4 جمادى الأولى 1429 - 10/05/2008
يمثل خطاب العقيلة زينب سلام الله عليها في الكوفة أول صرخة علنية في وجه السلطة الاموية على واقعة الطف تصدر من أهل البيت (عليهم السلام).
فكانت الصرخة المدوية التي كشفت الزيف والتضليل الذي رافق الحملة الأموية ضد أهل البيت عليهم السلام وأسقط الأباطيل التي نشرها الإعلام المرتزق حيث نشروا قصة الخارج على أمام زمانه وأن يزيد لعنه الله هو ولي أمر المسلمين والحسين عليه السلام خارج عليه ...فمن الناس من صدق هذه المزاعم الباطلة سذاجة منه أو رغم عنه أو بالتهديد.
وتكمن أهمية هذا الخطاب في أنه موجه للمجتمع المسؤول عن ما حدث بصورة مباشرة وهو المجتمع الكوفي..والخطاب أيضاً يعتبر الجولة الأولى في معارك السيدة زينب سلام الله عليها ضد الاجرام والظلم الأموي..
من هنا لابد من قراءه الخطاب قراءة متأنية واعية ، وتسليط الأضواء على بعض آفاق ذلك الخطاب الهام:
أولاً : تحمل المجتمع الكوفي المسؤلية المباشرة عما حدث للامام الحسين وأهل البيت وعن مصير الثورة المقدسة، فالكوفيون هم الذين كاتبوا الحسين(عليه السلام ) وألحوا عليه بالقدوم اليهم ، وبايعوا سفيره مسلم بن عقيل ، فكيف خذلوا الامام وتخلوا عنه، واستسلموا لسياسة الترهيب والترغيب الاموية ؟.
ثم إن الجيش الذي زحف لقتال الامام ، وصنع تلك الجريمة الكبرى ، كان في أغلب قياداته وجنوده من أبناء المجتمع الكوفي . .
وبعد كل ما حدث لماذا يتفرج الكوفيون على نتائج الأحداث ، وهم يرون رأس الامام الحسين ورؤوس أهل بيته(عليهم السلام) مرفوعة على رؤوس الرماح تخترق شوارع بلدتهم ، ويشاهدون نساء الحسين(عليه السلام) وعيالاته أسارى وسبايا بين ظهرانيهم ، فلماذا السكوت والخنوع والصمت على كل ما يجري ؟ وماذا ينتظرون لكي تتحرك غيرتهم الدينية وشيمتهم العربية ؟ .
لذلك تنقل الرواية التي
تضمنت الخطاب قول الامام زين العابدين ( عليه السلام ) معلقاً على بكاء نساء أهل الكوفة : « إن هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا فمن قتلنا » ؟ .
وهذا ما ركزت عليه السيدة زينب في خطابها، إذ اعتبرت أهل الكوفة مسؤولين بشكل مباشر عن الفاجعة ، ووجهت اليهم أشد التوبيخ والذم.
فقالت عنهم : « أهل الختل والغدر » والختل هو الخداع ، والغدر هو الخيانة ونقض العهد ، فأهل الكوفة بدعوتهم الامام للقدوم اليهم وبمبايعتهم له والتزامهم بنصرته ثم التخلي عنه بل والمشاركة في قتاله قد مارسوا أسوأ أنواع الخداع والخيانة ونقض العهد . . واعتبرتهم السيدة زينب نموذجاً وتطبيقاً للمثل المعروف عن المرأة الحمقاء التي كانت تغزل مع جواريها الى انتصاف النهار ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ، وهذا دأبها كل يوم . . وهو مثل ذكره القرآن الحكيم : ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً )
وكأن السيدة زينب بقولها : « إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا » تشير الى أن أهل الكوفة قد تكرر في تاريخهم وواقعهم أنهم يقفون الى جانب الحق ويقدمون التضحيات ، لكنهم وفي ذروة الصراع مع أهل الباطل يتراجعون وينسحبون ، ويضيعون بذلك جهودهم وتضحياتهم ومستقبلهم ، حصل ذلك في موقفهم مع الامام علي حيث خاضوا معه معركة الجمل ومعركة صفين ، وحينما لاح فجر النصر لهم بعد تضحياتهم الكبيرة استجابوا لخدعة معاوية برفع المصاحف وطلب التحكيم ، فاغتالوا بذلك انتصارهم وأعطوا الفرصة لعدوهم . . وكرروا ذات الموقف مع الامام الحسن حيث بايعوه والتفوا حوله وزحفوا معه لمواجهة تمرد معاوية لكنهم لما حانت ساعة المواجهة تخاذلوا وهدموا بذلك صرح الشرعية والقيادة الذي بنوه ببيعتهم للامام الحسن . . ومع الامام الحسين مارسوا نفس الطريقة والحالة ، فهم قد بايعوا الامام وأقدموه اليهم ، وكادت الكوفة أن تستعيد دورها القيادي بخضوها لسفير الامام مسلم بن عقيل ، لكنهم في اللحظات الأخيرة والحساسة ، بدّدوا كل تلك الآمال ،
واغتالوا مستقبلهم ومستقبل الأمة . . اذاً فهم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ، وزينب بهذا التمثيل تحاكي ما قاله أبوها من قبل لذات المجتمع حين قال : « أما بعد : يا أهل العراق ، فإنما أنتم كالمرأة الحامل حملت فلما أتمت أملصت ، ومات قيمها ، وطال تأيمها ، وورثها أبعدها » أوليست زينب تفرغ عن لسان أبيها ؟ كما قال الراوي . . وتوجه زينب لهم التهمة بصراحة ووضوح في فقرات عديدة من خطابها : « فلقد ذهبتم بعارها وشنارها » . . « ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم » . . . « لقد جئتم شيئاً إدّاً » ، « ولقد جئتم بها حرقاء شوهاء » . .
ثانياً : التركيز على نقاط ضعف المجتمع الكوفي ومساوئ أخلاقه : فالجريمة لم تنطلق من فراغ ، وإنما هي نتيجة طبيعية لتلك الأخلاقيات المنحرفة . . .
وتنبههم الى أبرز مساوئ أخلاقهم بقولها : « وهل فيكم الا الصلف والنطف ، والكذب والشنف ، وملق الاماء، وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة ، أو كقصة على ملحودة » .
و« الصلف » : هو التمدح بما ليس في الذات أو فوق ما في الذات اعجاباً وتكبراً
ومن يقرأ رسائل الكوفيين للامام الحسين ، وكلماتهم أثناء مبايعتهم والتفافهم حول سفيره مسلم بن عقيل ، والتي ادعوا فيها اخلاصهم وتفانيهم واستعدادهم للتضحية فداءاً للامام الحسين ، وأكدوا فيها تصميمهم على مقاتلة الأعداء وإلحاق الهزيمة بهم . . ومن يلاحظ حقيقة موقفهم وواقعهم فيما بعد تجاه الامام الحسين ، يرى بوضوح أنهم يتصفون بالصلف كما قالت عنهم السيدة زينب ، وقد سبقها أبوها الامام علي في اكتشاف هذه الصفة السلبية للمجتمع الكوفي في قوله لهم: « كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء ! تقولون في المجالس كيت وكيت، فاذا جاء القتال قلتم : حيدي حياد ».
ولا غرو فإنها تفرغ عن لسان أبيها . . أما « النطف » فهو التلطخ بالعيب ، أو القذف بالفجور و« الشنف » بالتحريك البغض والتنكر . .
وتشير السيدة زينب الى ابتلائهم بمرض التملق المفرط « ملق الاماء » فالأمة التي لا حول لها ولا قوة تجد نفسها مضطرة الى إبداء أعلى درجة من الخضوع والطاعة والانقياد لسيدها ، وتبالغ في جلب ودّه ورضاه ، والمجتمع الكوفي كان كذلك في تعامله مع السلطة المهيمنة عليه آنذاك . .
و « الغمز » الطعن بالشر . .
« كمرعى على دمنة أو كقصة على ملحودة » تشير بذلك الى حالة الازدواجية التي كان يعاني منها المجتمع الكوفي ، فظاهره حسن يغري بينما ما تنطوي عليه النفوس سيء خبيث ، وتشبههم بالزرع الأخضر في مكان أوساخ الحيوانات وفضلاتها « مرعى على دمنة » ، وبالقبر المجصص ظاهره بالجص الجميل المنظر ، ولكن ماذا في حفره القبر غير الرفاة المتفسخة لجسد الميت « كقصة على ملحودة » . .
ويعلق السيد المقرم على هذه الفقرة بقوله: والذي أراه أن النكتة في هذه الأستعارة : ان القصة بلغة الحجاز الجص ، والملحودة القبر لكونه ذا لحد ، فكأن القبر يتزين ظاهره بياض الجص ولكن داخله جيفة قذرة ، وأهل الكوفة وإن تزين ظاهرهم بالإسلام ، الا أن قلوبهم كجيف الموتى بسبب قيامهم بأعمال الجاهلية الوخيمة العاقبة من الغدر وعدم الثبات على المبادىء الصحيحة ، وقد أنفردت « متممة الدعوة الحسينية » بهذه النكات البديعة
التي لم يسبقها مهرة البلغاء اليها ، لأنها ارتضعت در « الصديقة الكبرى » التي أخرست الفصحاء بخطابها المرتجل .
ثالثاً : توضيح أبعاد الفاجعة : فما حدث في كربلاء لم يكن أمراً سهلاً، وليس شيئاً عادياً بسيطاً، إنه كارثة مروعة، وفجيعة عظمى، وجريمة نكراء.
والسلطة الحاكمة قد تحاول تبسيط ما حدث، فهو تمرد على النظام اضطر الجيش الى قمعه ليس إلا ! ! لكن السيدة زينب في خطابها أوضحت للناس الأبعاد الحقيقية لما حدث حين قالت: « فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها ابداً ».
إن الفظائع التي ارتكبت في كربلاء بحق أهل البيت(عليهم السلام) تمثل جريمة نكراء سودت وجوه وتاريخ أصحابها بالعار والشنار وهو أقبح العيب ، ولا يمكن ازالة وتطهير آثار تلك الجريمة أبداً .
ثم تخاطبهم قائلة: ويلكم يا أهل الكوفة ! أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم » .
فبالمقياس الديني أنهم قد اعتدوا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فالحسين سبطه وحبيبه والعزيز على قلبه، وعيال الحسين وثقله ، هم حرمة رسول الله . . ألم يقل الرسول الكريم محمد ( صلى الله عليه وآله ) حسين مني وأنا من حسين فكيف يسمحون لأنفسهم كمسلمين أن يقترفوا ذلك ؟ .
إنها جريمة في مستوى الشرك بالله (سبحانه) لذلك تصفها السيدة زينب بما وصف به القرآن شرك الكافرين وادعاهم أن لله ولداً: ( وقالوا اتخذ الرحمن ولداً * لقد جئتم شيئاً إدّاً).
كما تشير السيدة زينب الى أنهم مارسوا الجريمة بأكبر قدر من الحقد والبشاعة: « ولقد جئتم بها خرقاء وشوهاء ».
وتثبت السيدة زينب (عليها السلام) في خطابها قضية تداولت في نقلها بعض المصادر من أن السماء أمطرت دماً يوم مقتل الحسين(عليه السلام) ، وحينما تقول ذلك السيدة زينب يصبح أخباراً حقيقياً صادقاً، وهي بذلك تذكر من قد يكون غافلاً عن الربط بين القضيتين أي قتل الحسين، وإمطار السماء دماً، كما تخلد هذا الحادث للتاريخ والأجيال.
رابعاً: منزلة الحسين ومقامه: لابد وأن الإعلام الأموي المرتزق سيسعى جاهداً للتقليل من شأن الحسين والأفتراء على شخصيته ، كما حصل لأبيه الإمام علي (عليه السلام) ، لذلك ركزت السيدة زينب في خطابها على التأكيد على منزلة الحسين ومقامه فهو: « سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شاب أهل الجنة » .
خامساً : الأنذار بالأنتقام : فعدالة الله ( تعالى ) تأبى أن تمر تلك الجريمة النكراء دون عقاب يتناسب مع خطورتها لكن العقاب قد لا يأتي فورياً « فلا يستخفنكم المهل فانه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثأر وإن ربكم لبالمرصاد » .
وكان الإنتقام الالهي من قتلة الحسين(عليه السلام ) ومن المجتمع المتواطئ معهم شديداً وقوياً ، حيث لم يعرف ذلك المجتمع بعدها أمناً ولا استقراراً .