا هو ضيّق لا يحتمل الجيوش، فقلت: إنّه رجل سيطلب غير موضعه.. الخ (1)
كما أنّ المدينة، في الوقت نفسه بعيدة عن مناطق التموين، ومن السهل جداً ـ بملاحظة موقعها الصحراويّ ـ التأثير على قوافل التموين وتهديدها بالخطر، الأمر الذي سوف يجعل الأمور في غير صالح الإمام عليّ عليه السّلام، ويجعله باستمرار في موضع حَرِج، وتحت رحمة العصاة والمتمرّدين.
ثالثاً: إنّ المدينة لم تكن شديدة الولاء للشرعيّة، المتمثّلة في الإمام عليّ عليه السّلام، وصيّ الرسول بنصّ يوم الغدير، بل ربّما نجد فيها ما يدل على عكس ذلك، ولا سيّما بملاحظة: أنّ الاُمويين، ومحبّيهم، والتيميّين، والزبيريّين ومَن ينتمي إليهم من أهل الأطماع، وبالتالي كلّ مَن وَتَرهم الإسلام على يد أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، ممّن لم يكن ينطلق من قاعدة إيمانيّة ثابتة.. كلّ هؤلاء كانوا إلى المتمرّدين من الناكثين والقاسطين أميلَ منهم إلى الشرعية المتمثلة في الإمام عليّ عليه الصلاة والسّلام، بل لقد صرّح الإمام السجّاد عليه السّلام بأنّه لم يكن يحبّهم في مكّة والمدينة ثلاثون رجلاً (2).. وليراجع كلام الأصمعيّ ومحمّد بن عليّ بن عبدالله بن العباس في وصف البلدان، في كتاب (البلدان) للهمداني، و (أحسن التقاسيم) للمقدسي و (عيون الأخبار) لابن قتيبة و (روض الأخبار) المنتخب من (ربيع الأبرار) و (العقد الفريد) وغير ذلك.. فإنه يظهر بشكل قاطع أنّ مكّة والمدينة لا يمكن الاعتماد عليهما من قبل الإمام عليّ عليه السّلام، فإنّ ولاءهما كان متّجهاً إلى غير الإمام عليّ وأهل البيت عليهم السّلام.
إذن.. فمعنى الاعتماد على المدينة كقاعدة للخلافة، وعاصمة لها، هو أن تكون الأسرار العسكرية، ومواقع الضعف، ومواقع القوة متوفّرة لدى الجهة المناوئة، كما وأنّ الخلافة المحقّة سوف تكون معرّضة للتمزّق من الداخل، وللأعمال الخيانية لصالح الناكثين والقاسطين؛ وذلك لوجود أعوانهم ومحبيهم بين ظهرانَي السلطة الحاكمة، التي يستحيل أن يُقْدم على أي إجراء ضدّ أي شخص ما دام ذلك الشخص لم يثبت أيُّ اتهام ضدّه، أي لأنها لا ترضى بالعقاب قبل الجناية، وتعتبر كلّ متّهَم بريئاً حتّى تثبت إدانته بالطرق الشرعية.
ويذكّرنا هذا الجوّ الذي يواجهه الإمام عليّ عليه السّلام بما كان يتعرض له النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في حربه مع المشركين من دسائس اليهود الذين كانوا يعيشون في المدينة، مع فارق آخر، يزيد من حراجة الموقف بالنسبة لأمير المؤمنين عليه السّلام، وهو أنّ اليهود كانوا عدواً ظاهراً معروفاً لدى المسلمين، عدوّاً له نمط حياة خاصّ به متميز عن المسلمين، وفي مَعزِل عنهم.
أمّا هؤلاء الذين كانوا يهددون أمن الدولة من الداخل في حكم الإمام عليّ عليه السّلام، فقد كانوا يعيشون بين المسلمين، ويطّلعون على دقائق أحوالهم وخفايا أمورهم، وكثيراً ما كان يصعب تمييزهم ومعرفتهم بأعيانهم وأشخاصهم. نعم.. تكون حالته معهم شبيهة بحالة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مع المنافقين.
رابعاً: إنّ الجيل الجديد في المدينة لم يكن قد اعتاد الحياة الصعبة التي تتطلّبها الحروب الطاحنة التي خاضها الإمام عليّ عليه السّلام؛ لأنّ شباب المدينة كانوا قد اعتادوا حياة الرخاء والدَّعة؛ لأنّهم صاروا يعيشون على العطاءات السخيّة التي كان يغدقها عليهم الحكّام الذين سبقوا الإمام عليّاً عليه السّلام.. حتّى أصبح من الصعب عليهم التخلص من أجواء اللذة التي يعيشونها، ثمّ التضحية بأنفسهم، والتعرض للمصاعب والمشاقّ التي تتطلّبها الحروب.
خامساً: لقد كان الإسلام جديداً على العراق، وكانت العادات القبلية والجاهلية لا تزال تتحكّم في روابطه وعلاقاته الاجتماعيّة من الداخل والخارج.
وكانت الحروب فيه محكومة لزعماء القبائل عموماً، لا للإيمان والعقيدة، وكانت المدينة أبعد عن ذلك ولو بشكل محدود، فكان إغواء أهل العراق من قِبل معاوية أقرب احتمالاً وأسهل منالاً. وإذا صار العراق مع معاوية، فإنّ وضع المدينة العسكري والاقتصادي سوف يصير حرجاً جداً. ولهذا فلابدّ من تدارك الأمر وحفظ العراق أوّلاً، ثمّ استغلال روح التنافس التي كانت قائمة بين القطرين العراق والشام وحتّى الروح القبلية، وتوظيفها في صالح الدين والأمة بدلاً من أن يستغلها معاوية في غير هذا السبيل..
وهكذا.. نجد أنّ المدينة لا تستطيع في هذه الظروف بالذات أن تكون عاصمة للخلافة، ومنطلقاً لتحركاتها بحريّة وثقة بهذا الشكل المكثف والواسع.
نعم.. كانت المدينة الموقع المناسب لمضايقة مكّة اقتصادياً وسياسياً، وحتّى عسكرياً، حينما كان ثمة حاجة إلى ذلك في بدء انتشار الإسلام، في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم..
بل إننا نلاحظ أن كثيراً من العوامل التي دفعت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الهجرة إلى المدينة، هي نفسها كانت السبب في ترك الإمام عليّ عليه السّلام المدينة إلى الكوفة، ولهذا البحث مجال آخر.
أمّا الكوفة: فقد كانت في ذلك على خلاف المدينة، فهي بالإضافة إلى قربها إلى الشام والبصرة، وإلى أنها تقع في قلب الدولة الإسلاميّة، وفي نقطة الوسط بالنسبة إلى كثير من المناطق التي سوف تشهد نشاطاً واسعاً على مستوى الدولة، وليتقرر من ثَم مصير الأمة حاضراً ومستقلاً بشكل عام، إنها بالإضافة إلى ذلك:
1 ـ كانت تملك الطاقات البشرية، أو على الأقل تستطيع أن تؤمّن القوّات الكافية في مواجهة أيّ تحدٍّ مهما كان كبيراً، ثمّ تمده بما يحتاج إليه باستمرار لو ظهر ثمة ما يبرّر ذلك؛ لتوسطها، ولقربها من البلاد ذات الكثافة السكانية.
2 ـ وهي أيضاً قادرة اقتصادياً على التموين المستمر للجيوش التي سوف تواجه الحرب، لما تملكه هي والمناطق القريبة إليها من ثروات زراعية متمثلة بالسواد الذي كان يحاذي الفرات، ثمّ تمكّنها من الاتصال السريع بمناطق الثروات إن اقتضت الحاجة ذلك.
هذا، بالإضافة إلى موقعها التجاري في المنطقة، سواء بالنسبة إلى الفرس أو إلى العرب.
3 ـ ثمّ هناك قرب العراق من الشام بالنسبة إلى الحجاز.
وقد جمع الإمام عليّ عليه السّلام الأسباب الثلاثة المتقدمة، في جوابه لأبي أيوب رحمه الله تعالى، حيث قال عليه السّلام له: صدقتَ يا أبا أيوب، ولكنّ الرجال والأموال بالعراق، وأهل الشام لهم وثبة أُحب أن أكون قريباً منهم (3).
وقال عليه السّلام حينما أشار ابن عباس بأن يولّي طلحة والزبير الكوفة والبصرة: ويحك! إن العراقَين بهما الرجال والأموال، ومتى تملّكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء، ويَقويا على القوي بالسلطان (4).
وقال المغيرة بن شعبة لأمير المؤمنين عليه السّلام، بعد أن عرض عليه أموراً: فإن أبيتَ فاخرُجْ من هذه البلاد، فإنّها ليست ببلاد كراعٍ وسلاح (5).
وقال المنصور لمسلم بن قتيبة: قد خرج محمّد بن عبدالله بن حسن بالمدينة، قال: ليس بشيء، خرج بأرض ليس بها حلقة ولا كراع، قال: قد خرج إبراهيم بالبصرة، قال: قد خرج بأرض لو شاء أن يقيم بها سنة يبايعه كلّ يوم ألف رجل، ويضرب له فيها كلّ يوم ألف رجل بسيف لا يعلم به أحد يمكنه ذلك (6)
4 ـ هذا .. وقد تقدّم أنّ العراقيّين كانت لديهم الأرضيّة للوقوع تحت تأثير الإغواء من قِبل معاوية، ثمّ تأليبهم على أمير المؤمنين عليه السّلام، وذلك بملاحظة ظروف معيّنة عاشها ويعيشها العراق نفسياً واجتماعياً وفكرياً، وغير ذلك.
5 ـ ثمّ إنّ الاخطبوط الأُمويّ، والتيميّ والزبيريّ، وغيرهم من طلاّب اللبانات، ومَن وَتَرهم الإسلام على يد الإمام عليّ عليه السّلام ـ هذا الأخطبوط المتشعّب ـ كان أقلّ قدرة على التحرك والمناورة فيها.
6 ـ ثمّ إنّهم لم يكونوا قد تعوّدوا على لذائذ الحياة وزبارجها وبهارجها، بملاحظة حياتهم الحربية على مرّ الزمن، فكان يسهل عليهم التضحية وخوض غمار الحروب ومكابدة شظف العيش وتحمّل الصعاب.
بل إنّ العراق كان أفضل من الشام من حيث الأموال والرجال، فقد قال نسير بن ثور العِجلي لخالد بن الوليد: ليس الشام عوضاً من العراق ساعة قط؛ لأن العراق أكثر من الشام حنطةً وشعيراً وديباجاً وحريراً وفضة وذهباً وقزّاً ونسباً، وما الشام كلّها إلا كجانب من جوانب العراق. فقال له خالد: صدقت يا نسير، إنّ العراق لَعلى ما تقول (7).
* * *
وهكذا يتّضح أنّ الإمام علياً عليه السّلام وصيّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، والذي نصبه قائداً للأمة في يوم الغدير، لم يتّخذ الكوفة عاصمة لخلافته إلاّ لاعتبارات استراتيجية وعسكرية منطقيّة معقولة، ولم يكن ذلك إجراء عفوياً مرتجلاً، كما قد يتخيّل بعض من لم يُمعن النظر في مواقفه عليه السّلام، ويحاكم الظروف التي كانت قائمة آنذاك بدقّة وموضوعية وتجرّد.
مصادر
1 ـ الأخبار الطِّوال، للدينوريّ.
2 ـ الإمامة والسياسة، لابن قتيبة.
3 ـ بحار الأنوار، للمجلسيّ.
4 ـ الثِّقات، لابن حبّان.
5 ـ حياة الإمام الحسن عليه السّلام، للقرشيّ.
6 ـ شرح نهج البلاغة، للمعتزليّ.
7 ـ الفتوح، لابن أعثم.
8 ـ مروج الذهب، للمسعوديّ.