b4b3b2b1
مرقد النبي قيدار (عليه السلام) في خدابنده | مزار العلوية شريفة بنت الحسن عليهما السلام | مرقد سيد الأوصياء.. باب مدينة العلم والسلام | مرقد الحمزة الغربي.. مشهدٌ يلوح بالإباء ويقارع الزمان بالبقاء | مرقد القاسم بن الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) | السيد حارث بن أحمد (خاك فرج) | الخلّاني.. مسجد ومزار يزين قلب بغداد | اِستراتيجيّة الكوفة في خلافة الإمام عليّ عليه السّلام | مرقد عون بن عبد الله رضوان الله تعالى عليه مزاراً ذو طابعاً روحاني ودعاء مستجاب  | مرقد الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) | إبراهيم الخليل (عليه السلام)... من المقام المقدس حتى أرض المحرقة | بُراثا في التاريخ |

واسط

 

27 شعبان المعظم 1433 - 17/07/2012

سُمّيت واسط واسطاً لتوسّطها بين الكوفة والبصرة والأهواز: فهي على خمسين فرسخاً من كل واحدة منها. وقد كانت أعظم مدن طُسوج كَسْكَر، بل كانت إحدى مدن العراق الكبرى الثلاث قبل بناء بغداد.

ابتنى الحَجّاج، في أيام عبدالملك بن مروان، مدينة واسط في نحو سنة 84هـ ( 703 م ). وكانت واسط على جانبي دجلة، بينهما جسر سُفن. لها جامعان، في كل جانب جامع. وذكر اليعقوبي أن الجانب الشرقي من واسط كان مدينة قبل زمن الحجاج. وبنى الحجاج في المدينة الغربية القصر الأخضر ويقال له القبة الخضراء، وهو المشهور بقبته العظيمة فقد كانت تُرى من أعلاها فم الصلح، وهي على سبعة فراسخ في شمالها.

كانت أرض واسط وفيرة الخصب، وبها قوام مدينة السلام إذا اسنَتَت (1) نواحيها أو عَيَهَت (2). وكان خراجها في العام ألف ألف درهم و 40 ألف دينار على ما ذكر ابن حَوقَل. وكانت أسواقها حسنة عامرة، وقد جُعل في طرفي الجسر موضعان تدخل فيهما السفن لتفريغ وسقها.

وبقيت واسط طوال عصور الخلافة من أشهر مدن العراق. ويظهر أن جانبها الشرقي كان أول ما انتابه الخراب منها. فالقزويني، وكان قاضياً في واسط في النصف الأخير من المئة السابعة الهجرية ( الثالثة عشرة )، ذكر أن المدينة بمفردها في جانب دجلة الغربي. وأشاد ابن بطوطة، وكان فيها في أوائل المئة التالية، بمبانيها الفخمة، وقال إن فيها مدرسة عظيمة حافلة فيها نحو ثلاثمئة خلوة ينزلها القادمون للتعلّم. ونوّه المستوفي، وهو ممن عاصر ابن بطوطة، بما حولها من بساتين النخيل الكثيفة التي ترطّب هواءها كثيراً. وفي نهاية المئة الثامنة للهجرة ( الرابعة عشرة ) ورد ذكر واسط غير مرة بكونها موضعاً ذا شأن في حروب تيمور الذي أقام فيها حامية قوية. ولكن بعد ذلك بنحو قرن، ابتعد مجرى دجلة عن واسط وتحوّل إلى مجراه الشرقي المنحدر إلى القرنة، فاستولى الخراب على سائر المدينة. فلما كتب الحاج خليفة في مطلع المئة الحادية عشرة ( السابعة عشرة )، قال: إنها بمفردها في وسط البرية، وإن النهر قد كان مشهوراً بقصبه الذي تُتّخذ منه الأقلام.

وعلى ما ذكر ياقوت، كان دجلة أسفل من واسط، إذ انفصل عنها، وإنقسم إلى خمسة أنهر عظام تحمل السفن، ذكرها بأسمائها، ثم تصبّ في البطائح. وهذا القول يوافق ما ذكره المصنفون الأولون، فقد ذكر ابن سرابيون، جملة مدن على دجلة أسفل من واسط وفوق القطر، وهي فم البطيحة في المئة الرابعة ( العاشرة ). وأولى هذه المدن: الرصافة في الجانب الأيسر على عشرة فراسخ من واسط، وبالقرب منها نهر يحمل من دجلة شرقاً ويصب في البطيحة، يقال له نهر بان، وفي مصبّه بلدة بهذا الاسم، ويلفظ أيضاً نهر أبان. وأسفله: الفاروث، فدير العمال. وهذه المواضع في الجانب الشرقي، وبأزائها ثلاثة أنهر تجري غرباً وتصب في البطائح، هي أولاً نهر قريش وعليه قرية كبيرة بهذا الاسم، فنهر السيب وعليه بلدتا الجوامد والعقر، فنهر بردودي أوله عند قرية الشديدية. وكلها كانت مدناً ذات شأن في البطيحة حول الجامدة وقربها، ويقال لها أيضاً « الجوامد » ( بصيغة الجمع ). وإلى ذلك فقد وصف المَقْدسي مدينة كبيرة في هذه البقعة تعرف بالصليق على بحيرة حولها ضياع ومزارع حسنة. وكان تجاه هذه الأمكنة على الجانب الشرقي من دجلة: الحوانيت (3) وبها المأصر يشدّ جانبي دجلة.

وتعرف خرائب واسط اليوم بالمنارة أيضاً، لأن منارة قديمة ما زالت قائمة في مسجد الجانب الشرقي منها. وأطلال مدينة واسط واسعة فسيحة تمتد على جانبي عقيق دجلة القديم المعروف اليوم بالدجيلة على نحو 25 كيلو متراً من جنوب شرقي مدينة الحي التي على نهر الغَرّاف.

وقد نَقّبت مديرية الآثار العراقية العامة في أطلال واسط منذ سنة 1936 حتى 1942، وكان مما عُثر عليه في الجانب الغربي: بقايا من جامع الحَجّاج، وقصره الذي كانت تُرى قبته الخضراء من فم الصلح أي من مسافة 35 كيلومتراً، وثلاث طبقات بنائيّة لثلاثة جوامع أُقيمت فوق جامع الحجّاج بعد خرابه. وعُثر بين أنقاض الجامع على أسطوانة من الحجر مكتوبة، جاء فيها « عملوها الواسطيين » ( كذا ) واكتُشف على ضفّتي النهر بقايا الجسر الذي كان يربط جانبي واسط، وعثر في مكان آخر على مئات من دُمى الطين ترقى إلى العصر الايلخاني.

وفي الجانب الشرقي من واسط كُشفت عن بقايا جامع ما زال بابه وإحدى منارتي وبعض جدرانه قائمة حتى اليوم، وعثر في مواضع منه على قبور فيها شواهد مؤرخة بسنوات من المئة السابعة للهجرة. وبعد هذا التمهيد نترك الكلام للشيخ علي الشرقي:

شرع الحَجّاج في عمارة واسط في مكان شديد السَّبخة كثير الحرّ والسَّموم. ومن ظُلم الحجاج وفظائعه أنه سخّر الناس للعمل في بناء المدينة مُجبِراً لهم على ذلك. ومن يستبحْ سفك دماء عشرات الألوف يَسهُل عليه إجبار أمثالهم على العمل القسري. لقد ذكر المبرّد في شرح المثل « تغافل واسطي » أن الحجاج كان يسخّر الناس في البناء فيهربون وينامون بين الغرباء في المسجد، فيجيء الشرطي ويقول على غرة: يا واسطي! فمن رفع رأسه أُخذ وألحق بالعمّال، فكانوا بعد ذلك يتغافلون عن صوته.

وقد هدم الحجاج لعمارته كثيراً من المدن والقرى ونقل أخشابها وأبوابها، حتّى ضجّ الناس من تلك التعديات. ونقل الحجاج إلى مدينته خمسة أبواب من مدينة زندرود والدوقرة وشرابيط وغيرها. وذكر ابن الخطيب ( ج 1 صفحة 75) أن أبا جعفر المنصور نقل تلك الأبواب من واسط إلى بغداد.

نشأت المدينة أولاً على الجانب الأيسر لدجلة، وقابلتها مدينة أخرى على الجانب الأيمن بمكان مدينة كَسْكَر الفارسية. وقد كان لواسط أربعة أبواب: باب الكوفة، وباب البصرة، وباب الأهواز، وبعد ذلك باب بغداد. وللجانب الشرقي منها سور، وكان عمود دجلة يشطرها شطرين يربطهما جسر طوله 680 ذراعاً معقود من السفن على دجلة التي كانت تستقيم مادّةً نابها حتّى تهبط عن واسط، فتنقسم إلى أنهر منها: ميسان الذي كانت عليه مدينة ميسان الفارسية التي طُويت ولم يَبقَ منها إلا البلد المعروف بـ « العُزَير ». ومنها: نهر دقله الذي نهضت عليه واسط الثانية بعد خراب الأولى، والعراقيون اليوم يسمونه ( الدجيلة ). ومنها: نهر الغَرّاف الكثير البركات، وأول ذكر للغراف يتصل بالقرن الرابع للهجرة، فقد جاء في الجزء السادس من ديوان الحسين بن الحجاج ذكر للغرّاف في قصيدة يهجو بها ابن سُكّرة مطلعها:

يا شاعراً أبطحيَّ القفا بغير خلافِ

ومنها يقول:

لكلِّ وافرةِ الحضرِ نضوةِ الأردافِ لها مثير حـراً مثل فوه الغـرّافِ

ونهر الغرّاف هذا هو الذي نشأت عليه واسط الثالثة، ويسمى صدره اليوم « الأعمى »؛ لأن المجرى تحول عنه وصار يجري بين يدي مدينة ( الحيّ ) تلك المدينة التي نهضت على أنقاض واسط الثالثة، وقد انتقل إليها أهل واسط، فمدينة الحي هي واسط اليوم. ومنها: نهر الفضل، ونهر جعفر الذي له اليوم آثار في غرّاف ( البدعة ) تسمّى الجعفري. ومنها: نهر الصلة. كل هذه الأنهر متشعبة من دجلة العمود التي كانت بعد أن تهبط من واسط تنقسم إلى هذه المجاري. وكان العَشّارون يقيمون على محل الانقسام لاستلام الأعشار من السفن المنحدرة والمصعدة. وكان هناك حيّ يسمى حيّ العَشّارين، فارتأى بعض الباحثين أن بقيّته اليوم هي مدينة الحيّ. وإني أعتقد أن هذه المدينة بقية للمدينة الفارسية التي كانت على فرع لدجلة هناك يسمى « زندرود » وترجمة هذه التسمية « النهر الحيّ » وهو اسم المدينة الفارسية التي كانت عليه، فالحيّ: مأخوذ من مادة الحياة وليس هو بمعنى مجموعة منازل، وهذا يجتمع مع قول القائلين أن اسم النهر هناك « النهر الحيّ » لأنهر الغرّاف. إنما كان الغراف وصدره تحت ذلك الصدر الذي يسمى « الأعمى ».

لقد كانت دجلة في عهد الساسانيين تجري بين يدي « المذار »، وهو بلد فارسي دارس لم يَبقَ منه غير مشهد عبدالله بن علي، وموقعه وراء البلد المعروف اليوم بـ « قلعة صالح ». ثم تحوّل مجرى دجلة إلى جهة واسط مما يلي مدينة « السنّ » وهو بلد دارس، ثم تحوّل عمودها جارياً بين واسط والمذار وهو مجراها اليوم المسمّى بشط العمارة. وكانت دجلة تسمى أم الموات؛ لأنها كثيرة التحول فيموت ما كان عليها من الحياض الزراعية. ودجلة المتحولة هي دجلة العوراء التي كثيراً ما تعور متونها لا دجلة بغداد.

محلاّت واسط

أسلفنا أن الطرف الشرقي من مدينة واسط يقال له: واسط، والغربي يقال له: كَسْكَر. وقد عرفنا من محلات واسط محلة الأنباريّين وفيها جامع البلد، ومحلة الزيدية وهي مسكن العلويّين وشيعتهم، ومحلة الزبيدية وفيها الحقول والبساتين، ومحلة الرزّازين وهي المحلة السفلى بواسط، والمحلة الشرقية لوقوعها شرقي واسط، ومحلة الحزاميين وهي في شرقي واسط، ومحلة برجونية، وهي من محلات واسط ولكن ترتفع عنها قليلاً. واليوم يوجد مشهد لسعيد بن جُبير وهو رواق عُقدت عليه قبة، وهذا المشهد هو البقية من برجونية. ولواسط محلات كثيرة لم نقف على أسمائها. وكان في وسط المدينة بناء شامخ ضخم اتّخذه الحَجّاج سجناً ويقال له « ديماس ».

كانت واسط شديدة السَّموم كثيرة الرمال، وهذه الرمال كانت تهب عليها من الغرب. وإلى اليوم يوجد أثر لتلك الرمال بين مزارع الغرّاف وبين الأراضي الخراب التي كانت سقياً لفرات الحلة. والغرافيون يسمّون موقع تلك الرمال بـ « خط الرمال ».

وهذا الخط يمتد بصورة تلول سيارة ومتنقلة، وقد شاهدت بعضها فكانت في عام بمكان وفي غيره بمكان آخر. والمزارع الخضراء الكثيرة ومن حولها الأنهار الكبيرة لطّفت الهواء وزادت في عذوبته صَبوحاً وغَبوقاً.

وقد بقيت تلك العذوبة لواسط حتّى انفتقت في أسفل كَسْكَر واستوسع الخَرق فكوّن بطيحة أثّرت على مناخ واسط وجعلت هواءها غمقاً ذا وَبالة، وتبطّحُ المياه هناك ليس بالطارئ، فقد كانت بطيحة الغرّاف قبل نهر الغراف. كما أن تفتّق دجلة في تلك الأنحاء لا يزال يعاود، والغرافيون يسمّونه « مُوحان ». وقد شاهدت مظهراً منه عام 1914 ـ 1915 في أثناء الحرب العامة الأولى وكابدت ما كابدت من سفالة المقام ووخامة الهواء. وإلى بعض ذلك الويل يشير الواسطي هبة الله:

لله واسط مـا أشـهى المقـامَ بهـا إلـى فـؤادي وأحـلاه إذا ذُكــرا

لا عيب فيها ـ وللهِ الكمالُ ـ سوى أن النسـيم بهـا يفسـو إذا خطـرا

وإلى شبه ذلك يشير البحتري في قوله:

حَنانَيكَ من هولِ البطايح سائراً على خَطَرٍ والريحُ هولٌ دبورها

لأنْ أوحشَتْني جُبَّلٌ وخصاصها فمـا آنَسَتْني واسطٌ وقصورها

وجُبّل هذه التي يذكرها البحتري قرية كبيرة ذات بناء وأسواق كانت على ضفاف دجلة بين موقع الكوت والنعمانية، وكان منها يعبر الطريق الأعظم بين واسط وبغداد، وقد سفّ عليها الماء. وفي وقت الجفاف تظهر اليوم هناك آثار عمارة تسميها الأعراب « جنبل ».

الحالة الأدبية في واسط

كان للأدب والعلم سوق في واسط وفيها نَبَغ كثير من العلماء والأدباء والشعراء، ففي كتب التراجم ودواوين التاريخ مئات من هؤلاء الفطاحل. وإلى ذلك يشير السيد محمد المشعشع الواسطي مؤسّس عائلة مَوالي الحويزة:

مدينتـا أرض العـراق بواسطٍ مدينة أهل العلم والفضل والعَمَلْ

وقد تخصّصَتْ مدرسة واسط بعلم التجويد والقراءة وأصبحت محطة علمية لطلاب ذلك العلم، يَفِدون عليها من سائر الأقطار. وتأسست فيها بعض المعاهد العلمية، من جملتها: مدرسة الغرباء، التي كانت تشتمل على ثلاثمائة خلوة.

وفي الأقلام العربية « القلم الواسطي » وهو مشهور كالقلم الكوفي والحِيري والأنباري، وفيه مظهر من مظاهر تدرّج الخط العربي ورقيّه.

ولم يغفل كتّاب آداب اللغة العربية شأن واسط، بل دوّنوا كثيراً من الكتب في تاريخها وحوادثها وتراجم بيوتاتها والمشاهير من رجالها، ولكن ذهبت تلك النفائس وانطمست فعادت واسط من البلاد المنسيّة. وقد عثرنا في بعض المراجع على ذكر بعض الكتب التي وضعت في تاريخ واسط، منها: كتاب أبي عبدالله محمد بن سعيد الدبيثي المتوفّى 637هـ والتعليق عليه للجلابي، وتاريخ السيد جعفر المعروف بتاريخ الجعفري، وتاريخ بخشل، وتاريخ أسلم بن سهل. هذا بعض ما وجدنا له ذكراً، وكل هذه لا يوجد لها اليوم أثر على ما أعلم.

وقد قامت في واسط نقابة للطالبيين وجدنا ذكراً لجماعة من نقبائها في كتاب الأنساب لمؤلفه مؤيد الدين، واسم الكتاب ( المثبت المصان بذكر سلامة آل عدنان )، فمِن نقباء واسط: مؤيد الدين عبدالله المتوفّى سنة 787هـ، وأبو عمر المعروف بجلال الدين، وأبوه محمد قوام الدين، وأبوه عبدالله وأبوه طاهر، وأبو علي سالم وأبو اليعلا وأبو البركات محمد والأمير محمد بن الأشتر ومحمد بن عبدالله الثالث وعلي بن عبدالله الثاني.

الحالة الاقتصادية في واسط

كانت واسط في موقع اقتصادي مهم يشغله أهل التجارة من بغداد الذين استوطنوا واسطاً، وذلك لكثرة ما يتسنّى لهم من العمل هناك. وهو الموضع الواقع في متوسط العراق بين البصرة والكوفة وبغداد والأهواز وبلاد الجبل، فكانت واسط الطريق التجاري العظيم الذي تصعد إليه السفن من البصرة وتنحدر من بغداد. وواسط كثيرة الخصب وافرة الحصيلة. والكتب حافلة بأخبار رخائها، وآخر من ذكر رخاءها ياقوت الحموي.

وقد كان للحركة الاقتصادية هناك أثر كبير في ميزانية الدولة ووفور المال، وهذا هو الذي شجع الحَجّاج على تثقيل الجباية، فقد ذكر ابن الأثير ( ج 5 صفحة 19 ) أن الحجّاج تشدّد في وضع الضرائب على كور واسط حتّى أن الأمراء من بعده كانوا يستنكفون عن ولاية الخراج في واسط خوفاً من نقصان الخراج إذا هم خفّضوا الضريبة، والاستمرار على ظلم الناس إذا راموا جباية ما كان يحمله الحجاج إلى الخليفة من المال. وقد حضر ابن هرقل ارتفاعها إلى الديوان بمدينة السلام عام 358 للهجرة، فكانت ستة ملايين من الدراهم. وهذا الخصب هو الذي حرك السيد محمد المُشَعشع وولده المولى أعلى لاحتلال واسط، فجرى عليها الخراب والدمار. لقد كان السيد محمد في مناجزته لحكام الحويزة كلما قلّت مؤنة جيشه واحتاج إلى الميرة تذكّر الخير في واسط فيتراجع إليها لِيتَموّن، ولكن سكانها يمنعونه عنها فيشتبك معهم على أبواب واسط، وكم من مرة حاصرها بأصحابه ونهبها.

التجدد والدثور في واسط

تلوّنت مظاهر واسط وتنقلت بين محنة تارة ورفاهية أخرى حسب الظروف، ولم أعثر على بسطٍ جامع لأخبارها التي وصلتنا متقطعة تنقص سلسلتها حلقات كثيرة، فاضطُررت إلى التقاط كلمات العلماء التي لها مساس بالبحث وجاءت في غضون أبحاثهم، بغيةَ أن أؤلف منها مجموعة عما طرأ على واسط من تجدد ودثور.

عاشت واسط الأولى حتى القرن التاسع للهجرة، وقد تعرّفت على شيء عنها في القرن الأول وبسطته فيما مرّ. أما القرون الأُخر فسوف نوافيكم بموجز عنها، اعتمدنا فيه على كتب « حضارة الإسلام » و « مجالس المؤمنين » وابن الأثير والأبشهي والمسعودي والبلاذري وابن حَوقل وابن جُبَير وابن بطوطة وابن السوادي.

كانت واسط في القرن الثاني مدينة طيّبة الأقليم، ومبانيها من الإحكام بمكان سامٍ، ومنها القصر الذي أنهضه الحجاج فإنه لم يَزَل ماثلاً إلى الربع الأخير من القرن الثاني، والناس يقولون عنه « الخضراء »، وله قبة مشهورة في المباني الإسلامية حتى قيل إنه ما بُني لأحد مثلها قبل الحجّاج. وفيه أحواض من رخام كثيرة يرقى إليها الماء من دجلة، أعظمها حوض من الرخام الأخضر في مجلس به سرير مذهّب كان مَقعَد الحجاج في مجالسه العامة، وهذا القصر بهيج مزخرف بأنواع الزينة.

وكانت في واسط فنادق مطلّة على دجلة حيث الجسر المعقود، وفي واسط سوق شهيرة للخيل، وكان لها موسم معلوم من السنة. وقد كانت المدينة زاهية في بداية هذا القرن ومن أعمر بلدان العراق، ولكن وفد عليها الطاعون الجارف سنة 116هـ. ومن بعد تلك الكارثة نزلت بالناس السنون وأخذتهم المجاعات، فأتى على واسط الخراب والانحلال، وتجافى الناس عنها بما توالى من الفتن التي وقعت في صدر الدولة العباسية، إلى أن استقر الوضع فسارع أرباب التجارة إلى استيطانها، وعادت إلى زهوها القديم.

وكانت في القرن الثالث والرابع مدينتين عظيمتين على جانبي دجلة يحدّها من الغرب الأرض الخراب بعد مزارع يسيرة، وهي شَجراء كثيرة الخصب هواؤها أصحّ من هواء البصرة، ورقعتها واسعة، ونواحيها فسيحة، وعماراتها متصلة، ولم يكن حولها بطايح. تكاثر فيها البَغادِدة وانحدر إليها الخليفة المعتمد، بعدها صارت مليئة بالحوادث والفتن، وتنازعها أمراء البطايح التي امتدت إليها ونشأت حولها، ففي بداية القرن الخامس حدث بواسط خَرْق في أسفل كَسْكَر، فاستوسع وأُعورت دجلة من عدة مواضع فأهملت وتكونت بطايح مرة أخرى.

وفي القرن الثامن شاهدها ابن بطوطة فوصفها بأنها مدينة حسنة الأقطار، كثيرة البساتين والأشجار، فيها أعلام يهدي إلى الخير شاهدُهم، وأهلها من خيار أهل العراق، وفيها مدرسة عظيمة حافلة ينزلها القادمون لتعلم التجويد بالقراءة عمّرها الشيخ تقي الدين عبدالمحسن الواسطي. وكان يعطي المتعلم فيها كسوة ويُجري عليه نفقة لكل يوم، وكان يجلس هو وإخوانه وأصحابه للتعليم في المدرسة.

وجاء القرن التاسع للهجرة على واسط وهي كما وصفها صاحب « جريدة العجائب »: من أعمَر بلاد العراق وعليها المعوّل لولاة بغداد، زاهية العمران برغم الهَزاهز والمحن التي تعاوَرَت عليها. وآخر عهدها بالمحن الغارة التي شنّها عليها السيد المُشَعشع سنة 844هـ، ولكن الواسطين كشفوه عن مدينتهم فتراجع وملء جوانحه عزيمة ورغائب للاستيلاء على تلك المدينة الغنية بيت أحلامه وأمانيه. وقد انتقلت هذه اللوعة من الوالد إلى الولد، ففي عام 858هـ اعتزم المولى علي بن محمد المشعشع على تدويخ العراق وانتزاعه من يد المغول، فهاجم واسط وقاوَمَه أهلُها وعلى رأسه الحاكم المغولي أمير أفندي، فطوّقت جيوش المولى علي المدينة بعد أن قلعت الأشجار والنخيل. وقد أبلى الواسطيون أحسن البلاء، ولكن عبثت في مساكنهم قذائف المنجنيق وخرّبت العمارات وقتلت كثيراً من الناس، وشعروا بخطر الاحتلال فتآمروا مع عامل المغول على الجلاء والانحدار إلى البصرة ولكن بعد تخريب المدينة التي يغارون عليها من استلام الغازي لها سالمة، فخربوا واسطاً، واحتلها المولى علي ركاماً وأقام في خراباتها عاملاً له « دراج » وقفل عنها.

وبهذا اندثرت واسط الحجاج وقامت قريباً منها واسط الثانية، وذلك أن الواسطيين بعد انحلال أمر المولى علي وقتله على أبواب بغداد عندما هاجمها تراجعوا وأسسوا واسط الثانية تحت الأولى بمسافة هينة وفي قربها على نهر ( دقله ). ولم يكن لهذه الثانية شأن كبير، كما أنها لم تَعِش أكثر من قرنين حتّى تنازلت عن كونها مدينة إلى قرية نشأت على الجانب الغربي من الثانية وتبعد عنها قليلاً، وهي واسط الثالثة التي كانت على فوهة الغرّاف والتي كانت تأخذ من دجلة يوم كانت تستقيم من هناك. والغَرّافيون يسمون تلك الفوهة أو ذلك الصدر بـ « الأعمى ». فعمي ذلك الصدر وبقيت واسط الثالثة إلى أواخر القرن الثالث عشر للهجرة، ونشأت مدينة ( الحيّ ) ويوجد اليوم كثير من الواعين الذين شاهدوا واسط الثالثة.

بقايا واسط الحَجّاج

تلول وخرابات تقع في الشمال الشرقي لمدينة الشطرة وتبعد عنها 36 ميلاً، ولا أثر بارز لواسط غير باب محرابي مقوّس من أعلاه قليلاً وعليه كتابة غير جليّة؛ لأن الرياح والأمطار خَرَشَتها وطَمَسَت كثيراً منها. وإلى جانب الباب مغارةٌ سَقَط برجها، فهي عمود يلوح من بعيد، تراه شاخصاً في القفر ولا ترى في ذلك القفر غير رمم أطلال وحجارة جرداء، وتلك هي المدينة العظيمة ذات البساتين والنخيل الذي يفوت الحصر، وجذوره يشاهدها العابر حتى اليوم، ويظهر أن ذلك الباب هو باب مسجد واسط وهومسجد الأنباريين.

كور واسط

لم يكن اسم واسط مقصوراً على المدينة، بل كان يطلق على كور واسع يشمل ما بين الأهواز والنعمانية وعذار الحلة وفرات الناصرية. وكانت واسط في بداية أمرها مركز العمل الاداري في كل العراق، وبعد ذلك أصبحت تابعة لبغداد في العهد العباسي والمغولي، ثم تبعت البصرة في أوائل العصر العثماني، فقد كان المتسلّم الاداري في البصرة يضاف إلى عمله عمل الجزائر وواسط، ويراد كور واسط، وإليك بعض المواقع من ذلك الكور:

« زَنْدَرُود » مدينة فارسية قرب واسط.

« سابُس » بضمّ الباء، نهر فارسي كبير وعليه قرى كثيرة، وهي تلول مبثوثة بين مدينة الحي والعَدْوة اليمنى لدجلة في الموضع المعروف بـ « جزيرة الرفاعي ».

« ساسي » تل على نهر فارغ شمال الشطرة بمسافة هينة ويسمّونه اليوم « ساسه »، قرية فارسيّة تحت واسط، ويُنسَب إليها أبو المعالي ابن بدر الساسي.

« بزوفر » ويسمونه اليوم أبو زوفر، تل كبير حول صدر الغراف وراء الناحية الادارية المسماة بـ « الموفقية » والتي كانت قائمة على النهر الموفقي، ذلك النهر الذي أقام عليه الموفق العباسي عند محاربته لصاحب الزنج في واسط. أصل هذا النهر فارسي مثل اسمه، وكان من أعمال قوسان الفارسية الواقعة قرب واسط.

« كَسْكَر » بالفتح ثم السكون من أكبر طُسوج الفُرس في العراق، إنها مدينة سهلية ذات إحازات ونواحٍ، قَصَبَتها « خسرو سابور » وهي الجانب الشرقي من واسط. وكانت قبل الإسلام مملكة مستقلة، وفي زمن الفتح كانت قطيعة ( لترسي ) ابن خالة كسرى. أما خمائل كسكر وحقولها فمشهورة في العهدين الأموي والعباسي، وكانت البقية منها تسمى « عمر كسكر » بضم العين، وكان ديراً للنصارى آخذاً من قولهم عمرتُ ربي أي عبدته، وهو منتزه كبير كان يسمى « عمر واسط » و « عمر كسكر »، وللنصارى احتفاء به واهتمام.

« برجوينه » محلة من محلات واسط كانت منتزهاً للواسطيين، تكثر فيها الأشجار والأزهار والعمارة الأنيقة، لكنها اليوم صعيد زاري، والغَرّافيون يعرفونها بقبر سعيد، وهو سعيد بن جُبير التابعي الشهير قتيل الحجّاج، وله مشهد هناك يحيط به حصار وعليه قبة يقصده الزوار.

« أم عَبيده » قرية فوق واسط بينهما طريقان براً ونهراً، وقد كانت عامرة شَجْراء يكثر فيها الغروس. زارها ابن بطوطة، وذكر صدراً من أخبارها، وهي اليوم في قفر واسع يُعرف بـ « جزيرة الرِّفاعي ». وليس فيها شيء ماثل غير رواق السيد أحمد الرفاعي الذي يلوح بقبته للسالكين، وقد نهض هذا الرواق في القرن السادس للهجرة ولا يزال يُرمَّم. وآخر تجديد له على نفقة العثمانيين على يد هداية باشا والي البصرة.

« الزَّبيدية » غربي نهر الغرّاف، وهي اليوم مزرع عامر، وموقعها قبالة واسط وتبعد عنها بمسافة ثلاثة فراسخ، فيها آكام مبثوثة، ذكرها الحموي. ويظهر أنها غير الزبيدية التي هي محلة من واسط.

« العمرانية والشاهانية » تلاّن كبيران في جنوب الشطرة، وهما بلدان لعمران بن شاهين الخفاجي أمير الغَرّاف والبطايح، سُمِّيتا باسمه واسم ابيه. ويوجد في مكان آخر من الغراف تل يُقال له ( العمرانية )، وهي بلدة أخرى لعمران.

« الزاوية » مزرعة كبيرة في صدر الغراف، فيها رمم أطلال، ذكر الفيروزآبادي أنها بُليدة بواسط.

« الرصافة » تلول متداخلة تقع شمال الشطرة، وهي رصافة واسط، ذكرها الحموي.

« المداخن » تل يقع في شمال الشطرة، وهذا التل أحد المناظر التي اتخذها الحجّاج بين واسط والأهواز حيث المقر العسكري هناك. وكان مركز القيادة في واسط، فإذ احتك الخوارج بالجيش واحتاج الجيش إلى مدد دخّن أهل الأهواز فتدخّن المناظر كلها نهاراً وتوقد النار ليلاً، وبذلك يصل النبأ فتتوجه النجدة.

تلاّن آخران في تلك الأنحاء سُمّيا « المناظر ».

« ساقية سليمان » قرية بواسط.

« شلمغان » ناحية فارسية من نواحي واسط.

« شافيا » من قرى واسط بناحية نهر جعفر.

« الشرابيط » كورة كبيرة من أعمال واسط.

« برجلان » من قرى واسط، وهي اليوم موجودة في البطايح.

« الأفشولة » قرية غربي واسط.

« الجامدة » قرية كبيرة من أعمال واسط، وهي التي نشأ بها عمران بن شاهين، ومكانها اليوم معروف بالبطايح.

« الحوز »، « الخسروانية »، « أوداز »، « بثا »، « الرياحية ».. كل هذه وغيرها كانت قرى عامرة في كور واسط. وهناك مدينتان فارسيتان هما « الدوقرة » « والشرابها » لا يُعرَف مكانهما اليوم.

هذا غيض من فيض من كور واسط الذي دُرِس وانطمست آثاره.