b4b3b2b1
المدينة المنورة.. أرض الله الطيبة | مرقد السيد سلطان محمد شريف رضوان الله تعالى عليه | الحسين بن رُوح النُّوبختيّ | مرقد الإمام الرضا.. ملاذ آمن للدعوات المجابة | مرقد العلامة الحلي.. مدرسة علمية تستقطب المئات من طلبة العلوم الدينية | كراتشي | مسجد خطوة الإمام علي بالبصرة.. ارث إسلامي يتحدى طواغيت العصور | مرقد سيد الأوصياء.. باب مدينة العلم والسلام | الشهيد الثائر زيد (عليه السلام)... كوكب هاشمي في سماء الشهادة | ضريح الامام الرضا (عليه السلام) بين الاصالة والتجديد وتبديله خمس مرات خلال 450 عام | تحت ضريح العباس (عليه السلام).. بقايا نهر العلقمي أم مياه جوفية؟! | إبراهيم الخليل (عليه السلام)... من المقام المقدس حتى أرض المحرقة |

مقامات ومشاهد أهل البيت عليهم السّلام في سوريا

3835

 

4 جمادى الآخرة 1433 - 26/04/2012

ربما كان خافياً على الكثيرين أن سوريا هي من أكثر البلاد الإسلاميّة احتضاناً للمقامات والمشاهد المنسوبة لآل البيت النبوي عليهم السّلام وذراريهم. وقد أحصى المؤرّخون في أنحائها 49 مقاماً ومشهداً أغلبها في دمشق ثم في حلب وباقي المدن والمناطق السورية. الأستاذ هاشم عثمان تتبع في كتابه الحديث « مشاهد ومزارات ومقامات آل البيت عليهم السّلام في سوريا » المصادر التاريخية التي تحدّثت عن هذا الموضوع، وبيّن أنه يوجد في دمشق ومنطقتها 20 مشهداً، وفي حلب ومنطقتها 7، وفي اللاذقية ومنطقتها 4، وفي حماه ومنطقتها 4، وفي حمص ومنطقتها 3، وفي مدن الجزيرة ( ميافارقين، صفّين، بالس، الرقة، نصيبين )11. والعدد الأكبر من هذه المشاهد منسوب لأمير المؤمنين عليّ عليه السّلام12، ثم للحسين الشهيد عليه السّلام 7، ثمّ لزين العابدين عليه السّلام 4، ثم لبقية آل البيت عليهم السّلام لكل واحد منهم مقام.

وإزاء هذه الكثرة من المشاهد تبرز الملاحظات الآتية:

أولاً: إن عدداً من الأضرحة والمراقد المنسوبة إلى بعض الرجال والنساء من آل البيت عليهم السّلام لم تثبت صحة نسبتها إليهم، فيكون حالها كحال المشاهد التي بنيت تبركاً لإقامة بعضهم العابرة محلها، أو لظهور كرامات لهم في هذه الأمكنة كما يورد ويؤكّد المؤرخون.

ثانياً: إذا كان بعض هذه المشاهد قد حظي بعناية المؤرخين ومتابعتهم لما مرّ عليها من تغييرات، فإن بعضها يكاد لا نعرِف عنه شيئاً، لأن المصادر لم تذكره إلاّ بإشارات عابرة كمشاهد أهل البيت عليهم السّلام في مدن الجزيرة السورية.

ثالثاً: هناك مشاهد تغيّرت أسماؤها مع الأيام ولم يعد أحد يعرفها إلاّ من خلال الكتب كبعض مشاهد آل البيت عليهم السّلام في المسجد الأموي.

رابعاً: هناك مشاهد أُزيلت من الوجود بسبب عمليات التوسّع العمراني كمشاهد الأحمر وباب الجنان ومسجد غوث في حلب.

عود على بدء

واستكمالاً لما بدأناه سابقاً من استطلاعات عن المقامات والمشاهد المشرّفة المنسوبة لأهل البيت عليهم السّلام في سوريا نرجو أن يكون ذلك مساهمة متواضعة للتعريف بهذه المشاهد الكريمة وما ترمز إليه وما يمثّله أصحابها من قدوة في الدين والحياة، كما نرجو أن يكون فيه فائدة للمؤمنين الذين تهوي أفئدتهم لهذه الأماكن المشرّفة فيشدّون إليها الرحال من أماكن قصيّة ليتعبّدوا الله تعالى فيها ويتبرّكوا بزيارة أصحابها عليهم السّلام، وهم لا يرجون بعمارتها المادية والمعنوية إلاّ ما عند الله من الثواب والأجر المقبول.

ومما لا شك فيه أن لزيارة قبور الصالحين والمجاهدين معطيات إيمانية و « عقائدية » كثيرة: منها الانشداد إلى الله تعالى، واستلهام المواقف الإيمانيّة والجهادية، وتأصيل الولاء والحبّ لرموز المسيرة الإسلامية الصحيحة، وقد ورد عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وأئمّة أهل البيت عليهم السّلام كثيرٌ من الأحاديث التي تحثّ على ذلك، ومنها قول الرسول صلّى الله عليه وآله: « فزوروا القبور فإنها تزهّد في الدنيا وتذكّر بالآخرة ». وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله يزور البقيع وشهداء أُحد ويبكي ويُبكي من حوله، وكذلك كانت الصدّيقة فاطمة عليها السّلام تزور قبر عمّها حمزة وتقبّله، وكانت تزور قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة، فتصلي هناك وتدعو وتبكي، وعن الإمام الباقر عليه السّلام أنّه قال: « قال رسول الله: من زارني أو زار أحداً من ذريّتي زرته يوم القيامة فأنقذته من أهوالها ».

وإذا كانت النصوص الإسلاميّة التي تؤكّد مشروعية زيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسائر قبور الصالحين والمؤمنين كثيرة وثابتة بأدلة مأخوذة من الكتاب والسنّة وإجماع المسلمين والعقل، فإن هناك من زعم أنّها لون من ألوان الشرك، حيث حرّم كل زيارة للقبور مهما كان صاحبها، حتّى قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله، وقد بيّن الفقهاء من كل المذاهب الإسلاميّة أن هذا التفكير استند إلى روايات غير دالة على مطلوبه، وإلى وجوه استحسانية لا قيمة لها في الاستنباط الفقهي، ومحاذير يُدّعى أنها تترتّب على زيارة القبور وهي غير واردة إطلاقاً.

مقامات ومشاهد مقبرة « الباب الصغير » في دمشق

الباب الصغير هو أحد أبواب سور دمشق القديمة الذي كان قائماً في عهد الدولة الأموية، وكان يقع في الجهة الجنوبية الغربية من السور، وهو يسمّى اليوم باب الشاغور، في حين أن السور لم يعد قائماً. ومنذ ذلك الوقت أقيمت مقبرة مقابل هذا الباب خارج السور سُميت باسمه، وهي من أكبر مقابر دمشق وأشهرها. وقد أصبحت اليوم مع التوسّع العمراني تتوسط المدينة تقريباً، ومدخلها الرئيسي يتفرّع من شارع ابن عساكر عند نقطة باب مصلّى ولها مداخل أخرى.. وما إن تقترب منها حتى تمتد أمام ناظريك مساحة واسعة من الأرض يحيط بها سور طالته عناية حديثة، وفي داخلها تلتصق آلاف القبور التي تشكّل شواهدها غابة كثيفة من الألواح الرخامية أو الاسمنتية المرقّمة. وفي مقدمة المقبرة عند المدخل لجهة الشرق ترتفع مقامات ومشاهد متقنة البنيان متقاربة الشكل ذات قباب مجلّلة باللون الأخضر يغلب عليها عند عامة الناس تسمية مقبرة السبايا. وتُنسَب هذه المقبرة إلى عدد من نساء أهل البيت عليهم السّلام وخاصة سبايا نكبة كربلاء، وكذلك إلى عدد من الهاشميين، كما تضمّ أضرحة بعض زوجات النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وبعض الصحابة والتابعين. وفي مقابل المدخل الرئيسي يقوم منفرداً مقام رؤوس شهداء كربلاء رضي الله عنهم.

ويبعث منظر المقبرة الكبيرة ـ التي تحيط بها أبنية قديمة وحديثة كما يطلّ عليها جبل قاسيون من بعيد ـ على التفكّر بجلال الموت ومهابته، كما يوحي بحضور التاريخ الذي يلقي بظلاله عليها، ولا يخلو الأمر من راحة للنظر الذي يجمع معاً كل تلك الصورة للطبيعة ومدينتي الأحياء والأموات المتراميتين.

وقفة مع التاريخ

قبل الجولة الميدانية على مشاهد ومراقد هذه المقبرة وخاصة ما ينسب منها إلى أبناء وأحفاد وسيدات أهل البيت عليهم السّلام، نستعيد باختصار بعض الوقائع التاريخية التي كانت سبباً في وجودها وإقامتها، وجعلها مقصداً للمحبّين والزوّار والذين تعجّ بهم هذه المشاهد الشريفة وخاصة في مواسم الزيارات المعروفة.

فبعدما حدثت نكبة كربلاء في 10 محرم سنة 61هـ، بفصولها المعبرة والمريعة واستشهد الإمام الحسين عليه السّلام وجميع أصحابه، وفيهم سبعة عشر شهيداً من سلالة النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله، جاء الأمر من صانع هذه المأساة يزيد بن معاوية في الشام إلى منفّذها عامله في الكوفة عبيدالله بن زياد بتسيير رأس الحسين عليه السّلام ورؤوس الشهداء التي احتُزّت، وكذلك سبايا أهل البيت عليهم السّلام من النساء والأطفال إلى الشام، بطريقة تظهر الشماتة بهم، وتبيّن ما حققه هو من نصر مزعوم. وهكذا بعد عرض الشماتة والانتصار الذي أقامه عبيدالله في الكوفة والذي ارتدّ عليه عاراً ومهانة أمام أهلها بعد استفاقتهم من هول ما فعلوا بذرية النبيّ صلّى الله عليه وآله، كلّف أوّلاً زحر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة بأخذ رأس الحسين عليه السّلام ورؤوس ستة عشر من آله وأصحابه إلى دمشق، حيث حملوها على رؤوس الرماح وساروا بهم قبل السبايا، ثم بعد ذلك كلّف بعض قادة جيشه الموغلين في الإجرام والسفه أمثال عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وخولّي بن يزيد وسنان ابن أنس وغيرهم بموافقة السبايا، ومعهم العليل الإمام علي بن الحسين عليه السّلام فحملوهم على الأقتاب، وما لبث موكب السبايا أن التحق بموكب الرؤوس في الطريق الذي يبتدئ من الكوفة متّجهاً إلى الشمال مارّاً ببغداد ثم تكريت ثم الموصل، ثم ينعطف غرباً إلى تل أعفر وسنجار حتى نصيبين وعين الوردة، ثم يمرّ من الرقة ومسكنة حتى حلب، ثم ينحني إلى الجنوب ماراً بقنّسرين وكفرطات وشيزر وحماة وحمص ثم جوسية ثم بعلبك حتى دمشق.

وقد قصدوا من تطويل وتكثير تعرّجاته المرور بأكبر عدد من المدن والبلدان لإعلام أهلها بالنصر الذي تحقق ليزيد على الحسين عليه السّلام وإظهار فرح الناس بذلك. ولكن الأمر تحوّل فيما بعد عكس ما أمّل يزيد وزبانيته حيث وفي كل مدينة دخلها رأس الحسين عليه السّلام والسبايا وفي كل محطة وُضعوا فيها، تحوّل ذلك الموضع الذي ظهرت فيه كرامات إلى مزار ومقام ما زال محلاً للتقديس حتى اليوم.

ولما اقترب موكب الرؤوس والسبايا من دمشق خرج يزيد لملاقاته عند ثنية العقاب، وقد أمر بعدم دخولهم المدينة حتى يتم تزيينها لإقامة الأفراح بالانتصار على سيد شباب أهل الجنة!! ولذلك جيء بالرؤوس والسبايا إلى مقبرة باب الصغير حيث كانت مكاناً مناسباً لإنزالهم، لأنه عبارة عن منطقة حصى وحجارة وليس فيه أيّ بنيان وسكن، فبات السبايا هناك ثلاثة أيام، ولذلك فإنّ ما يُنسب هناك من مراقد للسبايا، إنما هي في الأغلب مشاهد وليست قبوراً لهم مثل مشهد سكينة وأم كلثوم عليها السّلام، إذ ليس هناك أيّ سند تاريخي يشير إلى وفاة هاتَين السيدتَين أثناء وجود السبي في دمشق، أو يشير إلى رجوعهما فيما بعد. وما تعظيم هذه الأمكنة في نظر المحبين لأهل البيت عليهم السّلام وإقامة المشاهد فيها إلاّ بسبب نزول السبايا وإقامتهم المؤقتة فيها، وهم في حالة من الاضطهاد والظلم تقرّح الأكباد.

ثم بعدما أقيمت مراسم الفرح والابتهاج من قبل الأمويين أُذِن للسبايا والأطفال ومعهم الإمام زين العابدين عليه السّلام بدخول دمشق ومجلس يزيد، ثم أسكنوهم بعد ذلك في خربة شمالي شرق المسجد الأموي عند باب الفراديس، فباتوا فيها عدة أسابيع قبل أن ينقلهم إلى قصره ويعودوا إلى مدينة جدّهم المنوّرة.

أما رأس الحسين عليه السّلام فقد نُصب على باب مسجد دمشق فترة من الزمن ثم أعاده يزيد إلى قصره. وقد ذُكِر في مكان دفنه روايات متعددة، ولكنّ بقية الرؤوس، وبعدما عُلِّقت على أبواب دمشق أياماً، أعيدت إلى مقبرة باب الصغير ودفنت فيها.

مقام رؤوس الشهداء رضي الله عنهم

على يمين مدخل المقبرة الرئيسية في باب الصغير مقبرة صغيرة مسوّرة تحتضن مقام رؤوس شهداء كربلاء، وهي غرفة كبيرة مرّبعة مبنيّة من الحجر الصخريّ الأبيض والأسود تعلوها قبّة بيضاء، ولها مدخل حسن معقود، تتوسّطه لوحة رخامية نُقِش عليها ما يلي:

وفتيةٍ من بني عدنانَ مـا نظـرَتْ عين الغزالة أعلـى منهـمُ حَسَبـا

من كلّ جسم بوجهِ الأرضِ منطرحٍ وكلّ رأس برأس الرمح قد نُصِبـا

هذا مقام رؤوس الشهداء الستة عشر من أهل العبا، الذين استُشهِدوا يوم طفّ كربلاء مع الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب عليهم السّلام. تشيّد هذا المقام المقدّس بمساعي السيّد سليم أفندي قائمقام مراقد أهل البيت عليهم السّلام في شوال سنة 1330هـ ».

وما أن تدخل الغرفة حتى يطلّ عليك قفص مهيب مصنوع من الفضة، يعلوه تاج مطليّ بالذهب نُقشت عليه آيات قرآنية وأبيات من الشعر الحسيني المتفجّع. وقد وضع هذا القفص حديثاً سنة 1414هـ من قبل أمير الإسماعيليين البهرة المدعو أبو القائد جوهر محمد برهان الدين الفاطمي، بعدما أُزيل القفص القديم.

وداخل القفص أقيم شكل ضريح مغطّى بالقماش صُفّت عليه لفافات صغيرة من القماش الأخضر ترمز إلى رؤوس الشهداء المدفونة تحته وعددها ستة عشر، كما صُفّت أشكال أخرى أصغر منها من قماش أحمر ترمز إلى رؤوس شهداء كربلاء وعددها 72 شهيداً. جوّ الحزن والأسى على ما لاقى هؤلاء الشهداء العظام من الظلم والتنكيل والإكبار لهم على تضحياتهم وبطولاتهم يسيطران على زوار هذا المقام، الذين بعدما يتلون ما تيسّر من القرآن الكريم والأدعية يقرأون الزيارة بانكسار ونحيب لا يخفى، ولا يملكون منع أنفسهم منه.

وبالإضافة إلى المعلومات التاريخية التي تتحدث عن دفن الرؤوس في هذا المقام، فإن حادثة عجيبة لها طابع الكرامة، روى لنا قصتها الأستاذ المؤلِّف لبيب بيضون تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك صحة دفنهم في هذا المكان حيث قال:

« ذكر لي أحد الثقاة من الذين عاصروا متولّي مقامات أهل البيت عليه السّلام في الباب الصغير السيّد سليم مرتضى، قال: تهدم حائط مشهد رؤوس الشهداء فأراد السيّد سليم إصلاحه وتقوية أساسه، فجاء برجل مسيحي ينحت الأحجار، وكان يأتي صباحاً باكراً يعمل حتى العصر حيث يأتي السيّد سليم ويرى عمله.

قال السيّد سليم رحمه الله: وفي يوم من الأيام جئت فوجدت المسيحيّ قد جمع أغراضه في السلّة يريد إنهاء عمله، قلت: ما بك ؟ قال: إذا أنا أردت الاستمرار في العمل عندكم فأخاف أن أترك ديني وأصير مسلماً! قلت: لماذا ؟ قال: البارحة بينما كنت أحفر التراب حول مقام رؤوس الشهداء لأضع الأحجار الجديدة، انفتحت أمامي ثغرة، نظرت منها فإذا بي أرى غرفة فيها عدّة رؤوس بعضها أمرد وبعضها بلحية، وبعضها مغمّض العينين، وأحدها معصّب رأسه.

ثم جاء السيّد ونظر في الكوّة فرأى الرؤوس وعددهم ستة عشر رأساً، مصفوفة على شكر دائرة، وكأنها مدفونة لساعتها، كل رأس منها بشحمه ولحمه لم يُصبه أي فساد أو بِلى والدماء ظاهرة عليه، ثم سدّ المسيحي الثغرة ورحل ». فسبحان الله وجلت قدرته!

والرؤوس المدفونة هناك هي:

من الأصحاب: حبيب بن مظاهر رضي الله عنه، ومن الآل: علي بن الحسين الأكبر عليه السّلام، والقاسم بن الحسن عليه السّلام، عبدالله بن الحسن عليه السّلام.

ومن أبناء الإمام علي عليه السّلام أبو الفضل العباس عليه السّلام، عبدالله بن علي عليه السّلام، جعفر بن علي عليه السّلام، عثمان بن علي عليه السّلام، محمد بن علي عليه السّلام، عمر بن علي عليه السّلام، أبو بكر بن علي عليه السّلام.

ومن أولاد عقيل: جعفر بن عقيل رضي الله عنه، عبدالله بن عقيل رضي الله عنه، محمد بن مسلم بن عقيل رضي الله عنه.

ومن نسل جعفر الطيار عليه السّلام: عون ومحمد ابنا عبدالله بن جعفر.

ويحوي صحن المقام أيضاً مسجداً صغيراً أُعيد بناؤه حديثاً، ويسمى مسجد الإمام زين العابدين عليه السّلام، ويُذكَر أن الإمام صلّى في هذا المكان بعد دفن الرؤوس.

كما يوجد في فناء المقام مدافن متولّي المقامات من السادة آل مرتضى، وأولهم السيّد سليم الذي أشرف على أبنيتها الحاضرة، وحفيده ما زال هو المتولّي الحالي عليها.

مدخل خاص وأضرحة

وننتقل إلى الجهة المقابلة لمقام رؤوس الشهداء، بعد أن نقطع الطريق الفاصل حيث توجد مجموعة أضرحة ومشاهد عائدة لآل البيت عليهم السّلام والصحابة، ونبدأ بالمدخل الخاص الذي يؤدي إلى غرفة قديمة البناء تعلوها قبة خضراء صغيرة، وفوق الباب ثبّتت رخامة نقش عليها عبارة: « هذا ضريح زوجة سيدنا محمد صلّى الله عليه وآله. جدّد بناء هذا المقام المبارك السلطان الغازي عبدالحميد خان ثاني سنة 1327هـ »، وفي مكان آخر كتب: « هذا ضريح السيدة أم حبيبة زوجة سيدنا محمد صلّى الله عليه وآله ». والسيدة حبيبة هي رملة بنت أبي سفيان، هاجرت إلى الحبشة مع زوجها الذي أسلم ثم تنصّر وارتدّ، فخطبها النبيّ صلّى الله عليه وآله من النجاشي ملك الحبشة الذي احتفل بالمناسبة وأصدقها مهراً ثمّ أرسلها للنبيّ صلّى الله عليه وآله.

وتذكر كتب التاريخ أنها توفيت بالمدينة سنة 44هـ، ولا يُعلم سبب وجود ضريح لها في هذه المقبرة.

وهذا ينطبق على الضريح المجاور الذي يشبهه في الشكل والمنسوب إلى السيدة أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية زوج النبيّ صلّى الله عليه وآله بعد ابن عمها أبي سلمة بن عبد الأسد، واسمها رملة أو هند. وكانت هي أيضاً قد أسلمت وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة ثم قدما إلى المدينة، حيث تُوفّي عنها، وتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وآله.

كما يوجد في مكان آخر من المقبرة ضريح في غرفة أكثر إتقاناً لحفصة زوج النبيّ صلّى الله عليه وآله.

ومن بوابة أخرى مجاورة لضريحي السيدتين أم حبيبة وأم سلمة ندخل إلى فناء مقام السيد عبدالله ابن الإمام زين العابدين عليه السّلام. والمقام بناء مرتفع مربع الشكل مبني من الحجر الصخري الأبيض والأسود تعلوه قبة خضراء واسعة وداخله الضريح المغطّى بقفص. والجدران من الداخل كما القبة مزيّنة بنقوش إسلامية وخطوط فنية تتضمن آيات قرآنية وأحاديث شريفة وأسماء المعصومين الأربعة عشر عليهم السّلام. وإلى جوار هذا المقام المحاط بسور منفرد يقع ضريح مؤذن الرسول صلّى الله عليه وآله الصحابي عبدالله ابن أم مكتوم ضمن غرفة مبنية من الحجر الأسود.

مشاهد السبايا وبعض الهاشميين والصحابة

مدخل حديث مبني من الحجر الصخري الوردي نقشت فوق بوابته آية التطهير واسم الجلالة وأسماء أصحاب الكساء عليهم السّلام، يقود إلى مقام السيدتين سكينة بنت الإمام الحسين عليه السّلام وزينب الصغرى الملقبة بأم كلثوم بنت الإمام عليّ عليه السّلام، وهو المقام الأضخم في مقبرة باب الصغير الذي يشاهده الزائر من بعيد، ويميّزه قبابه الثلاثة الكبيرة ومنارته المطلية جميعها باللون الأخضر.

جدران المقام الخارجية مبنيّة من مداميك بيضاء وسوداء من الحجر الصخري، ومدخله مبنيّ من الرخام الوردي الجميل، تعلوه رخامة بيضاء نقش عليها البيتان الشهيران للشافعيّ في مدح آل البيت عليهم السّلام. وتاريخ إعادة تشييد البناء سنة 1330هـ بمساعي المتولّي المرحوم السيّد سليم مرتضى، أما في الداخل فإن القبتين اللتين تعلوان الضريحين المنسوبين للسيدتين وكذلك الجدران كلها مزينة بالزخارف والنقوش الإسلامية البديعة والمقرنصات والمرايا، وبالخطوط التي تحتوي على آيات قرآنية نزلت في أهل البيت عليهم السّلام وأحاديث النبيّ صلّى الله عليه وآله الشريفة بحقهم وأسماء المعصومين الأربعة عشر الأطهار عليهم السّلام.

ونأتي إلى ضريح السيدة سكينة عليها السّلام فنجده مغطى بقماش أخضر مشغول وعليه صندوق خشبي يُذكر أنه صُنِع في العهد العباسي، وقد حفر عليه بالخط الكوفي المشجّر آية الكرسي وآية أخرى وعبارة « هذا قبر سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين وعلى آلهم الطاهرين ».

وسكينة عليها السّلام المشهورة بهذا اللقب هي في الواقع آمنة بنت الإمام الحسين عليه السّلام، وهي أخت عبدالله الرضيع وأمهما الرباب. ويؤكد أكثر المؤرخين أنّها توفيت بالمدينة سنة 117هـ، وهناك من ذكر أنها رجعت إلى الشام وهو قول ضعيف.

ووصفها المؤرخون بأنّها كانت سيدة من العقل الوافر والأدب والظرف والسخاء والفضل بمنزلة عظيمة، وقد أكثر المؤرخون الأمويون من الروايات المدسوسة التي تُنسَب إليها بما لا يليق بشأنها من التصرفات بقصد الإساءة إليها وإلى أخيها الإمام زين العابدين عليه السّلام.

وقد حضرت وقعة الطف مع أبيها عليه السّلام وشاهدت مصرعه. وروى ابن طاووس في كتاب الملهوف أن سكينة اعتنقت جسد أبيها عليه السّلام بعد مقتله، فاجتمع عدة من الأعراب حتى جرّوها عنه، وأُخذت بعد ذلك مع الأسرى والرؤوس إلى الكوفة ثم إلى الشام، ثم عادت مع أخيها الإمام زين العابدين عليه السّلام إلى المدينة.

اما ضريح السيدة زينب الصغرى بنت الإمام علي عليه السّلام الملقّبة بأمّ كلثوم، والموجودة تحت القبّة الأخرى فهو مشابه لضريح السيدة سكينة، وقد ذكر أنها كانت زوجة لمسلم بن عقيل مبعوث الإمام الحسين عليه السّلام إلى الكوفة والذي استشهد على يد عبيدالله بن زياد قبل وصول الإمام عليه السّلام إلى كربلاء، ولها منه بنت اسمها حميدة. وقد رافقت أخاها الإمام الحسين عليه السّلام في رحلة الشهادة إلى جنب أختها زينب الكبرى عليها السّلام، وكان لها مواقف وخطب مشهورة أثناء السبي في الكوفة وفي الشام، والتشكيك يطال مدفنها أيضاً في هذا المكان.

ومما يجدر ذكره أن هناك سرداباً تحت أرض المقام يوجد فيه أيضاً ضريحان من الرخام موازيان للضريحين الرمزيين في الأعلى، ولذلك يسود الاعتقاد ـ ويغلب الظنّ ـ بأن هذا المقام وسواه من المقامات قد بنيت تبرّكاً بمكوث السبايا والأسرى وأهل بيته في هذا المكان، وتقديراً وتكريماً لقربهم من الله تعالى ولجهادهم وصبرهم على أذى الأمويين في سبيل الدين، ولذلك فإن زوار هذه المقامات يذكرون بحنين ولوعة واستنكار ما جرى لهنّ ولشهداء كربلاء أثناء تلاوة الزيارة، سائلين المولى أن ينيلهم شفاعتهم وشفاعة الحسين وجدّه صلّى الله عليه وآله وأبيه وأمه عليهم السّلام يوم القيامة.

ونخرج من هذا المقام لنجد لوحة سجّلت عليها أسماء أصحاب القبور أو المشاهد على المدخل المؤدي إليها جميعاً، وهي مقامات تكاد تكون متشابهة في شكل البناء الخارجي، إذ هي غرف كبيرة عالية مبنية من الحجر الصخري الأبيض أو الأسود أحياناً، ومداخلها وردية مقوّسة عليها رخامة تذكر اسم صاحب المقام وتاريخ تشييده، وقبابها مطلية باللون الأخضر. أما من الداخل فإن القباب والجدران مزينة بالزخارف الإسلاميّة وعليها خطوط فنية تتضمن آيات قرآنية كريمة وأحاديث شريفة وردت بحق أهل البيت عليهم السّلام، وكذلك أسماء المعصومين: النبيّ صلّى الله عليه وآله والزهراء عليها السّلام والأئمّة الاثني عشر عليهم السّلام. وفي كل مقام خادم يهتم بالمقام ويرشد الزوار الذين لا ينقطعون عن التوافد في كل الأيام وخاصة في مواسم الزيارة.

وأول ما يطالعنا من هذه المجموعة مقام السيدة فاطمة الصغرى كريمة الإمام الحسين عليه السّلام حيث يوجد ضريحان واحد علوي رمزي وآخر في السرداب. والسيّدة فاطمة كانت عالمة فاضلة تزوجت ابن عمها الحسن المثنى ابن الإمام الحسن عليه السّلام فولدت له عبدالله وإبراهيم وحسناً وزينباً، وذُكر أن الحسين عليه السّلام لما زوّجه إياها قال له: « قد زوجتك فاطمة؛ فإنها أشبه الناس بأمي فاطمة عليها السّلام بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله »، وكانت من السبايا.

بعده يأتي مقام وضريح السيّد عبدالله بن جعفر الطيار رضي الله عنه، ثمّ مقام يضم ثلاثة أضرحة لنساءٍ هُنّ:

ـ أسماء بنت عُميس زوجة جعفر بن أبي طالب ( الطيّار ) وهي من المهاجرات السابقات إلى الإسلام، هاجرت إلى الحبشة مع زوجها رضي الله عنه فولدت له عبدالله ومحمداً وعوناً. وبعد عودتهما إلى المدينة استشهد جعفر في مؤتة فتزوّجها أبو بكر، فولدت له محمد بن أبي بكر، ثمّ تزوّجها بعده الإمام علي عليه السّلام فولدت له يحيى وعوناً، وتاريخ وفاتها سنة 65هـ.

ـ السيّدة ميمونة بنت الإمام الحسن بن علي عليه السّلام تاريخ وفاتها سنة 85هـ.

ـ حميدة بنت مسلم بن عقيل وأمها فاطمة الصغرى أم كلثوم بنت الإمام علي عليه السّلام.

.. وأخيراً هناك بناء مماثل يضم ضريحي الصحابيَّين: بلال الحبشي مؤذن الرسول صلّى الله عليه وآله، وكانت وفاته سنة 20هـ، وضريح السيّد عبدالله بن جعفر. وليس معلوماً إن كان هو ابن الإمام الصادق عليه السّلام أو من أحفاده كما يذكر ياقوت الحموي، وتذكر الكتب التاريخية قبوراً أخرى لمتوفَّينَ من آل البيت عليهم السّلام وأحفادهم في هذه المقبرة.

مشاهد في الطريق إلى حلب

تنطلق بك السيارة من دمشق إلى حلب على طريق واسع حديث غُرست على جانبيه الأشجار التي تبعث في النفس الراحة، كما تبعثها أيضاً السهول الخضراء المنبسطة المزروعة بأنواع الخضار والحبوب والأشجار المثمرة فتخفف عنك عناء السفر وطول الطريق الذي يبلغ حوالي 400 كلم.

النبك: هي أول مدينة تطالعك في الطريق، وتقع بين دمشق وحمص في سهل زراعي ممتد. وقد ذكر عبدالغني النابلسي في كتابه: « الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز » أن فيها مسجداً صغيراً يقال له مقام فاطمة الزهراء عليها السّلام يزوره الناس ويتبركون به.

أما حمص التي تقع في منتصف الطريق بين دمشق وحلب فهي مدينة مزدهرة زراعياً وتجارياً وعمرانياً، وفيها مشهد للإمام عليّ عليه السّلام يوجد فيه عمود فيه موضع إصبعه، وذلك لمنام رآه بعض الصالحين كما يذكر ياقوت الحموي في كتابه « معجم البلدان ». وفيها مقام لجعفر الطيار رضي الله عنه في منطقة باب الدريب، وقبران لولدين له تحت قبة معقودة، كما أن فيها قبر سفينة مولى رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكذلك قبر قنبر مولى أمير المؤمنين عليه السّلام.

بعد حمص تمرّ الطريق في حماه الواقعة على نهر العاصي، وهي مدينة تاريخية عريقة تشهد حديثاً نمواً وتطوراً، وفي داخلها وجوارها العديد من الآثار والمنشآت الدينية القديمة، منها:

ـ مقام في جامع الحسين المعروف بجامع الحسنين، يقال إنه موضع رأس الحسين عليه السّلام حينما مُرّ به من كربلاء إلى دمشق، ويقع بين حي الباشورة والمدينة.

ويتألف هذا الجامع من صحن مركزي ورواقين في الشرق والشمال، وحرم في الجنوب، وتعلوه قبتان شرقية وغربية. وعليه تاريخ يعود لسنة 552هـ حين أمر بإعادة بنائه الملك العادل نور الدين زنكي، وكتابة أخرى هذا نصها: « جدّد المشهد الشهير برأس الحسين عليه السّلام نزهة أبصار أحمد آغا (...) سنة 1023هـ ».

مقام الإمام زين العابدين عليه السّلام قرب حماة

بد أن تخرج من مدينة حماة، وعلى بعد بضعة كيلومترات ـ حوالي 7 كلم ـ يطالعك على يمين الطريق جبل يتراءى في قمّته مَعْلَم إسلامي مشرق ببياضه.. إنه مقام الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السّلام، الذي يُذكر أنه صلى في هذا المكان الذي كان محطة عابرة لمرور رؤوس شهداء وأسرى كربلاء قبل الوصول إلى حماة، ولذلك أقيم هذا المشهد تبرّكاً بنزول الإمام عليه السّلام وصحبه فيه، وظلّ محل تعظيم واهتمام من قبل الناس وبعض الحكام.

تصعد إلى المقام بالسيارة عبر طريق خاص تشير إليها لافتة على الطريق العام. ومع أن الوقت لم يكن مناسبة زيارة فإن العديد من الزوار وجدناهم أمّوا رحابه وقد جاءوا من حماة وجوارها ومن بلدان عربية وإسلامية عديدة.

بناء المقام التاريخي طالته يد التجديد في أزمنة مختلفة، يدل على ذلك بعض الكتابات المحفورة فوق بعض الأبواب، أحدها يشير إلى أن السلطان المملوكي الأشرف أبو النصر قايتباي قد أمر بعمارته سنة 883هـ، وأخرى تشير إلى تجديدات جرت سنة 985هـ. وهناك أعمال تجديد حديثة وتوسعات أخرى ينوي ـ كما علمنا ـ بعض أهل الخير إضافتها إلى المقام حتى يصبح قادراً على استقبال الزوّار الكُثْر.

والمقام يتألف داخله حالياً من حرم، بوجهته الجنوبية محراب للصلاة تزيّنه زخارف، ويستر الواجهات قماش أخضر وأحمر. ويضمّ القسم الشرقي منه قبراً رمزياً مغطّى بقماش أخضر. ويرتفع فوق هذا الحرم قبتان احداهما أكبر من الأخرى مزينتان من الداخل بزخارف إسلامية، ومطليتان من الخارج باللون الأبيض، ويتقدم من الخارج رواق تحيط به غرف لإيواء الزوار، ويتألف بناؤه من فناءَين متّصلين معاً، مبنيين من حجارة كلسية. وللمقام مدخلان يطلان على الباحة، الرئيسي منهما تعلوه قنطرة كبيرة من تحتها مصطبة للجلوس ذات طراز مملوكي متأخر.

وأخيراً وأنت تجول بين الزوار المنتمين إلى مختلف المذاهب الإسلاميّة تجدهم بين متهجّد بصلاة ودعاء، وبين قارئ للكتاب الكريم أو الزيارة المخصّصة، للحصول على مزيد من الأجر والنشوة الروحية التي يوفرها هذا المكان الطاهر، وكلهم يجمعهم حبّ آل البيت عليهم السّلام والأسى لحالهم جرّاء ما لحقهم من ظلم الأمويين وأتباعهم.

مشهدا رأس الحسين عليه السّلام والمحسن في حلب

يحسّ زائر مقامات ومشاهد أهل البيت عليهم السّلام في سوريا بغضاضة إذا لم يزر حلب ومشاهدها المشرّفة، وإذا ما تسنّى له ذلك فإنه يكون قد ظفر بالزيارة المباركة وبمشاهدة هذه المدينة الهامة والحاضرة التاريخية الكبرى في شمالي سوريا التي تبعد 50 كلم عن الحدود التركية والتي تعدّ ثاني المدن السورية من حيث عدد السكان ومن حيث المكانة الاقتصادية والثقافية. افتتحها المسلمون سنة 16هـ، وفي سنة 333هـ وصلها سيف الدولة الحمداني وأنشأ فيها الدولة الحمدانية، فأصبحت مركزاً ثقافياً وعسكرياً، ومنها انطلقت جيوشه لصدّ هجمات الصليبيين، وفي زمانه انتشر التشيّع والولاء لأهل البيت عليهم السّلام في حلب وأنحائها، ولم ينحسر فيما بعد إلاّ بسبب ضغوط وتعصّب الأيوبيين ومن جاء بعدهم.

بعد زيارة مقام الإمام زين العابدين عليه السّلام في حماه، هنالك حلب التي تطالعك معالمها المتمثّلة بالمصانع والمجمّعات السكانية الحديثة المتفرّقة، قبل مسافة طويلة من الوصول إلى مركز المدينة. وبعد وصولنا قمنا بجولة قصيرة في بعض معالمها الدينية والتاريخية والسياحية وهي كثيرة، وأبرزها: القلعة التاريخية الشهيرة التي تنتصب في وسط المدينة على تلة عالية مستديرة. وبإمكانك أن تشاهد من مرتفعها المدينة متحلّقة حولها، ولكن لا تقع عينك على أطرافها في بعض الجهات لاتساعها، ويلفت نظرك وأنت تُجيله في أنحائها كثرة المساجد الحسنة البناء، المرتفعة المنائر. والقلعة المهيبة نفسها التي مرّت بأدوار تاريخية عديدة تخضع لأعمال ترميم مستمرة للحفاظ عليها كمَعلَم تاريخي وسياحي بارز. ونتوجه لصلاة الظهر في مسجد حلب الكبير وهو مسجد تاريخي تكثر فيه العقود والأعمدة، ويتميز بباحته الواسعة جداً، ويوجد داخله مقام منسوب لرأس النبيّ يحيى بن زكريا عليه السّلام يزوره الناس ويتبركون به، وإلى جوار هذا المسجد يقع سوق حلب القديم الشهير وهو يتميز بسقوفه المعقودة وضيق طرقاته وبشدة ازدحامه وكثرة أجنحته وتعدّد أنواع معروضاته وبضائعه.

بعد هذه الجولة السريعة التي انتهت بجلسة استراحة في حديقة أبي فراس الحمداني، أوسع حدائق حلب وأفخمها، كان الشوق يدفعنا لزيارة المقام المشرّف لرأس سيدنا الإمام الحسين عليه السّلام الذي يسميه الناس مسجد النقطة، لأنّ نقطة دمٍ من الرأس الشريف ذُكر أنّها سقطت على الحَجَر الذي وُضِع عليه في هذا المكان. وهذا الحجر ما زال موجوداً داخل المقام ضمن قفصٍ مذهّب، وموضع النقطة ما زال بادياً عليه.

وقد ذكر عن سبب إقامة هذا المشهد أن أهالي حلب رفضوا؛ استنكاراً لجريمة مقتل الحسين عليه السّلام وأنصاره، أن يستقبلوا موكب رؤوس الشهداء والأسرى والسبايا وهو في طريقه من كربلاء إلى الشام، مع مرافقيه من زبانية يزيد الذين كانوا يتوقون أن تستقبلهم حلب بالزينة والترحاب، ولكن بعدما أغلق الأهالي أبواب المدينة في وجههم، اضطُرّ هؤلاء لأن يبيتوا ليلتهم مع الرؤوس والأسرى في دير يقع على سفح جبل مطل على حلب لجهة الغرب، وهو ما سُمّي فيما بعد بجبل جوشن نسبة إلى اللعين شمر بن ذي الجوشن الذي كان يقود الموكب.

وقد ذُكر أن الراهب النصراني المسؤول عن الدير لمّا علم مَن هم أصحاب الرؤوس والسبايا هاله الأمر، واستفظع هذه الجريمة، وطلب من شمر ـ بعدما أغراه بالمال ـ أن يسمح له بوضع رأس الحسين عليه السّلام في مذبح الدير ليبيت هو معه تلك الليلة. وقد شاهد هذا الراهب في الليل من الكرامات للرأس الشريف ـ ومنها نقطة الدم ـ ما جعله يصبح معلناً إسلامه. ومنذ ذلك الحين أصبح هذا الموضع محل اهتمام المسلمين يزورونه ويتبرّكون به ويتذكّرون عنده آلام أهل البيت عليهم السّلام. وقد تحوّل من دير إلى مقام ومسجد مشهود، كانت تطاله يد العناية في أزمان والإهمال في أخرى.

وممن اهتم بعمرانه الحمدانيون، وقد شهد تجديدات هامة في زمن الأيوبيين والمماليك والعثمانيين، ففي سنة 573هـ وبعد ظهور كرامة للحسين عليه السّلام شهدها الحلبيون في موضع المقام الذي كان دارساً، بادروا إلى بنائه بمساعدة الملك الصالح ابن الملك العادل نور الدين. وقد زاره صلاح الدين يوسف لمّا مَلَك حلب وأطلق له عشرة آلاف درهم، ولما ملك ولده الظاهر حلب اهتم بالمشهد ووقف عليه وقفاً، وجعل نقيبَ الأشراف العالم الشيعي شمس الدين أبا أعلى بن زهرة الحسيني ناظراً عليه. ولما ملك ولده العزيز حلب استأذنه القاضي بهاء الدين بن الخشّاب في إنشاء حرم فيه بيوت يأوي إليها من انقطع إلى هذا المشهد، فأذن له.

واستولى التتار على حلب قبل أن يتم البناء، وقد دخل هؤلاء المشهد فأخذوا ما فيه من نفائس وذخائر وشعثوا بناءه ونقضوا أبوابه. ولما ملك السلطان الظاهر حلب جدّده وأصلحه ورتّب فيه إماماً ومؤذناً وقيّماً، وبقي بعد ذلك مدة مهملاً إلى أن عاد الاهتمام به أواخر القرن الماضي حيث أصبحت تقام فيه الاحتفالات الدينية التي كان يحضرها رجال الحكومة العثمانية والأعيان والعلماء، وقد أهدى له السلطان عبدالحميد ستاراً حريرياً مزركشاً بآيات قرآنية وُضِع على المحراب، كما جدّد ترميم أرض الصحن ورتّب له إماماً ومؤذناً وخادماً.

ونقترب من المقام المشرّف القائم على سفح الجبل في حي الأنصاري، فنجد فيه بناء تاريخياً شامخاً يطلّ ببهاء بقبابه وحجارته الكلسية الكبيرة المنحوتة وبمظلّته القرميدية الحديثة التي سُقِّفت بها باحته الداخلية، وحوله فراغ من الأرض هي أوقاف له، وندخل من بوابة قديمة فنجد ساحة واسعة حديثة الترميم، وحولها غرف بنيت مؤخراً لإيواء الزوار.

أما عمارة المشهد التي كانت تعتبر من أروع المباني الأيوبية والتي رممت وأعيدت على ما كانت عليه سابقاً، فتدخلها من باب ترتفع فوقه قنطرة تتدلّى منها مقرنصات جميلة وكتابات قديمة محفورة بخط نسخي أيوبي: بسملة.. وعبارة « اللهم صلّ على محمد النبيّ، وعليّ الوصيّ، والحسن المسموم، والحسين الشهيد المظلوم، وعليّ زين العابدين، ومحمد الباقر علم الدين، وجعفر الصادق الأمين، وموسى الكاظم الوفي، وعليّ الطاهر الرضيّ، ومحمد البر التقيِّ، وعليّ الهادي النقيّ، والحسن العسكريّ، وصاحب الزمان الحجة المهدي (عج)، واغفر لمن سعى في هذا المشهد بنفسه ورأيه وماله ».

وعلى نجفة الباب الداخلي يوجد: « بسملة.. عُمّر مشهد مولانا الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السّلام في أيام دولة الملك الظاهر العالم العادل سلطان الإسلام والمسلمين سيد الملوك والسلاطين، أبي مظفر الغازي ابن الملك الناصر يوسف بن أيوب ناصر أمير المؤمنين في شهور سنة ست وتسعين وخمسمائة ».

ويواجهك عند الدخول الواجهة الغربية للباحة السماوية التي سقفت حديثاً بالقرميد والزجاج، وهي الواجهة الفخمة والجميلة البناء والتي تعلو عقداً عالياً يضم القفص الذي يحمي الحجر الذي وضع عليه رأس الحسين عليه السّلام، حيث يتحلّق حوله الزوار يلتمسون منه البركة ويظهرون عاطفتهم ومحبّتهم لأهل البيت عليهم السّلام، ويتوجهون إلى الله من خلالهم لقضاء حوائجهم. وعلى رأس هذه الواجهة لوحة كبيرة نقشت عليها البسملة وأسماء المعصومين الأربعة عشر عليهم السّلام. والواجهة الجنوبية يحتلها المصلّى المستطيل الشكل الذي تعلو سقفه الحجري ثلاث قباب، واحدة منها كبيرة فوق المحراب، وكلها مزيّنة بمتدلّيات ومقرنصات جميلة.

وفي الجهة الشمالية للصحن رواق واجهته عبارة عن ثلاث قناطر، وتعلو الرواق ثلاث قباب تستند إلى زوايا مثلثية كرويّة، ترتكز على أكتاف أربع قناطر متقابلة داخل الرواق. أما في الجهة الشرقية الشمالية من هذا الرواق فممرّ مسقوف يؤدي إلى المطبخ. وأما الجهة الشرقية فتضم المدخل وأربع غرف. وفي الزاوية الشمالية الغربية يوجد ممر مسقوف ينتهي إلى قاعة كبيرة تؤلف وحدة معمارية متكاملة. وإلى جانبها لجهة الغرب غرفتان استُغِلّتا لإقامة مكتبة عامة تحتوي مجموعة كبيرة من الكتب المتعلّقة بأهل البيت عليهم السّلام وتعجّ بالشباب المطالعين. وكان هناك مقابلة مع إمام المسجد والقيّم على المقام وراعي نشاطاته الثقافية والاجتماعية فضيلة الشيخ إبراهيم نصر الله وهو عالم شيعي على مذهب الإمام الصادق عليه السّلام من بلدة « نبَّل » الكائنة في نواحي حلب. وقد تحدّث عن إعادة بناء المقام فذكر أن هذا المقام كان قد دُمّر أكثره بعد الحرب العالمية الأولى لأنه استُعمل كمستودع للذخيرة من قبل الحلفاء، وبعد انتهاء الحرب في 22 تموز 1919م ذهب الألوف من الناس لأخذ السلاح والذخائر منه وفي الأثناء انفجرت قنبلة فجّرت جميع الذخائر وخُرِّب المشهد وقُتل المئات تحت الردم.

وفي عام 1960 قام جمع من علماء المسلمين الشيعة وعلى رأسهم الشيخ إبراهيم الحاج حسين ـ الذي توفي مؤخراً وقبره في باحة المقام الخارجية ـ والشيخ إسماعيل الحاج حسين، والمرحوم الشيخ عباس الحاج خليل، بتأسيس جمعية بهدف إعادة بنائه والاهتمام به، فاستحصلت على رخصة وإذن دائم من أوقاف حلب بالإشراف على المقام وإعادة بنائه. وقد اتصلت اللجنة بالمرجع الديني المغفور له السيّد محسن الحكيم (قده) الذي شجّع الفكرة وأذن لهم بصرف الحقوق الشرعية عليه، كما بذل العلاّمة المرحوم السيّد حسين مكي جهوداً في الشام لتشجيع المؤمنين للبذل على المشروع. وقامت الجمعية بإعادة بناء المشهد بالإضافة إلى مدرسة دينية فيه، وقد استفاد المهندسون من الخرائط الموجودة في دائرة الآثار بحلب لإعادة البناء على ما كان عليه سابقاً، وبذلك حافظوا على طرازه الأيوبي القديم، وقد تحدّث لنا فضيلته أيضاً عن حركة التثقيف والتدريس والتبليغ الناشطة في المشهد والتي يستجيب لها الكثير من شباب وأبناء حلب، وذكر أن إدارة المقام تؤدي بعض الخدمات للزوار الذين تضيق بهم باحاته أثناء مواسم الزيارة ومنها تقديم الغرف والفرش والأغطية للنوم والخدمات الصحية التي يؤمنها المستوصف الخاص. وأخبرنا أخيراً أنه بصدد طبع كتاب عن المقام، ماضيه وحاضره، بالإضافة إلى كتابه « حلب والتشيع » المفقود من الأسواق.

مشهد المحسن

على الجبل نفسه وعلى بعد حوالي 300 متر جنوبي مشهد الحسين عليه السّلام يقوم مشهد آخر منسوب لآل البيت عليهم السّلام، هو مشهد المحسن. وهو المكان الذي ذُكر أنه كان « منطرة » للكروم، وقد وضعت فيه السبايا في تلك الليلة التي بِتْن فيها خارج حلب. وهناك ـ كما تقول الروايات ـ أسقطت زوجة الحسين عليه السّلام الرباب سقطاً سُمّي بالمحسن، وقد أصبح هذا المكان مزاراً لمحبي أهل البيت عليهم السّلام، ولكن طُمست معالمه مع الزمن، إلى أن حدث ذات مرّة أن سيف الدولة الحمداني كان يجلس للنظر إلى حلبة السباق من على دكة على الجبل المقابل، فشاهد نوراً ينزل على المكان الذي فيه المشهد عدة مرات، فلمّا أصبح ركب بنفسه إلى ذلك المكان وحفر فوجد حجراً عليه كتابة نصها: « هذا قبر المحسن بن الحسين بن علي ابن أبي طالب عليهم السّلام »، وكان ذلك في سنة 351هـ، فجمع سيف الدولة العلويين وسألهم هل كان للحسين عليه السّلام ولد اسمه المحسن ؟ فقيل له: إن بعض نساء الحسين عليه السّلام لما وردن هذا المكان طرحت هذا الولد. عندها بادر سيف الدولة لإقامة بناء على هذا المشهد. وقد أضاف عليه قسيم الدولة اقسنقر سنة 582هـ بعض الاصلاحات ووقف عليه بعض الأوقاف. وفي أيام نور الدين محمود ابن زنكي بُنيت في صحن المشهد بيوت ينتفع بها المقيمون به.

وقد أُحدثت اصلاحات وتجديدات في المشهد في أيام الملك الظاهر غياث الدين غازي ابن صلاح الدين، ثم في أيام الملك الناصر بن الملك الظاهر. ولما احتل التتار حلب ونهبوا المشهد وخرّبوه أمر الملك الظاهر باصلاح المشهد وعين له إماماً وقيّماً ومؤذناً.

ويتم الدخول إلى المشهد بعد صعود درج طويل من الطريق من باب كبير يرتفع فوقه عقد عال تتدلى منه المقرنصات والزخارف وعليه كتابة نصّها: « بسملة.. أمر بعمارة هذا الموضع المبارك مولانا السلطان الملك الظاهر غياث الدنيا والدين أبو المظفر الغازي بن يوسف.. في سنة تسع وستمائة ».

وحول الصحن لجهة الشمال والغرب تقوم غرف قديمة لخدم المقام والمجاورين. وعلى الواجهة الشمالية من الصحن كتابة قديمة تحتوي صلاة على « محمد المصطفى وعلي المرتضى وفاطمة الزهراء وخديجة الكبرى.. حتى تأتي على ذكر جميع الأئمّة الاثني عشر عليهم السّلام ».

أما الجهة الجنوبية فتحتوي على المسجد وعلى الغرفة الكبيرة التي تضم قبر المحسن عليه السّلام الذي أقيم عليه صندوق من خشب على جهاته الأربع نقوش ملونة ورسوم قناديل مدلاّة وسورة التوحيد. ويدور حول إطار الصندوق من أعلاه كتابة بالخط الكوفي المزهّر يصعب قراءتها، وهي تعود إلى أيام الطاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي أو لأوائل عهد المماليك، ولا يخلو هذا المشهد من الزائرين سواءً من أهالي حلب وجوارها، أو من القادمين من مختلف البلاد الإسلامية.