27 شعبان المعظم 1433 - 17/07/2012
مرفأ في جنوب باكستان على بحر عُمان كان في الأصل مدينة صيد، وفي العام 1843 هـ احتلها الإنكليز وأنشأوا فيها مرفأ للتجارة ( 1850 ـ 1873 ). ولما أُنشئت دولة باكستان عام 1948 جُعلت كراتشي عاصمة لها حتى سنة 1960 فنقل العاصمة إلى إسلام آباد التي بُنيت حديثاً لهذه الغاية.
تقوم في كراتشي عدة صناعات هامة منها صناعات ثقيلة. ولا تزال كراتشي أعظم مدن باكستان وأكثرها عدد سكان. ويسكنها الكثير من الشيعة، ومن أحيائهم القديمة فيها حي كرادر ويسكنه قدامى الشيعة في المدينة. وكان هذا الحي في الأصل حياً للآغاخانيّة ثم أخذوا يتحولون إلى المذهب الجعفري حتى كثروا، فأرادوا إنشاء مسجد وحسينية فعارضهم الآغاخانيون، وحدث صدام بين الفريقين ثم تم إنشاء المسجد والحسينية.
ويعرف هذا الحي الآن بأنه حي الشيعة الأول وإن كان يشاركهم فيه الآغاخانيون ولهم فيه بعض المعابد، وكذلك السنيون الذين يطلق عليهم فيه اسم ميمن.
وقدامى الآغاخانيين في هذا الحي هم من أصل هندوسي. ومن الاصطلاحات الهندية الباكستانية أن كل من أسلم من الهندوس على أي مذهب كان يُطلق عليه لقب ( الخوجا ) بشرط أن يكون من المناطق الآتية: سورت وكما تياوار وكجرات وبومباي والسِّند، ويظل هذا اللقب مطلقاً على الأبناء والأحفاد، وبذلك كان حي كرادر في كراتشي حي الشيعة الخوجا.
وقد شهدنا فيه ليلة مولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام في 13 رجب سنة 1383 / 1964 ويسمونها ( يوم علي )، فرأينا الحي مزداناً بالأنوار على كل شُرفة وجدار وباب، ورأينا الاحتفالات تقام في كل مسجد وحسينية وفي البيوت، وتستمر الاحتفالات في كراتشي كلها خمسة أيام.
ومن تقاليد هذه الاحتفالات: أن يصنع كل بيت أنواع الحلويات، وأن تُضاء فيه الشموع ويُحرق البخور، ثم يجتمع أهل البيت ويقرأ كبيرُهم الفاتحة مُهداةً إلى الإمام علي عليه السّلام، ثمّ يتزاور الناس، وتُقدَّم هذه الحلويات للزائرين.
كما شهدنا حفلاً ضخماً ليوم ( عليّ ) أُقيم في ساحة من ساحات كراتشي حَضَرته الألوف المؤلّفة، وازدحمت فيه بكل نظام وترتيب وهدوء. افتُتح بتلاوة القرآن الكريم، فلم يكد يعلن عريف الحفلة عن ذلك حتى وقفت الجموع كلها على أقدامها تستمع واقفة بخشوع إلى كتاب الله مما ليس له مثيل في أي بلاد إسلامية أُخرى.
ثم تتالى الخطباء والشعراء، فكان الشعراء ينشدون قصائدهم إنشاداً جميلاً مؤثراً يهزّ النفوس. وإذا أراد أحد التعبير عن استحسانه لما يُتلى من شعر أو نثر هَتَف بقوله ( سبحان الله ) يقولها بنغمة حلوة عذبة، فإذا ازداد الاستحسان وقف المستحسن ملتفتاً إلى الحاضرين هاتفاً بأعلى صوته: ( نعريي حيدري ) فتجيبه تلك الألوف بصوت واحد منادية: ( يا علي )، تقولها بهدير منتظم تحسبه لانتظامه صوتَ رجلٍ واحد لا صوت ألوف وألوف، وتقولها بطريقة جميلة مثيرة تلامس شغاف القلب، فيتفجّر السامع عاطفةً وحناناً وحماسة ورقّة... ولم أنفعل في حياتي كلها كما انفعلت وأنا أستمع إلى تلك الحناجر تهتف: يا علي!.. ثم شهدنا ذلك في الباكستان كلها. ( بنعريي حيدري ): صرخة حيدرية وهي الكلمة العربية الأصل: ( نعرة ) ومعناها: صرخة.
وبعد تقسيم شبه القارة الهندية أصبحت كراتشي أكبر موطن للشيعة في الباكستان، إذ هاجر الشيعة فيمن هاجر من مسلمي الهند وقصد كثير منهم إلى كراتشي، فنشأت لهم أحياء جديدة هي: رضوية وكوليمار والفردوس، وهذه الثلاثة أحياء شيعية بحتة. ويتجمع الشيعة في أحياء أُخرى في ناظم آباد ولياقت آباد، وبحش، وحيدر آباد، ( ويسكنه النازحون من حيدر آباد الدكن )، ومحمود آباد، وحيّ الموظفين الحكومي التعاوني، وحي محمد علي، وبهادر آباد، وبنكلور، وأهالي بهار، وحي السادات، وسعود آباد، وشارع دريغ، وملير، وحسين آباد، ومحمد آباد، ولاني، وكورنغي. وهناك جماعات شيعية متفرقة في كل أحياء كراتشي وفي جميع أحيائهم لهم مساجد وحسينيات وجمعيات.
وفي أواخر العام 1963 زرت كراتشي فكتبت عنها ما يلي:
في مطار كراتشي
اللطف والإيناس هما اللذان يطالعانِك في أول خطوة تخطوها في مطار كراتشي، ثم يمضيان معك أمام رجل الجمرك الذي يكتفي بإلقاء نظرة على ظاهر حقيبتك ثم يَسِمُها بالبياض. وأما رجل الجوازات فلا يُشعرك بالغربة والوحشة، وأمام كل من تلقاه في مطار كراتشي من رسميين وغير رسميين.
وتتطلع عيناك في رحاب المطار فترى لغة ( الأوردو ) الباكستانية بحروفها العربية تتناثر في الجدران وعلى الأبواب. ولغة الأردو هذه حَفَلَت لا بالحرف العربي وحده، بل بالكلمات العربية الأصيلة، فعلى باب ترى مكتوباً ( صحة عامة ) وعلى باب آخر ( مسافرون ) أو على آخر ( توطن )، كما عُبّر في إحدى اللوحات عن السيدات بالخَواتين.
وفي مكاتب المطار فتيات موظفات شأنهنّ شأن الموظفين فيه، ويتميزن عن غيرهن من الموظفات في البلاد الأخرى بالذوائب السود المجدولة المتدلّية على ظهورهنّ، كما كانت هذه الذوائب تتدلى من شعور كثير ممن رأينا من فتيات سافرات.
وإذا كان توظيف الفتيات في مكاتب المطار ذا دلالة خاصة، فإن هذا ليس المظهر الوحيد للمرأة الباكستانية، ففي نفس المطار إلى جنب المسافرات كانت بعض المودّعات أو المسافرات يتجلببن بما يشبه ( الملاية ) ببرقعها المرخى على الوجه، ويفترقن عن لابسات ( الملاية ) بالسراويل البيضاء المسترسلة تحت ( الملاية ) إلى القدمين.
أسواق طريفة
يربط شارع البندر بشارع روبسن في كراتشي أسواق من أطراف ما يشاهد السائح في بلد من البلاد!
فعلى طول شارع روبسن، ومن الضفّة المواجهة لشارع البندر تتفرع هذه الأسواق منطلقة إلى الشارع مستقيمة تارة دون تشعبات، ومتشعبة تارة بانفراجات تختلف سعةً وتتباين طولاً!
وهذه الأسواق من شرطها الضِّيق حتّى لا تكاد تتّسع لأكثر من اثنين، وهي بهذا الضيق تمتد طويلة من ضفّة الشارع الأول إلى ضفة الشارع الآخر!
ومن شرطها أن أرض حوانيتها مصاطب ترتفع عن أرض الشارع بعض ارتفاع، فيجلس عليها أصحابها متربعين أو « مُقَرفِصين » بلا مقاعد ولا مساند مما تجد به شبيهاً في بعض الأسواق العراقية في بغداد وغيرها!
أما العملاء فلا يتكلّفون الوقوف على أقدامهم، بل إن لهم كراسي مرصوصة رصّاً على باب الحانوت، فتراهم جلوساً عليها يناقشون ويطيلون التناقش!
وإذا عرفتَ أن عملاء هذه الأسواق هم النساء لم تعجب إذا رأيت حرص التجار على إعداد المقاعد لهنّ، فإلى أن يقرّ قرار السيدة على البضاعة المختارة وإلى أن توافق على الثمن، فإن وقتاً طويلاً سينقضي مما تكلّ معه الأقدام الواقفة، فلابد من كراسٍ على طول السوق الطويل مما يزيده ضيقاً على ضيق!
والنساء المشتريات هن صنوف شتّى تتمثل في مظاهرها ما تعبّر مخابرها من ميول، فمن لابسة البُردة الفضفاضة البيضاء التي تجلّل المرأة من رأسها إلى قدميها عدا فتحتين مشبّكتين عند العينين، إلى لابسةٍ ما يشبه العباءة العراقية، إلى لابسة الساري، إلى غير ذلك مما تتباين فيه أزياء السيدات في هذا العصر!
والبضائع في هذه الأسواق كلها بضائع نسائية، فمن نسيج برَّاق الألوان مقصّب الأديم يتألق تحت المصابيح وهّاجاً متلألئاً بأشكال تخلب البصر، حتّى كأن السوق قد استحال إلى زينة وضَّاءة بما رُصف على الجدران أو عُلّق على الحبال من ضروب النسيج الزاهي اللامع، إلى أحذية إلى عطور إلى دَمالج إلى مخانق، إلى كل ما يمكن أن تفكّر حواء في اقتنائه، وما أكثر ما تفكر في اقتنائه!
وأغلب ما تعمر هذه الأسواق في الليل، فإذا دنا الغَسَق ودجا الظلام وهَجَعَت الأسواق.. عند ذلك يدبّ الضجيج في هذه الأسواق ويسطع النور سطوعاً عجيباً من المصابيح القوية المتدلّية من السقف. المصابيح التي يكثر عددها حتّى ليبلغ العشرة في الحانوت الواحد فيتألق الحانوت تألقاً تعكسه نضارة الأنسجة فيبدو كل شيء مضيئاً مشرقاً!
وها نحن في مطلع الليل نعبر سوق ( جامع كلات ماركت ) من ضفة شارع روبسن في زحمة متدافعة، متطلعين إلى صفوف الجالسات وقد غُصْنَ في نقاش طويل واستغرقنَ في تطلع عميق. ولم أر أبداً في حوانيت الدنيا التي رأيتها مثلما أرى في كل حانوت من هذه الحوانيت في هذا السوق من عدد الرجال الموكّل إليهم أمر المساومة والبيع. فمهما عَرُض مدخل المخزن امتدّت على عرضه المقاعد، وحيال كل مقعد مَن يشاغل الجالسة ويحاورها!
ومما يُذكر أني عبرت سوقاً من هذه الأسواق في نهار اليوم الثاني وقد قارَبَت الساعةُ العاشرة صباحاً، فإذا السوق لا يزال شبه مقفل، وإذا بتجّاره لم يغدوا إليه بعد، إلاّ قليل منهم، ولما تجاوزت الساعة الحادية عشرة وافتتح السوق كله ظل شبه خالٍ من الزبائن، مقفراً من الرواد، وظلت المقاعد عاطلة لا سيدة فوقها، ولا آنسة عليها، مما أشار إلى أن ساعات الإقبال على هذه الأسواق هي ساعات الليل لا ساعات النهار!
ونفذنا ـ ولا نزال في الليل ـ من ( جامع كلات ماركت ) طالعين إلى شارع البندر، فإذا بالحياة هنا غيرها هناك!
فليس هنا إلا السيارات ( والركشات ) والتراموايات منطلقة في الليل إلى غاياتها، بينما اصطفّ باعة الموز وأمامهم عرباتهم ينادون على موزهم نداء متداركاً، وانتشر باعة المأكولات غير المطبوخة. هذا يضع فوق عربته مجموعة منوّعة من التمر والجوز المكسور وغير المكسور، وذلك يضع الزبيب، وآخر الصنوبر الباكستاني وآخر البرتقال، وقد علق الجميع ( اللوكسات ) تئزّ نارها ويلتهب شعاعها!
أما باعة قصب السكّر فقد سهّلوا على الشارين أمرهم فقطعوه قطعاً مقشورة صغيرة لا يضيق بها الفم، وفعل مثلهم بعض باعة البرتقال فقشروا برتقالهم وربما قطعوه فليس على المشتري أن يتكلف التقشير والتقطيع!
هذا كله على ما جاوز الأرصفة من ضفّة الشارع، أما على الأرصفة نفسها، فقد اقتعد الأرض باعة البوابيج النسائية والمناشف والستائر والأقمشة والحَلَق والمخانق والدمالج ولُعب الأطفال. ونشر بعض الباعة حبالاً علّقوا بضائعهم عليها!
ولعله اقتسام عادل هذا الذي يجري هنا، فالمَتاجر لكبار التجار، والرصيف لهؤلاء الباعة الصغار بأموالهم، الكبار بآمالهم وهممهم!
والعجيب في الأمر أن كل هذه الحركة وهذا الأخذ والعطاء والبيع والشراء يجري ليلاً في ضفّة من ضفّتي الشارع هي المناوحة لشارع روبسن. أما الضفّة المقابلة فخالية إلاَّ من السيارات الواقفة في صف طويل.
وقطعتُ ـ ولا أزال في الليل ـ عرض شارع البندر إلى السوق المتفرّع منه والمناوح ( لأسواق السيدات )، فكنت في شارع يعقوب خان، فإذا الحياة هنا شيء يتباين مع الحياة هناك. وإذا هنا سكون لا يشوبه إلاَّ صوت بائع البرتقال ممتدحاً ببرتقاله من المقشور. ولعل هذا البرتقالي أدرك قلة الرواد فأقلَّ من الصياح فلم يرسله إلا بين الهنيهة والهنيهة، أو لعله شاء أن يتداخل صوته مع صوت نفير السيارة العابرة أو هدير ( الركشا ) الجارية فترك لكل واحدة نوبتها وجعل له نوبة بين نوبة هذه ونوبة تلك.
وهنا شارع يعقوب خان، وأمام حانوت جلال وتحت مكتب المحامي محمد يوسف، وقفت بقرة صفراء مربوطة تقضم الحشيش اليابس، وجلس بائع ( البان ) على الدكة الخشبية العالية يوزع ( بانه ) العجيب، وما أعجب مضغ ( البان )!
وحتّى هنا فالبضائع النسائية هي الغالبة، ومصاطب الحوانيت هي المتعارفة حتّى في حوانيت الخياطين، ولكن مكتبة ( كفاية أكدمي ) شذَّت عن ذلك، ولا بدع، فتجارة الأوراق غير تجارة الأنسجة.
التخفّف من الملابس
هذه القيود التي تفرض على الناس في الحر من ضرورة ارتداء السترة ورباط العنق حتّى في غير الرسميات.. هذه القيود يتحلّل منها الباكستانيون، فالناس هنا في الحر بقمصانهم المفتوحة العنق القصيرة الأكمام على اختلاف صنوفهم يسيرون في الشوارع ويجلسون وراء المكاتب. وإذا استثنينا بعض المرابع التي يديرها أوروبيون والتي تفرض على روادها شيئاً سخيفاً فهي مثلاً تبيح لهم في الجلوس على الموائد نزع السترة ولكن لا تجيز لهم نزع رباط العنق! إذا استثنينا هذا وبعض ما يشبهه كانت القاعدة عامة شاملة. وتَخَفّف الباكستانيون أثناء الحر مما يصنع من الصوف، فاتّخذ معظمهم سراويل بيضاء من القطن وحده، ولكنهم لم يغرقوا في القاعدة فلم يتخذوا السراويل القصيرة التي تكشف عن الساقيين.
وسائط النقل
وسائط النقل هنا طُرفة من الطُّرف، ولن نتحدث عن السيارة والأتوبيس والدراجة مما ألفه الناس ومما هو موجود في كراتشي كغيرها من المدن، بل إن حديثنا عما جمعته المدينة في قلبها من وسائط متباينة، فواسطة النقل التي كانت سائدة منذ ألف سنة لا تزال تسود شوارع كراتشي مع أحدث ما أنتجته معامل النصف الثاني من القرن العشرين، فحين تركنا المطار متجهين في السيارة إلى المدينة شهدنا على طول الطريق الجِمال تَجرّ بأجسامها الشامخة عربات النقل الكبيرة، ومع ما في هذا المنظر من مفاجأة إذ أننا عرفنا الجمل ينقل الأحمال ولا يجرّ الأثقال، فقد حسبنا أن الأمر لا يعدو الضواحي، ولكننا منذ صرنا في كراشي رأينا عربات الجمال بدواليبها المطاطية الضخمة تسير في الشوارع جنباً إلى جنب مع أجمل السيارات متثاقل الخطو، رأيناه هنا يتخلى عن رزانته وتثاقله ويركض بالعربة خبباً وسط الشوارع المزدحمة. وهكذا مَحَت كراتشي الأسطورة القائلة بأن الجمل سفينة الصحراء وجعلت منه عربة المدينة!
وإذا عرفت أن الباكستان بلد زارعي عريق، ثم رأيت ما تنقله عربات الجمال من أحمال زراعية لا يقوى على نقلها غير عربة الجمل، أدركت أن لا غنى عن هذه العربة مهما تقدمت وسائل النقل. وغير عربات الجمل تشاهد في بعض شوارع كراتشي عربات الحمير، وإذا كان ليس بالغريب أن تجرّ الحمير العربات، فإن الغريب هو هذه الرشاقة والخفة التي تجرّ بها حمير كراتشي عرباتها، فإنك لن تجد أصغر حجماً من هذه الحمير ولكنك لن تجد أقوى منها نشاطاً ولا أسرع منها عَدْواً.
وهناك تكسيّات الدراجات النارية ( الركشا ) فقد صنعوا للدراجة عجلتين خلفيتين وصنعوا فوقهما مقعداً يتسع لشخصين فكانتا من وسائط نقل الناس في كراتشي، ولا شك أنها ابتكار حسن بل ضرورة لابد منها.
( والترام ) هو الآخر من وسائط النقل في كراتشي، ولكن إذا كانت المدن في العالم قد أخذت بالترام الكهربائي فإن كراتشي قد أخذت بالترام ( المازوتي )، فقد استغربتُ أن أرى ( الترام ) يجري ولا سلك يمده بالكهرباء ولا حربة تشده إلى السماء، ثم لم ألبث أن بصرت بالدخان الكثيف يتفجر من أسفله أسود قاتماً.
وأخيراً فإن الذين ذللوا الجمال والحمير وربطوها إلى العربات ترقل بها ارقالاً وتركض بها استعجالاً، لم ينسوا أن يساووا بينها وبين ذكور البقر، فربطوها هي الأخرى إلى عربات النقل تتهادى بها بقرونها الطويلة وأجسامها الثقيلة. وإذا كانت الجمال والحمير والثيران قد ذُلّلت لعرباتهم، فمن نافلة القول أن نذكر الخيل وعرباتها.
الحدائق العامة
هنا في هذا البلد حدائق عامة مُعشوشبة شَجيرة يستمتع بها الجمهور في الآصال والليالي، وهؤلاء الفقراء الذين حُرموا من حدائق المنازل يجدون في هذه الحدائق الرحبة والساحات الواسعة ما تستريح إليه جسومهم وتستروح فيه نفوسهم، فتراهم في الأصيل يتقاسمون مقاعدها الحجرية ويقتعدون مرجها الأخضر، بينما يغيب بعضهم في نوم عميق طويل فوق خضرتها اللينة الرقيقة، وهيهات أن يعرف هؤلاء في عيشهم اللين والرقة في غير هذه الحدائق وفي غير عشبها النامي النضير.
وكم أحسَنَ الذين أنشأوا هذه الحدائق صُنعاً حين أقاموها في قلب المدينة خضراء زاهية، فكانت من أفضل ما أدوه من خير للطبقات الشعبية الكادحة، ثم كانت بظلها الوريف مُلطّفة للجو مُعدّلة لحرارته.
الشوارع
وعدا هذه الحدائق فإن في كراتشي شوارع من أحسن ما تعرف المدن من شوارع، فهي رحيبة نظيفة مستقيمة شَجْراء، تمضي في امتدادها بعيداً على اتساع ونضارة وحسن تنظيم، بل إن بعضها يبلغ الغاية في الرونق ويُعدّ مثالياً في عرضه وطوله.
وكراتشي ككل المدن الشرقية ذات وجهين: حديث وقديم. وككل تلك المدن يتباين وجهاها تبايناً أي تباين، فمع تلك الشوارع تقوم الأزقة الضيقة التي تتكاثف منازلها وتتلاصق دروبها مما نعرف له أمثالاً بينة في مدننا العربية الكثيرة!
في الأسواق
لما تَجُول في أسواق كراتشي ترى فعل الحروف العربية في اللغة الأوردية، مما يُخَيّل إليك معه أنك في أسواق عربية بحتة، فهذه اللافتات الكبيرة منها والصغيرة أبرزت الحروف العربية إبرازاً يشدّ بصرك إليها شداً، فما تلبث أن تتبين هذا المزيج من اللغتين الأوردية والإنكليزية وقد كُتب بالحرف العربي فبدت فيه اللغة الإنكليزية محطّمة مهشّمة!
وإذا لم تَعْدُ أسماء الأعلام فإنك واجد فيها صورة عما تجده في أي سوق عربي ما دامت أسماء الناس واحدة في كراتشي وفي كل بلد عربي، ولكن حين تتجاوز أسماء الأعلام تقع في العجيب!
ومن بين اللافتات الكبيرة لافتة بارزة خُطّ عليها هذا الكلام ( دار الأشاعت )! وماذا يمكن أن يخطر ببالك أن تكون ( دار الأشاعت ) هذه ؟ أهي الدار التي تصنع فيها الإشاعات ثم تُبثّ في الناس!؟ أهذا ممكن أن للإشاعات داراً مستقلة في عاصمة من العواصم ؟! وهَبْ أن لها داراً مستقلة فهل من مصلحة أصحابها أن يفضحوها بمثل هذه اللافتة الكبرى ؟! وفي الواقع فإن في كل بلد من بلاد الناس دُوراً لا داراً للإشاعات، ولكن ليس في بلد من تلك البلاد من يعترف بوجودها فكيف به أن يشهرها هذا التشهير ؟!
لا، ليست هذه الدار ( للإشاعة ) بما يمكن أن يتبادر إلى ذهنك، إنها دار لما اصطلحنا على تسميته ( بالنشر ) فهي دار للنشر ككل الدور أمثالها في البلاد العربية، فهم اختاروا كلمة ( الإشاعة ) ونحن اخترنا كلمة ( النشر )، ولا نستطيع أن ندّعي أن اختيارنا هو الأقرب إلى الصواب. وإذا كانت ( دار الأشاعت ) هذه عربية محضة سواء بحروفها أو كلماتها فليست هي العربية الوحيدة، فأنت تقرأ مثلاً على إحدى اللافتات ( محمد سعيد عبدالغني تاجر عطر )، وتقرأ على باب إحدى السينمات اسماً للرواية المعروضة ( عشق ليلى ). ومن أسماء الأعلام التي تلفت النظر أسماء: عظمة الله إسلام الدين، شجاع الدين.
أما الصيدليات فإنهم يطلقون عليها ( دواخانه ) وهو كلام عربي فارسي، ولا بِدع في ذلك ما دامت الفارسية والعربية من أهم الروافد في اللغة الأوردية، وقد رأيت إحدى الصيدليات تحمل هذا الاسم: ( قَومي دواخان ) أي الصيدلية القومية، وكذلك فهم يسمّون العيادات الطبية أو المستوصفات باسم ( شفاخانه )، على أن بعضهم يشتق لها اسم مكان فيطلق عليها كلمة ( مَطَبّ ) وهو كما ترى أسلوب عربي عريق في الاشتقاق.